إذا كان الموسيقي الروسي شوستاكوفيتش قد تحدث في مذكراته التي لم تنشر إلا بعد رحيله، عن أن ستالين حين أراد عشية الحرب العالمية الثانية أن يساير هتلر وقد وقّع معه ما يشبه اتفاقية عدم اعتداء وحسن جوار، لم يجد من وسيلة لذلك سوى تقديم عرض كبير في البولشوي يتجسد في إمتاع أهالي موسكو بعمل من أعظم أعمال ريتشارد فاغنر الأوبرالية، فإن قائد الأوركسترا المعاصر لنا والذي اشتهر بتأسيسه فرقة موسيقية يشترك فيها عازفون فلسطينيون وإسرائيليون معاً كتعبير عن رغبة في السلام تقوم في خلق دولتين، لم يفته أن يهاجم الصهيونيين بسبب عدائهم لفاغنر نفسه وسعيهم الدائم لمنع تقديم أعماله في الدولة العبرية. والواقع أن فاغنر يبقى على رغم مرور قرن ونيّف على رحيله، قضية مطروحة لنقاشات صاخبة. لكن اللافت أكثر من هذا هو أن فاغنر حتى في حياته كان ذات مرة موضع سجالات عنيفة، في فرنسا تحديداً وليس لأسباب فنية وطبعاً ليس لاعتباره "نازياً" ففي ذلك الحين لم تكن النازية قد ولدت بعد ولا الصهيونية. ومع ذلك كان السجال سياسياً وتحديداً من حول موقف فاغنر من العدوان الألماني على فرنسا عند بدايات سنوات السبعين إثر اندلاع كومونة باريس، واستياء القوميين الفرنسيين من كتابات له تناول فيها ذلك الصراع بين البلدين من موقع التشفي بالهزيمة الفرنسية.
"استسلام باريس"
والواقع أن فاغنر كان هو الذي بدأ يومها حكاية الخصام مع الفرنسيين ولأسباب لم تبد واضحة أول الأمر على الإطلاق. ففي عام 1873 وبعد عامين من الهزيمة المرة التي منيت بها انتفاضة الكومونة بفعل تدخل القوات البروسية الألمانية ضد الثوار نشر فاغنر مقالاً جارحاً وساخراً حول ما أسماه "استسلام باريس"، وما إن نشر المقال وعرف الباريسيون به حتى ثارت ثائرتهم وليس لأيام وأسابيع بل لسنين طويلة وعلى الأقل بين 1873 و1887، إذ صار يحدث في كل مرة يقام فيها حفل تعزف خلاله أعمال لفاغنر، أن تنطلق التظاهرات ضده بهدوء أحياناً وبصخب في أحيان أخرى. لكن الغريب في الأمر أنه لئن بدا الموسيقيون وأهل المسرح في أقصى حالات الغضب ضد هذا "الألماني الذي كنا نستقبله ونسمع موسيقاه بحب وترحاب، ها هو يظهر ضدنا عداء لا مبرر له"، فإن الأدباء والكتاب بشكل عام لم يقفوا وقفة عنيفة ضد موسيقي الأوبرا الألماني الكبير بل راحوا يدافعون عنه بقوة أحياناً. ومهما يكن من أمر فإن المعركة الفرنسية من حول الموقف من فاغنر سرعان ما اتخذت كالعادة في فرنسا شكل صراع بين اليمين واليسار: اليمين ولا سيما المتطرف منه يصخب ضد فاغنر ويشتمه مع أن هذا اليمين كان معادياً أصلاً للكومونة، فيما اليسار المثقف يدافع عنه على رغم انتماء هذا اليسار إلى الكومونة.
تبجيل العدو
ففي البداية كتب الناقد غرانموجين في عام 1873 نصاً بعنوان "تخطيطة حول ريتشارد فاغنر" يمتدح فيها موسيقى الرجل محاولاً أن يفصل إبداعه عن مواقفه السياسية أو حتى الحياتية. ونشر المؤرخ الفني شوريه جزءاً ثانياً من دراسته الكبرى "الدراما الموسيقية" كرسه كله في عام 1875 لفن فاغنر تحت عنوان "ريتشارد فاغنر، إبداعه وفكره". وهو نص جعل من شوريه المطلق الأول في فرنسا لأيقنة مهرجان بايريت الذي كان فاغنر قد أسسه حديثاً. وفي ربيع عام 1880 تجمع نحو مئة من المتحمسين لفن فاغنر في محترف المصور نادار حيث راحوا يتبادلون الإشادة بفنه. وفي عام 1882 قبل عام من رحيل فاغنر بعيداً من ذلك الصخب المجنون كله، وفي وقت نشرت فيه الكاتبة جوديث غوتييه كتاباً استقبل استقبالاً جيداً بعنوان "ريتشارد فاغنر وعمله الشاعري" كان مئات "القومجيين" الفرنسيين يصخبون في الشارع شاتمين فاغنر. وهم أنفسهم سوف يعودون أضعافاً مضاعفة بعد ذلك وحتى بعد رحيل فاغنر عن عالمنا لمناسبة تقديم أوبراه "لوهنغرين" في باريس، صارخين "الموت لفاغنر!" مكررين ما كان فعله في عام 1861 وقبل كل تلك الأحداث بربع قرن أعضاء نوادي الجوكي حين تظاهروا ضد تقديم مبكر لأوبرا فاغنر "تانهاوزر" في باريس نفسها.
العين بالعين إذاً
فأولئك وقبل أن يتخذ فاغنر مواقفه الساخرة ضد الفرنسيين، ولأسباب لم تتضح هي الأخرى أبداً، وفي ردود فعل لا يمكن بأية حال عزوها إلى اختلاف الأذواق الفنية لدى أولئك المتظاهرين عما اعتاد الذوق الفرنسي العام أن يكون عليه، وفي تصرفات تتناقض تماماً مع الكياسة المعهودة لدى الفرنسيين، راحوا يصفرون ويصخبون حتى داخل الصالة. فهل لنا إزاء هذا كله أن نفترض صحة ما أشار إليه بعد ذلك غلاة المدافعين عن الموسيقار الألماني الكبير، من أنه في مقالته الساخرة حول "استسلام باريس" إنما كان يثأر لنفسه ولو بعد حين؟ في مطلق الأحوال، لم يكن ثمة مبدع فرنسي حقيقي كبير بين المتظاهرين والصاخبين، وإن كان كثر من الموسيقيين الكبار قد تمسكوا بمواقفهم المعادية لموسيقى فاغنر "الباردة الشمالية والبطيئة" والتي تتناقض مع ما كانوا هم يسعون إلى إنتاجه من موسيقى ذات مزاجات متوسطية وجبلية شعبية، مقابل موسيقى فاغنر الأسطورية ذات النفس الجرماني، وكان هذا على رغم الحماسة الكبيرة التي أبداها الشاعر والناقد شارل بودلير، وبخاصة تجاه أوبرا "تانهاوزر" التي كان مقاله المقرظ لها قد أثلج صدر فاغنر باكراً وهو الذي كان يتساءل قبل ذلك عما لا يحبه الفرنسيون في موسيقاه. ومن هنا، كما يبدو كان رد فعله عنيفاً يوم انهزمت الكومونة. ولكن كان من سوء طالع فاغنر، أو بالأحرى من سوء طالع عشاق موسيقاه الفرنسيين، أنه لم يعش حتى عام 1885. فهو لو عاش حتى ذلك العام لأثلج صدره من جديد عند بدايات شهر فبراير (شباط) من ذلك العام، مشهد ما كان من شأنه أن يحلم به: فعند مدخل ما كان يعرف حينها بـ"كونشرتات لاموريه" راح شاب لا يتجاوز عمره الرابعة والعشرين يبيع بنفسه نسخاً من العدد الأول من تلك المجلة التي أصدرها ومولها بنفسه بعنوان "المجلة الفاغنرية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في رحاب الفكر الفاغنري
كان اسم الشاب إتيان دوجاردين وهو أصدر تلك المجلة بمساعدة كاتب صديق له يدعى ثيوفيل دي فيزيفا، والهدف منها كما جاء في افتتاحية ذلك العدد الأول الذي استقبله كبار المثقفين الفرنسيين بترحاب، "إبراز السمات الفلسفية والرمزية للإبداع الفاغنري". ولقد كان لافتاً في مقالات المجلة محاولة كتابها ضم توجهات فاغنر الفلسفية والموسيقية بالتالي إلى التيار الرمزي الذي كانوا من مؤيديه. وعلى رغم قدر كبير من التشجيع ناله العمل فإن النقد الجاد وكما يخبرنا بعد ذلك بقرن من الزمن مؤلف أرخ لتلك المجلة، رأى أن تلك المجلة تفتقر إلى وحدة التوجه وعلمية التحليل. وبدا على صانعيها أنهم غير قادرين على فهم أن "لا شخصية فاغنر، ولا دلالة عمله الإبداعي ولا معانيه يمكن تبريرها بمثل تلك السهولة وتحديد هويتها". لكنهم أجمعوا على أن ما يشفع لدوجاردين تمتعه بعد كل شيء بذوق أدبي وفني رفيع "تجلى، ودائماً بحسب المؤرخ المعاصر لنا، في نشره إلى جانب الدراسات حول فاغنر، لوحات يغلب عليها الطابع الرمزي من رسم فانتين – لاتور وأوديلون ريدون وجاك إميل بلانش وبوفيس دي شافان، وغيرهم من غلاة رمزيي تلك المرحلة. ولقد كان لافتاً أيضاً أن المجلة دعت الأصدقاء ومحبي فن فاغنر من الشعراء إلى كتابة قصائد تمجد فنه. ولن تتورع عن نشر وإعادة نشر مقالات لكتاب فرنسيين كبار تتناول فن فاغنر بتوقيع بودلير وجيرار دي نرفال، كما نشرت منذ عددها الأول "افتتاحية تانهاوزر" لهويسمان و"أسطورة بايريت" لفيلييه دي ليل آدم، وتوجت ذلك كله بنص رائع لستيفان مالارميه عنوانه "ريتشارد فاغنر، حلم يقظة لشاعر فرنسي". ولعل الملاحظة الصائبة في هذا المجال تلفتنا إلى الطابع الأدبي لمقالات المجلة والذي يغلب كثيراً على طابعها الموسيقي. ولكن في الأحوال كافة، لو كان فاغنر نفسه حياً وشاهد أعداد تلك المجلة أفما كان من شأنه أن يعلق قائلاً وقد غمره شعور بالندم على كتابته "استسلام باريس"، ولكن الألمان أبناء جلدتي لم يتحفوني في حياتي بمثل هذا التكريم؟