هو أمر لم يكن من عادته في ذلك الحين أن يحدث كثيراً في عالم الفنون الاستعراضية. فقد كانت قد جرت العادة على أن يكون تحويل عمل إبداعي ما، سواء كان مسرحية أو أوبرا أو مغناة من نوع "الميوزيكال" أو حتى رواية أو قصة، إلى عمل سينمائي، الحالة الأخيرة التي يتجسد بها ذلك العمل بعد تجواله بين عدة أصناف إبداعية. ومن هنا كان حدثاً كبيراً مع بدايات القرن الجديد حين تحول الفيلم الذي كتبه وحققه الهزلي الهوليوودي ميل بروكس عام 1967، بعنوان "المنتجون" إلى تلك "الكوميديا الموسيقية" التي على رغم النجاح الهائل الذي حققه فيلمها تنبأ لها كثر بالفشل. فما يصح على الشاشة، ليس من الضروري أن يكون له حظ على الخشبة. ومن هنا كان تردد ميل بروكس كبيراً بل مبرراً حتى، حين فاتحه صديق له منتج في برودواي بعد حوالى ربع قرن من ظهور فيلم "المنتجون" بأن الوقت قد حان لتحويله إلى مغناة. ففي نهاية الأمر كان بروكس عندذاك، أي في عام 2001 تحديداً يعيش على أمجاده القديمة بعدما خبا نجمه إلى حد كبير ولم يبق له لدى معجبيه سوى ذكرى ذلك الفيلم الذي لا يروق له بأية حال من الأحوال أن يسمح لأي تحديث بتغيير صورته الباقية من الأيام الخوالي. ولكن "شيطاناً ما" كما سوف يقول راح يشتغل في رأسه. ولما تمكن منه ذلك "الشيطان" اتصل بروكس برفيقه القديم الذي شاركه العمل على الفيلم جيري هيرمان عارضاً عليه الفكرة طالباً منه أن يتولى الإخراج.
"إنه عملك وحدك"
لكن هيرمان صرخ في وجهه قائلاً إن هذا العمل الإبداعي "لا يملكه أي شخص آخر سواك، لذا إما أن تتولى إخراحه بنفسك وإما أن تنسى الحكاية كلها وتظل كسولاً تعيش على أمجاد ماضيك حتى تموت". وأضاف هيرمان قائلاً بثقة: "بل إنك أنت الذي ستشرف على تصميم الرقصات وتكتب أغنيات العرض وتلحنها مع كل الموسيقى الإضافية التي لا بد منها". وهكذا اشتغل هذا "الشيطان الجديد" وولدت مغناة "المنتجون" التي ستحقق من النجاح طوال سنوات تالية وحتى الآن بعد عقدين من عروضها الأولى، بشكل سيبدو معه النجاح التجاري للفيلم القديم شيئاً عفا عليه الزمن. وهو أمر لا بأس من اللجوء إلى حديث الأرقام هنا لتوضيحه. فهذا "الميوزيكال" بعدما قدم في 33 عرضاً تمهيدياً في ربيع عام 2001 في برودواي نقل إلى قاعة سانت جيمس العريقة حيث بدءاً من 19 أبريل (نيسان) من ذلك العام نفسه، عرض 2500 عرض متتال من بطولة ناثان لين وبرودريك كراوفورد، ما جعله يدنو من المراكز الأولى بين أطول العروض المسرحية الغنائية عمراً في تاريخ هذا الفن في برودواي. وهو إلى هذا ضرب الرقم القياسي في ترشيحه لجوائز طوني، حيث رشح لـ12 جائزة أساسية نالها كلها. ثم راح يلف مدن الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرها طوال عامين من دون توقف. ومن الطريف في الأمر أن السينما عادت مرة أخرى إلى هذا العمل لتقتبسه عام 2005 في فيلم جديد "يتميز" عن ذاك القديم بأنه مقتبس عن "الميوزيكال"! وهكذا اكتملت الدائرة على أطرف ما يكون وميل بروكس أول الذاهلين.
بعد تردد طويل
فالحقيقة أن هذا الفنان حين أبدع فيلمه "المنتجون" قبل ذلك بسنوات طويلة إنما فعل ذلك متردداً إذ كان في أوج نجاحه وأحس أنه يغامر من خلال فيلم كل ما أراده منه هو أن يثأر به لنفسه من الفساد والنفاق واللصوصية المستشرية بشكل عام في دنيا الاستعراض. وأمام تلك الرغبة التي كانت تداعب خياله وتخيفه في الوقت نفسه، بدا في النهاية غير مهتم باستثارة غضب المنتجين وأصحاب الرساميل منه. قال لنفسه: "أحتال عليهم وأحققه وسيغفرون لي". وهو حققه لكنه لم يكن بحاجة إلى غفرانهم بل إنهم غمروه بقبلاتهم. فهم أنفقوا على الفيلم قروشاً استعادوها ملايين عدة. وستكون الحال كذلك بالنسبة إلى "الميوزيكال" الذي أضاف فيه بروكس إلى مواهبه المعهودة كممثل وكاتب من طراز رفيع، مواهب جديدة كمخرج استعراضي ومؤلف موسيقى شعبية وكاتب أغاني، وصاحب مبادرات خلاقة. ولكن عمّاذا، بعد كل شيء يتحدث "المنتجون"؟
في دهاليز عالم الإنتاج
عن منتجي الفنون الاستعراضية بكل بساطة. عن أولئك القابضين على الأموال التي من دونها لا يمكن للاستعراضات أن تتحقق. والمحققين بفضل استثماراتهم أرباحاً قد تكون طائلة وقد تكون بسيطة. لكنها أرباح على أية حال، لأنها إن لم تتحقق لن يعودوا إلى الإنتاج. وهنا لدينا منهم إثنان انتهيا من تقديم العرض الافتتاحي لاستعراض موسيقي غنائي عنوانه "فتى مضحك" مقتبس عن "هاملت" شكسبير. لكن النتيحة أتت كارثية ما أرعب أول المنتجَيْن ماكس بياليستوك، الذي كان يلقب في الماضي بـ"ملك برودواي" فإذا به اليوم على شفير الهاوية. في اليوم التالي يقابله المحاسب ليو بلوم ليشتغل معه على حسابات العرض الذي تقرر إيقافه. ويتبين من خلال ارتباك في الحساب أن ثمة فائضاً بعد الخسائر مقداره ألفي دولار. على الفور يفكر الرجلان معاً: ها هو الإخفاق يعود علينا بالربح أكثر من النجاح. وتولد لديهما فكرة تنطلق من عقلية ماكس: ماذا لو نقدم استعراضاً يكون الأسوأ في تاريخ برودواي، نجمع لتمويله مليوني دولار من متمولات متحذلقات ثم نجعله يخسر ونهرب بالأموال إلى ريو؟! يا لها من فكرة! يصرخ ليو وينطلق للبحث عن أسوأ مخرج في المدينة ليحقق لهما أسوأ استعراض وهما يغنيان معاً "يمكننا أن نفعلها!" ولا سيما بعد أن يكون رئيس ليو الآخر السيد ماركس قد وصل ليؤنبه واصفاً إياه بالحثالة. وإثر ذلك ينشد ليو أغنية "أريد أن أصبح منتجاً". ولا يلبث أن يبحث مع ماكس عن ضالتهما ليجداها في شخص المدعو روجير دي بري الفنان الغريب الأطوار الذي قيل لهما إنه يفي بالغرض لأنه أفشل مخرج في تاريخ برودواي. ويستقبلهما روجير وسكرتيرته كارمن مخبريهما أن ثمة بين أيديهما استعراضاً بعنوان "ربيع من أجل هتلر" من تأليف ضابط ألماني نازي سابق يدعى فرانتز ليبكيند. وحين يلتقي المنتجين الأشوسين بفرانتز على سطح بيته يوقعان معه عقداً على تحقيق الاستعراض شرط أن يضيف إليه واحدة من الأغنيات التي كانت تنشد لمجد الفوهرر. فيقبل، بل يوافق كذلك على أن يضيف "قسم سيغفريد" المعتمد نازياً إلى حوارات المسرحية. وهكذا تستحكم الحبكة ويتقرر البدء في العمل ولا سيما بعد مشهد تدخل فيه فاتنة سويدية تدعى أولا إلى مكتب ماكس للقائه مع شريكه بحثاً عن عمل وما إن يراها الإثنان حتى يتفقا معها وقد وقعا تحت سحرها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
احتيالات وسجن
يبدأ المشهد الثاني بالسويدية أولا وقد وجدت نفسها وحيدة مع ليو في المكتب، وعلى الفور تنشأ بين الاثنين علاقة من وراء ظهر ماكس. المهم أن العمل يبدأ باختبارات للعثور على من سيلعب دور هتلر. يخفق الجميع لإجادتهم الدور بالنظر إلى أن ليس ثمة ما هو أسهل من تقليد هتلر. لكن المطلوب ممثل يخفق في أدائه. ولا يترددان في النهاية عن القبول بفرانتز لاعباً للدور. ولكن في ليلة الافتتاح يحدث أن فريتز يكسر ساقه وهو ينزل سلماً، ثم يكسر ساقه الأخرى. ويعم الضحك الصالة. ولكن في مكتب ماكس يسود الهلع هذا الأخير وليو إذ يتبين لهما أن العرض قد حقق نجاحاً إذ تعامل معه الجمهور كعمل هزلي ضاحك. ومعنى هذا أن خطة المنتجين الأصلية قد فشلت. ويتوالى تبادل الاقتراحات بينهما حتى اللحظة التي يهرب فيها ليو بالأموال إلى ريو وفي رفقته أولا تاركاً شريكه وحيداً ضحية لنجاح المسرحية. ويجن جنون ماكس الذي سرعان ما يُقبض عليه بجرم الاحتيال ويسجن. لكن ليو يعود بعد فترة وقد صحا ضميره ليعيد المال إلى أصحابه ويدافع عن ماكس أمام المحكمة معرباً عن حبه الشديد له وعن عجزه عن فراقه فيقول له القاضي: "سأجعلكما تبقيان معاً" ثم يسجنه معه، لكن الشريكين يقدمان في السجن أمام اللصوص والقتلة والمغتصبين مسرحية عنوانها "سجناء الهوى" مليئة بالمرح والفكاهة ما يجعل الحاكم يعفو عنهما فيخرجان ليتحولا بفضل ذلك النجاح إلى ملكين في برودواي ولا سيما حين يكون إنتاجهما الأول هناك مسرحية عنوانها "سجناء الهوى" من تمثيل روجير وأولا...
