يعتبر المغرب من البلدان العربية ذات الهويات الغنائية المركبة، كون هذا التعدد أعطى للبلد سمة موسيقية، يكاد المرء لا يعثر إلا على بعض منها داخل البحر الأبيض المتوسط.
وبسبب الموقع الجغرافي المميز للبلد، وانفتاحه على مناطق مختلفة من العالم، جعل مجمل موروثه الموسيقي ينطبع بخصوصيات تاريخية استطاعت أن تنصهر مع موسيقى الآخر، وكونا معاً خليطاً موسيقياً عجيباً ومتنوعاً.
ووفق مجموعة من المتخصصين في الشأن الموسيقي المغربي، فإن تعدد موسيقى المغرب يرجع أساساً إلى تنوع واختلاف جغرافيته. بحيث نعثر على الموسيقى الكلاسيكية، كامتداد عميق للموسيقى الشرقية وقد اتخذت صبغة مغربية عصرية مع كل من عبدالهادي بلخياط ومحمد الحياني ونعيمة سميح وعزيزة جلال وغيرهم. ومن ثم نعثر على
موسيقى الراي والركادة والعرفة والطرب الأندلسي والموسيقى الأمازيغية والعيطة والطقطوقة الجبلية وغناوة وسواها من الأنماط الموسيقية التي يشتهر بها المغرب، التي تجعل صورته الفنية في وجدان الآخر دائمة الغنى والتجدد.
تاريخ حافل
تجدر الإشارة أنه لا علاقة للموسيقى الشعبية المغربية بالحضارات الكبرى التي تعاقبت على حكم بلاد المغرب، ولكن ما هو مؤكد أن هذا النمط الموسيقي ظهر مع بوادر الاحتلال الأجنبي للبلد منذ نهاية القرن الـ19. فقد برزت بشكل كبير خلال فترة الحماية، حيث كانت بعض ملامح الموسيقى الشعبية متأججة في البوادي داخل الأعراس والحفلات والمناسبات.
من مهرجان للفنون الشعبية (مواقع التواصل)
وبحسب بعض الموسيقيين، فإن ما يميز الموسيقى الشعبية أن كل لون موسيقى له علاقة أساساً بجغرافية محددة، حيث تنطبع بملامحها وخصائصها. كما اتفق أهل الموسيقى والطرب، كون أن طابعها التلقائي هو الذي يقود الناس إلى الاستماع إليها والرقص على أنغامها وإيقاعها. فهذا الأسلوب التلقائي في نظرهم، يعد أحد العوامل المهمة التي ساهمت في ذيوع الموسيقى الشعبية ولها قدرة كبيرة على ممارسة سحرها.
بدأت الموسيقى الشعبية في الوهلة الأولى، تعبر بشكل خاص عن الأحداث التاريخية وإحياء لذكرى بعض الأعياد والمناسبات، لكنها استطاعت أن تتحول بقوة صوب الأعراس، إذ ستصبح أكثر ذيوعاً من قبل. لكن ما ساعد هذه الموسيقى والأغاني في الانتشار داخل القرى والبوادي، أنها لم تكن مكتوبة ومؤسسة على علم قائم، بل تم حفظها وتداولها شفهياً من جيل إلى آخر، كما هي الحال مع فن العيطة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أغاني بدوية
في المقابل، يعتبر الباحث حسن نجمي المتخصص في غناء العيطة أنها "شعر شفوي وموسيقى تقليدية مغربية، كما أنها فن للأداء وجزء لا يتجزأ من الموسيقى التقليدية التي تتجاوز 52 نوعاً في المغرب. إلا أن هذه الفسيفساء الموسيقية التقليدية بأشعارها وأنساقها الموسيقية، قد أهملت طويلاً"، لذلك يرى نجمي أنه لا توجد حتى لآن "استراتيجية وطنية تعيد الاعتبار لهذه الموسيقى التقليدية"، بالتالي نحن "في حاجة داخل النسق الفني الوطني، من أجل تحقيق وحدة وطنية على أسس ثقافية، ضرورة الرجوع إلى الاهتمام بالمكونات الموسيقية التقليدية".
المغنية خربوشة (مواقع التواصل)
وتحولت بعض هذه الأغاني الشعبية من المدن صوب البوادي، حتى أصبحت أداة لإدانة الواقع السياسي، لما غدت تلعبه من دور فعال في نقد قوى الاستعمار والتابعين له من القواد المغاربة وبعض أعوان السلطة مثل المقدم والشيخ والقائد. ويبرز ذلك جلياً في أغنية "خربوشة" المرأة التي انتفضت على قائد القبيلة خلال القرن الـ19 احتجاجاً على الظلم الذي أبان عنه في سلوكه وتفكيره وتعامله السيئ مع سكان القبيلة.
وكانت خربوشة أول من انتقد القائد بأغنية شعبية، ظلت موشومة في الذاكرة الجمعية الشعبية في تاريخ المغرب الحديث. بعدما أعادت المغنية المغربية الشابة سكينة فحصي الاشتغال عليها وتطويعها جمالياً، بأداء صوتي مبهر ووفق نمط موسيقي غربي معاصر، يستخدم الآلات الحديثة، فاعتبرت إلى حدود اليوم إحدى مظاهر هذا النموذج الغنائي الشعبي القوي والصارخ في وجه السلطة خلال سنوات خلت. لذلك يعتبر أحد رواد فن العيطة المغني حجيب فرحان بأن أغنية "خربوشة" تعتمد في صياغتها على "زمان ومكان وحادثة وشخصية وعلى ميلودية موسيقية بارعة".
فرقة ناس الغيوان المغربية (مواقع التواصل)
إلى جانب فن العيطة، مثلت تجربة "ناس الغيوان" صرخة قوية ضد القهر وأسقطت موسيقاهم معها كل الخوف الذي يستبد بالشعور الجمعي المغربي، وأعلنت أن التحرر عقيدة أنطولوجية لا مفر منها. لهذا يعتبر الباحث حسن حبيبي أن موسيقى ناس الغيوان "مدرسة وانتماء، بل وشكل من البروفايل الموسيقي المغربي خلال السبعينيات. بحيث لا يمكننا الحديث اليوم عن انتماء إلى الفن المغربي من دون الحديث عن ناس الغيوان". إذ اعتمدت موسيقاهم على آلات تقليدية عتيقة كـ "الهجهوج" و"السنتير" و"الكمبري" و"الحراز" و"الدربوكة". وهي آلات تستوحي روح الموسيقى الشعبية، يتم مزجها بكلمات صوفية أكثر تجذراً في الذاكرة الغنائية المغربية.
إن هذا السحر الذي مارسته الموسيقى الشعبية، شحذ وجدان ملايين من الأفراد وقادهم إلى التفكير في تظاهرات سياسية واجتماعية، وذلك احتجاجاً على العنف والقهر والظلم الذي عاشوه بسبب غلاء المعيشة وزيادة الأسعار. فالموسيقى الشعبية آنذاك، قادت المجتمع صوب التحرر والتفكير ضد التيار التقليدي الذي كان سائداً آنذاك، الذي حاول مراراً طمس الهوية الموسيقية الشعبية، لولا جرأة هذه الموسيقى، في اختراق مكبوث المجتمع وتخليصه من براثن التقليد.
سحر الموسيقى الشعبية
لهذا يجد المستمع المغربي لذة كبيرة في العودة للنمط الموسيقي الشعبي الذي ظهر مع "الفرق الغنائية" مع كل من "ناس الغيوان" و"جيل جيلالة" و"المشاهب" و"السهام" و"تكادة" و"عبيدات الرمى". وعلى رغم البعد السياسي الذي طبع الفرقة خلال سبعينيات القرن الماضي، لم يؤثر ذلك سلباً في نظر كثير من الموسيقيين على مسار موسيقاهم وأغانيهم، بل وجد المغاربة في هذه الفرق امتداداً عميقاً لذواتهم المكلومة ونفوسهم الموجوعة، بسبب الظلم والحيف والقهر الذي عانوا منه خلال السبعينيات من طرف السلطة.
لقد خرجت موسيقى هذه الفرق من الأحياء الفقيرة والدروب المنسية والهوامش القصية واخترقت بشعبيتها كل الآفاق. هكذا أصبحت موسيقاهم موضة عصرية لجيل بأكمله يتغنى بها الفلاحون في أسواقهم والشعراء في مقاهيهم والطلبة في جامعاتهم واليساريون في مقار أحزابهم.
وعلى رغم امتعاض الناس على وسائل التواصل الاجتماعي من طبيعة الموسيقى الشعبية اليوم، إذ غدت أشبه بمستنقع من الوحل، لا سيما وأنها لم تحقق أية نهضة فنية تذكر. فلا غرابة أن نعثر على أنواع من الموسيقى الهجينة الرتيبة التي من دون معنى. فلا هي حافظت على قوالب و"أصول" الموسيقى الشعبية، ولا ركبت موجة التحديث، وذلك من خلال اجتراح أفق جمالي أكثر تطلعاً إلى حداثة الآلة الموسيقية.