يقول المؤرخ والكاتب السياسي عماد الدين باقي إن مجمل ما سقط من قتلى وضحايا نتيجة القمع والقتل الذي مارسه النظام الملكي الشاهنشاهي ضد الحركات السياسية بمختلف انتماءاتها وتوجهاتها الدينية والليبرالية واليسارية منذ عام 1963 وحتى انتصار الثورة عام 1979، أي على مدى قرابة عقدين من الزمن، لا يتعدى رقم 2600 شخص.
هذا الرصد بالأسماء الذي قام به باقي في كتابه "تاريخ الثورة" لم يلغ الأساليب الأخرى التي كانت تلجأ إليها أجهزة النظام الملكي في التعامل مع الناشطين السياسيين أو الأشخاص الذين يشكلون خطراً على النظام والحكم من خلال الملاحقة والاعتقال والإبعاد الداخلي "نفي داخل البلاد" في حين عمد عدد من هؤلاء الناشطين إلى الهروب خارج إيران وطلب اللجوء في الدول الغربية.
الشاه وأجهزته الأمنية، بخاصة جهاز "السافاك"، أدركا أن الخطر الذي يهدد سلطتهما يأتي من مصدرين أساسيين هما القوى والأحزاب اليسارية والثورية، ومن الجماعات والتشكيلات الدينية. وقد ترسخت هذه القناعة بعد أحداث وصول محمد مصدق إلى منصب رئاسة الوزراء وإعلان تأميم النفط وإجبار الشاه على الخروج من إيران، ولم يعد إليها إلا بعد تدخل أجهزة الاستخبارات الأميركية والبريطانية وتحريك الشارع ضد مصدق بعد اتهامه بالتحالف مع الحزب الشيوعي والجماعات اليسارية.
وتعتبر مرحلة ما بعد عام 1952 وإسقاط حكومة مصدق مرحلة مفصلية في سلطة الشاه وحكمه، إذ أطلق يد أجهزته الأمنية في ملاحقة المعارضين بمختلف انتماءاتهم ولم يبادر إلى فتح أي باب للحوار معهم، أو حتى الاعتراف بوجودهم. وقد برز ذلك بوضوح في تعامله مع الحركة الاعتراضية التي قام بها رجل الدين في حوزة قم الدينية روح الله الخميني عام 1963 في مواجهة خطة الإصلاح الزراعية والتنمية الاجتماعية التي أطلق الشاه عليها اسم "الثورة البيضاء، إذ لم يتردد في الذهاب إلى خيار العنف للتصدي للتجمعات التي نظمتها مجموعة من رجال الدين والمؤيدين للخميني في مدرسة الفيضية، ومن ثم الحكم على الخميني بالإعدام الذي خففه إلى النفي لتركيا بعد تدخل المرجعيات الدينية التي منحت الخميني صفة مجتهد لحمايته، مستخدمين المادة القانونية التي تمنع إعدام من يحمل هذه الصفة الحوزوية.
وعلى رغم وجود جماعات بين المعارضة كانت تؤمن بالعنف المسلح من إسلاميين مثل فدائيي خلق بزعامة نواب صفوي ويساريين وأبرزهم جماعة مجاهدي خلق الذين قدموا تركيبة فكرية تمزج بين الفكرين الديني واليساري الشيوعي، إلا أنها لم تستطع فرض خيارها على كل المعارضة التي حولت نشاطها إلى المجالات الاجتماعية، مستفيدة من سياسة النظام الملكي الذي أطلق الحريات الاجتماعية والثقافية والشخصية لبناء قواعدها الشعبية وتوسيع نفوذها داخل المجتمع الإيراني.
وإذا كان من الصعب التسليم بالرواية الرسمية للنظام الإيراني بأن الثورة التي انتصرت عام 1979 كانت نتيجة التوجهات الدينية حصرياً، إلا أن المؤسسة الدينية وبما تتمتع به من نفوذ اجتماعي عملت على استبعاد وإخراج كل القوى الأخرى الشريكة في الثورة والمعارضة من دائرة القرار بعملية تدريجية، استخدمت فيها كل الوسائل الأمنية والسياسية والدينية لتفرض نفسها وتعطي للثورة بعداً واحداً دينياً ينسجم مع رؤيتها للسلطة والحكم.
واستفادت المؤسسة الدينية من تجربتها منذ الحكم الملكي في التعامل مع القوى السياسية المغايرة لها، سواء الإسلاميين الليبراليين بشقيهم "حركة تحرير إيران" بزعامة مهدي بازركان و"الحركة الوطنية" بزعامة يد الله سحابي، وحتى جماعات الإسلام المتطرف، أو تيارات اليسار في الحزب الشيوعي "توده" واليسار الإسلامي كجماعة "مجاهدي خلق" التي دخلت في صراع مسلح مع الثورة في محاولة للانقلاب على القوى الإسلامية ونزع السلطة منها، وهو الذي سمح للنظام وأجهزته والمؤسسة الدينية بالتعامل معهم بالعنف الشديد وملاحقتهم وإعدام من يقع في قبضة الأجهزة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإذا ما كانت أجهزة الثورة ونظامها، استطاعت إخلاء الساحة من كل المعارضين لمصلحة توجهات المؤسسة الدينية، بعدما وظفتهم في تمرير المرحلة الانتقالية "حكومة بارزكان" ومجلس قيادة الثورة، إلا أن هذه الأجهزة وتطبيقاً لسياسات ورؤية النظام، دخلت في سياسة التضييق على الحريات الخاصة والشخصية من بوابة فرض الأحكام الشرعية والدينية على المجتمع والفرد. فبدأت بفرض الحجاب في الإدارات الرسمية، ثم تمددت هذه السياسة لتنتقل من الإطار الخاص إلى الإطار العام باعتماد الحجاب الإلزامي، بحيث باتت شوارع المدن تشهد منذ عام 1983 ظاهرة دوريات مسلحة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باسم "ثار الله" التي تشكلت من عناصر اللجان الشعبية الخاضعة لإشراف حرس الثورة. واختفت معها آخر مظاهر التنوع في الشارع.
وإدراكاً منها لدور الحريات الشخصية والسياسية والتعددية الحزبية في الحياة السياسية للنظام، ومن منطلق التجارب التي مرت بها في العهد الملكي، لم تتردد المؤسسة الدينية التي استطاعت الإمساك بالسلطة والدولة، في تجريم العمل الحزبي الذي لا ينسجم مع رؤيتها وتوجهاتها، ثم انتقلت إلى محاولة تطويع المجتمع الإيراني، فتدخلت في كل تفاصيله وحياته الشخصية واليومية بفرض الزي الموحد على المرأة بارتداء "المانتو" والحجاب، مروراً بالرجل الذي منع من ارتداء ربطة العنق باعتبارها نموذجاً للثقافة الغربية وصولاً إلى ملاحقة المنازل التي تقيم سهرات خاصة واقتحامها.
لا شك في أن المجتمع الإيراني استطاع اجتراح أدواته التي تساعده في الالتفاف على سياسات النظام الاجتماعية والثقافية وحتى السياسية. ودخل في تحد واضح لإرادة الأجهزة المعنية بتطبيق هذه السياسات، وحتى للرؤية الأيديولوجية والعقائدية للنظام والسلطة. وقد ساعدت في ذلك حاجة النظام المرحلية إلى القبول بهذه الحقائق في سياسة لإلهاء المجتمع وإشغاله بقضايا يومية لصرف أنظاره عن تفاقم الأزمات الاقتصادية التي دخل فيها النظام جراء سلسلة من العقوبات الدولية المتدرجة التي فرضت عليه نتيجة سياساته الإقليمية والدولية. وهي أزمات فجرت كثيراً من الحركات الاحتجاجية في السنوات الأخيرة، وشكلت تحدياً حقيقياً للنظام وأجهزته التي لجأت إلى القمع والقتل، وكان آخرها عام 2019 على خلفية رفع أسعار المشتقات النفطية.
هذه التراكمات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية تجمعت على مدى العقود الأربعة وانفجرت في الأسابيع الأخيرة نتيجة الشرارة التي أطلقتها قضية مقتل الفتاة مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق، وهي حركة تقع خارج توقعات النظام وأجهزته لأنها تعبير عن افتراق واضح في البعد الثقافي بين شرائح واسعة من المجتمع والنظام، أضاف على تعقيدها عجز النظام عن امتلاك لغة قادرة على التفاهم مع الجيل الشاب الذي لا يعترف بكل موروث الآباء ولا تردعه كل وسائل القمع وأساليبها، لأنه لا يرى سوى الاستمرار في حراكه للوصول إلى ما يريد بغض النظر عن الأثمان التي ربما يدفعها أو النتائج التي سيؤدي إليها هذا الحراك.