شاعر وكاتب مسرحي، أوسكار كوكوشكا (1886 ــ 1980) هو قبل أي شيء أحد أكبر وجوه الفن الحديث. وسواء بحياته الصاخبة أو بإنجازاته الفريدة، إنه أيضاً أحد أفضل الشهود ليس فقط على الثورات الفنية والفكرية التي شهدها وطنه، النمسا، وأوروبا عموماً خلال القرن العشرين، بل أيضاً على الاضطرابات والحروب التي أدمت هذه القارة خلال القرن المذكور. فنان تحوّل بسرعة، بسلوكه الاستفزازي الراديكالي، واستثماره قوة الفن التحرّرية والتخريبية، إلى طفل فيينا الرهيب بلا منازع.
لكن هذا العملاق الذي قاوم بشراسة، داخل فنه وفي مواقفه الناريّة الجريئة، جميع توتاليتاريات عصره، ما زال غير معروف كما يستحق ليس فقط في عالمنا العربي، بل حتى في فرنسا التي أقام مراراً فيها، حيث لم يحظ بمعرض فردي كبير إلا مرةً واحدة، مضى عليه أربعة عقود، وحين عُرِضت أعماله في ما بعد، كان ذلك في معارض مكرّسة للحياة الفنية في فيينا خلال عصرها الذهبي، كسفت فيها شهرة مواطنيه غوستاف كليمت وإيغون شيليه عبقريته. من هنا أهمية معرضه الاستعادي الحالي في "متحف باريس للفن الحديث" الذي يطمح إلى رفع الغبن الذي تعرّض له عبر مقاربته مختلف مراحل مسيرته الإبداعية المجيدة من خلال أكثر من 150 لوحة ورسم.
الفرار الدائم
وتجدر الإشارة بدايةً إلى أن هذه المراحل ترتبط بالأماكن التي أقام ونشط كوكوشكا فيها: فيينا طبعاً حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، ثم برلين في عام 1916، فدريسدن التي بقي فيها حتى عام 1923، قبل أن يدشّن مرحلة طويلة من الترحال داخل أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط، انتهت عام 1932 بعودته إلى فيينا التي اضطر مجدداً إلى مغادرتها عام 1934 إلى براغ، ثم إلى الفرار من هذه المدينة، إثر احتلال الرايخ الثالث تشيكوسلوفاكيا، فاستقرّ في بريطانيا من 1938 إلى 1946، قبل أن يبدأ مرحلة ترحال جديدة ختمها على ضفة بحيرة ليمان في سويسرا حيث مكث حتى وفاته.
تنقُّل كوكوشكا الدائم لا يعكس فقط مدى تأثّر حياته بالأحداث الكبرى التي شهدها زمنه، بل أيضاً مشاركته الحادّة فيها. فعام 1914، تجنّد طوعاً للمشاركة في الحرب. وانطلاقاً من عام 1933، ناضل علانيةً ضد النازيين، ما أدى إلى إدراج هؤلاء بعض أعماله الفنية ضمن معرض "الفن المنحطّ" عام 1937، وإلى قيام أحد ضباط الغستابو بتمزيق إحدى لوحاته بالسكين في فيينا. وفي براغ ولندن، شارك بحماسة في الجمعيات المناهضة لنظام هتلر. وبعد فترة قصيرة من التعاطف مع الشيوعية السوفياتية، سرعان ما خاب أمله فيها، فندّد بتوتاليتاريتها، محافظاً حتى رحيله على موقف عدائي صارخ من جميع أنواع العنف والطغيان.
بالتالي، من النادر العثور على فنان يضارع كوكوشكا في عمله السياسي الصاخب ونجاحه في استفزاز أعراف مجتمعه وزعزعتها. ولمنح مثال عن حسّه التحريضي، نستحضر تلك الدمية بحجم بشري التي انبثقت من خياله الجامح بجسدٍ مُشعِر، وثديين دائريين، وأظافر مشذّبة على شكل مخالب، ووجه وحشي. مخلوقة ساحرة تمثّل في الواقع ألما ماهلر، أرملة الموسيقي غوستاف ماهلر، التي عشقها عباقرة كثر، وربطتها بكوكوشكا علاقة حبّ جنوني، قبل أن تتخلى عنه. وهو ما جعله يبتكر هذه الدمية ويصطحبها في كل تنقلاته، إلى الأوبرا كما إلى الحانة، قبل أن يعمد إلى تقطيعها في حديقته، في أحد المساءات، ضمن أداء فنّي هستيري أرعب جيرانه واستحضر عناصر الشرطة إلى داره.
رغبات وجنون
على المستوى التشكيلي، لفت "كوكوشكا المجنون" (لقبه في فيينا) الانتباه أولاً بسرده استيقاظ الرغبات الجنسية لدى المراهقين في قصيدته المصوَّرة "الصبية الحالمون" (1908) التي أهداها لصديقه الوفي، كليمت، وصدمت الكثيرين داخل وطنه. وبسببها، وصفه النقّاد بـ "الوحشي"، فردّ على هذا الوصف بحلق رأسه بغية منح ذاته مظهر خرّيج سجون. وبسرعة، نصّب نفسه رسّام بورتريهات لمجتمعه "المتكلّف والخبيث"، فاستثمر ميله إلى الألوان الباروكية وإلى التمثيل الملتوي والمتصدِّع للجسم البشري (الذي تبنّاه إيغون شيليه) لفضح آفات أفراد هذا المجتمع، ومن خلال ذلك، رسمِ ملامح قارّة أوروبية محكومة بأبشع الأقدار. وفي هذا السياق، تمكّن بمهارة لا تضاهى من إسقاط داخل لوحاته دواخل موديلاته، التي لم تكن دائماً تتلقّى ذلك بسعادة، مثل الطبيب النفسي السويسري أوغست فوريل الذي رفض شراء البورتريه الذي رسمه له، معتبراً أنه "لا ينتمي إلى الفن بقدر ما ينتمي إلى مجال طب الأمراض العقلية".
بعد ذلك، دشّن كوكوشكا في عمله مرحلة جديدة يطبعها بحثٌ محدَّد غايته سبر لغز الرسم القادر، على رغم ركيزته المسطّحة (الورقة أو القماش)، على تمثيل الأشياء بأبعادها الثلاث، فلجأ إلى تلوين مكثّف وألوان نيّرة كان يُسقِطها بلمسات حيّة تجعلها تبدو وكأنها تطفو في الفضاء. وانطلاقاً من عام 1919، في دريسدن، بحث عن أشكال تعبيرية جديدة تقع على نقيض تلك المستثمَرة داخل الحركات المعاصرة له، كالتعبيرية والموضوعية الجديدة والتجريد. ولدى وصوله إلى براغ عام 1934، ثم خلال الحرب العالمية الثانية، استخدم أسلوباً انطباعياً "كيتش" يزهو بالألوان، كردّ على الوضع السياسي الكارثي في أوروبا، ويستحضر الأسلوب الذي طوّره رينيه ماغريت في الفترة نفسها. أسلوب أنجز بواسطته لوحات مجازية تلامس المحاكاة الساخرة فيها التهريج الفظ.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي الخمسينيات، انغمس في الأساطير القديمة والتراجيديات الإغريقية بحثاً عن خميرٍ مشترك للشعوب الأوروبية التي مزّقتها الحرب. لكن على رغم انخراطه الصريح في عملية إعادة التشييد والمصالحة الدائرة، بقي فن الرسم بالنسبة إليه، حتى وفاته، وسيلة تخريبية فاعلة وضرورية.
باختصار، أثبت كوكوشكا على طول مسيرته الفنية عن حسّ ابتكاري مدهش يضارع في ثماره وجانبه الانقلابي إنجازات الحركات الطلائعية التي بقي على مسافة منها. أثبت أيضاً عن راديكالية قاطعة وتنوّع كبير في عمله. تنوّع في الوسائط يتجلى في معرضه الحالي من خلال لوحاته الزيتية التي تجاور مطبوعات حجرية (lithographies) ومائيات ورسوم مرصودة لتزيين الكتب وملصقات وصور فوتوغرافية... وتنوُّع في الموضوعات المقارَبة، كما تشهد على ذلك عشرات البورتريهات التي أنجزها لنفسه ولأصدقائه، ويتّسم الخط فيها بطابع كاريكاتوري يُمسِك بالجانب المقلِق للكائن البشري؛ واللوحات المشهدية التي يطبعها تأملٌ عميق في وظيفة الألوان، من دون أن ننسى اللوحات السياسية القارصة وتلك المرصودة لتمثيل حيوانات.
وبالنتيجة، كوكوشكا ليس فقط نموذجاً مثالياً للفنان الثوري الحرّ والمتعدد المواهب، بل أيضاً ذلك الذي تمكّن، على حد قول أحد النقاد الفرنسيين، "من إعادة خلط الأوراق داخل فن الرسم، بـقريحته المبلبِلة في حيويتها"، ومن فرض أعماله كمرجع "للتمييز بين اللوحة الجيدة واللوحة السيئة".