Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"قم وعيّن حارسا" لهاربر لي رواية ضائعة أم مسودة؟

لماذا سكتت صاحبة تحفة "لقتل عصفور ساخر" نصف قرن ثم أفاقت على اكتشاف محيّر؟

غريغوري بك في "لقتل طير ساخر" (موقع الفيلم)

أمران لا ثالث لهما عرفت بهما الكاتبة الأميركية هاربر لي، على صعيد الرأي العام العالمي المهتم بالأدب الأميركي، أولهما كونها جارة الكاتب ترومان كابوتي وصديقته التي رافقته خلال عمله على كتابه "بدم بارد" الذي افتتح به لوناً جديداً من ألوان الصحافة الاستقصائية كما أزال الحدود بين فن الرواية وفن التحقيق الصحافي فكانت هي على الدوام المدافعة عنه والمشجعة له لحظات يأسه وقلقه من ناحية، ومن الناحية الثانية كونها صاحبة رواية ظلت تعتبر روايتها الوحيدة طوال نصف قرن من الزمن وأكثر هي "لقتل عصفور ساخر" التي بلغت من القوة والنزاهة إلى حد أن فرضتها السلطات التربوية الأميركية ليقرأها الطلاب الأميركيون في صفوفهم. فهذه الرواية تعتبر في أميركا قمة في الأدب المناهض للعنصرية وتقارن دائماً بتلك الرواية المناهضة قبلها بقرن للعنصرية أيضاً والرائدة في هذا المجال، "كوخ العم توم" لهارييت بيتشر ستو، مع فارق أساسي يكمن في أن "لقتل عصفور ساخر" كانت أكثر حدة في مفعولها إذ ظهرت في عام 1960 حين كانت المسألة العنصرية تعصف بالمجتمع الأميركي وتهزه في أعماقه، عدا عن تميزها بعنف نضالي لا تعود معه "كوخ العم توم" أكثر من نص إنساني لطيف. ولعل كثراً من مشاهدي الأفلام الاجتماعية الأميركية التي كثر إنتاجها في سنوات الستين لا ينسون أبداً الفيلم الذي حقق عن "لقتل طير ساخر"، والذي قام ببطولته غريغوري بك فكانت له بفضله سمعة كبيرة كفنان مؤمن بالقضايا الكبرى.

حكاية وراء الرواية

ومهما يكن من أمر هنا، قد يكون من الطريف أن نروي حكاية تتعلق بولادة رواية هاربر لي الأولى، إذ لا شك أنها قد تلقي بعض الضوء على الحكاية التي سنرويها هنا وتتعلق بما بعد "لقتل عصفور ساخر". فهاربر لي لم تكن قد نذرت نفسها في البداية لتصبح روائية. فهي المولودة عام 1926 لأم لم تكن سوى ربة منزل بل لا تؤمن حتى بأن على البنات أن يكنّ شيئاً آخر، ولأب كان ناشراً ثم تفرغ للمحاماة، درست وترعرعت في مونروفيل بولاية آلاباما جارة لتومان كابوتي الذي ستقول أنه كان يسحرها باكراً بحكاياته لكنها أبداً لم تعتقد أنها ستكون مثله يوماً. وهي بعد أن درست الحقوق تحولت للإقامة في نيويورك تعمل في مهن صغيرة متفرقة. لكنها كانت في جلسات مع الأصدقاء ومنهم كابوتي، تتفنن في ابتكار حكايات كان من بينها ذات مرة حكاية عن جريمة حصلت في آلاباما خلال سنوات الثلاثين وكانت هي لا تزال في أول مراهقتها. جريمة اغتصاب اتهم بها شاب أسود ظلماً وقام أبوها بالدفاع عنه في وجه رأي عام محلي كان رهيباً في إصراره على سحل الفتى من دون وازع ولا اهتمام بمواقف المحامي الأب الذي إذ عجز عن جعل القوانين – وكانت عنصرية بشكل مخجل – تسانده في مهمته، وجد نفسه يجابه العنف بالعنف دفاعاً عن الفتى الأسود المظلوم. وخلال روايتها تلك الحكاية التي كان واضحاً أنها قد تركت عليها آثاراً عميقة، كانت هاربر تتوقف دقائق لتصف المناخ العنصري الكئيب الذي كان سائداً في ذلك الحين وتبدي أسفها لكون الأمور لم تتبدل كثيراً بعد.

مفاجأة من الرفاق

والحقيقة أنه كان ثمة في أسلوب هاربر لي في حكي هذه القصة والإمعان في سرد التفاصيل والتعبير عن موقفها المتعاطف مع بطولة المحامي الذي علم الجميع درساً في النزاهة والإنصاف، ما جعل رفاقها يخبئون لها مفاجأة كبيرة لعيد ميلادها المقبل. فقد جمعوا في ما بينهم مبلغاً لا بأس به من مال يساوي مرتبات العمل الذي كان يقيم أودها طوال عام بأكمله. وهم يوم عيدها قدموا لها المبلغ شرط أن تتوقف عن أي عمل وتنصرف إلى كتابة ما كانت تحكيه لهم. حدث ذلك في عام 1957 وانصرفت الفتاة إلى الكتابة لكن الرواية التي انتهت نهاية رائعة استغرقتها ثلاث سنوات ستضحك لاحقاً وتقول إن المبلغ الذي قدمه لها الرفاق كفاها للعيش تلك السنوات الثلاث. وهكذا ولدت "لقتل عصفور ساخر" وانتشرت انتشاراً هائلاً وكانت جائزة بوليتزر وكانت حقوق اقتباسها سينمائياً فتضافر المال مع المجد و... سكتت هاربر لي عن الكلام المباح نصف قرن بل 55 عاماً إذا إردنا التدقيق. سكتت ولكنها حين نطقت أخيراً لم تنطق بصوتها بل بلسان ناشرها النيويوركي وفي حضور محامية الكاتبة التي قد باتت حينها سيدة عجوزاً تعيش في مأوى غير راغبة، ظاهرياً على الأقل، في الحديث عن ماضيها الأدبي. فما الذي أعلنه الناشر النيويوركي؟ لقد كان متوقعاً لهاربر لي أن تتابع حياتها الإبداعية في عالم الرواية بعد ذلك العمل الأول الكبير ولا سيما أن جائزة بوليتزر كانت في انتظارها فور صدور الكتاب فنالتها عام 1961. هو أمر ندر أن تحقق لكاتب منذ روايته الأولى. لكن الذي حدث هو أن هاربر لي توقفت إثر ذلك النجاح عن خوض أية تجربة تالية. أو هذا ما خيّل للجميع وراحت هي تردده إلى سنوات قليلة مضت على الأقل. إذ في ذلك اليوم من عام 2015 وفيما الكاتبة تسير بخطى حثيثية إلى مئويتها الأولى، أعلن الناشر فجأة عن اكتشاف قلب العديد من الأمور في هذا السياق. ولم يكن الاكتشاف أقل من نفض غبار السنين عن مخطوطة ظهرت من حيث لا يتوقع أحد عنوانها "قم وعيّن حارساً" بقلم... هاربر لي.

رواية أخرى أم رواية جديدة؟

وهكذا أعلن الناشر بكل بساطة أنه بصدد نشر رواية أخرى لهاربر لي. ولم يقل بالطبع، رواية جديدة. فصاحبة "لقتل عصفور ساخر" لم تكتب بالفعل أية رواية جديدة. كل ما في الأمر أن محاميتها تونيا كارتر، وجدت صدفة، كما قالت الحكاية الرسمية، مخطوطاً فيما كانت تقلب في أوراق موكلتها بناء على طلب هذه الأخيرة، يتضمن نصاً فهمت على الفور أنه لم ينشر من قبل. ولكن كان واضحاً أنه من كتابة هاربر وكان المخطوط مربوطاً بنسخة مطبوعة على الآلة الكاتبة من رواية "لقتل عصفور ساخر". ويبدو أنه لم يمس منذ أنجزت طباعته آخر سنوات الخمسين. وقالت المحامية أن موكلتها أنكرت الحكاية كلها وهي تبتسم حين أخبرتها بالأمر. ولكن النص بدا دليلاً قاطعاً على أن هاربر لي هي الكاتبة بخاصة أن النص حين قرئ، تبين أنه يستكمل الرواية الأولى. وذلك من خلال متابعة رواية ما يجري مع "سكوت" وهو اللقب الذي يطلق على الفتى جان لويس فينش، الذي جعلته هاربر لي راوياً للحكاية بدلاً من أن تكون هي نفسها راويتها، أي حكاية ذلك الأب المحامي البطل. ففي النص الجديد ها هو الفتى بعد أن أصبح شاباً يعود إلى آلاباما ليزور أباه آتيكوس الذي يمضي الآن تقاعداً هادئاً. لكن الابن يُفاجأ بأن الأب الذي بذل الكثير من الجهد والوقت والأعصاب وذاق كل المخاطر كي يدافع عن الأسود المتهم بالاغتصاب، تحول الآن تماماً، وبات يقول شيئاً آخر ـ شيئاً على النقيض التام مما كان يبرر به دوافعه النزيهة والإنسانية في الماضي. فما الحكاية؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أسئلة شائكة

انطلاقاً من هذا السؤال بدأت على أية حال سلسلة تكهنات لا نهاية لها، وكانت البداية مع من رأوا في الأمر تلاعباً ما ونفوا أن تكون هاربر لي قد خبأت نصاً يزيد عدد صفحاته على 330 صفحة طوال نصف قرن من دون أن يبدوا فهماً حقيقياً لما جرى. والبعض قالوا إن النص المكتشف مجرد جزء من مسودة قديمة فضل الناشر في ذلك الحين قصها من الرواية الأصلية قصد الإبقاء على المعنى السياسي "القابل للرواج". وهناك فريق آخر ذهب إلى أن هاربر قد تكون كتبت ذلك النص في فورة مزاج ما لكن ناشرها وأصدقاءها نصحوها بعدم نشره لأنه سينسف كل سمعتها. وفي النهاية إذاً نشرت الرواية الجديدة ولقيت رواجاً مؤكداً بل إن ثمة فيلمين أو ثلاثة أفلام استوحتها وتحديداً بالنسبة إلى القلبة التي تحكي خيبة أمل المحامي بعد سنوات كفاحه الطويلة. والنتيجة أن هاربر لي بقيت تعتبر صاحبة أقوى رواية اجتماعية عن العنصرية في الأدب الأميركي الحديث فيما فضل كثر ألا يقرأوا "قم وعين حارساً" فإن قرأوها تغافلوا عن ربطها بـ"لقتل عصفور ساخر"، وانتهت الحكاية هنا بخاصة أن هاربر لي نفسها رحلت عن عالمنا بعد عام من صدور روايتها "الثانية" فهل تراها حملت معها إلى القبر سراً ما؟.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة