بينما يمضي اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان في طريقه، بخاصة بعدما أعلن الرئيس اللبناني ميشال عون موافقة بلاده على الاتفاق، بعد مفاوضات مكثفة قادتها واشنطن، في خطوة وصفها عون بأنها "إنجاز تاريخي". يقفز تساؤل حول إمكان تكرار هذا السيناريو بين إسرائيل وقطاع غزة.
وتشهد الساحة السياسية الإسرائيلية حالاً من التجاذب، بسبب تصعيد المعارضة الإسرائيلية بزعامة رئيس الوزراء السابق نتنياهو في مواجهة تمرير الاتفاق الراهن وتعويمه سياسياً، والدفع نحو إجراء استفتاء شعبي حول مضمون الاتفاق، أو تمريره من داخل الكنيست، والاكتفاء بذلك.
وعلى رغم عدم وجود شريك تفاوضي مباشر يعمل كوسيط بين إسرائيل وحماس، مثلما يجري بالنسبة إلى الجانب الأميركي، الذي ما زال في واجهة الأحداث، لكن يبقى السؤال هل يمكن تكرار النموذج؟ وما قيوده وإطاره وإشكالياته الحقيقية؟
نموذج مختلف
يتضمن بحر غزة ثمانية حقول غاز على الأقل، أهمها حقل "غزة مارين"، ويشمل احتياطي تريليون قدم مكعب، وتبلغ كلفة تطويره نحو 1.2 مليار دولار. ويعتبر صندوق الاستثمار الفلسطيني الجهة الوطنية المسؤولة عن تطوير الحقل، لكنها لم تتمكن منذ اكتشافه من استخراج غازه بسبب الرفض الإسرائيلي.
ويوجد حقل مشترك بين الحدود البحرية الجنوبية لإسرائيل والبحرية الشمالية لقطاع غزة يعرف باسم "ماري بي"، وجرى اكتشافه عام 2000. واستغلت إسرائيل هذا الحقل في توفير إمدادات الغاز لمحطات الطاقة لديها منذ 2004، إلى أن تسببت في تجفيفه بالكامل في 2010. وحقل "نوا"، وتشترك إسرائيل وقطاع غزة في بنيته الجيولوجية، ويمتد إلى أعماق حدود القطاع البحرية. ويقدر مخزون الغاز فيه بنحو ثلاثة تريليونات قدم مكعب، وحقل "المنطقة الوسطى" ويبعد مئات الأمتار عن شاطئ بحر المنطقة الوسطى لغزة.
وفي المقابل تمتلك إسرائيل ثمانية حقول للغاز هي "تمار 1"، و"تمار 2" غرب حيفا، و"لفياثيان 1 و2 " غرب يافا، و"سارة وميرا" غرب نتانيا، و"ماري" قرب غزة، و"شمن" قرب أسدود، وحقل "كاريش" غرب حيفا.
تباين لافت
في السياق السابق تختلف الحالة اللبنانية مع حالة قطاع غزة، فالتفاوض مع لبنان يجري مع دولة، ومع قطاع غزة، حيث لا توجد سلطة رسمية معترف بها دولياً، وما هو موجود وقائم حركة تحكم وفق سياسات الأمر الواقع وبالقوة الجبرية، والسلطة الفلسطينية المعترف بها دولياً لا تسيطر على جزء من الأراضي الفلسطينية التي تعمل وفق اتفاق أوسلو الحاكم للعلاقات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، وإن ما جرى سابقاً في ملف التعامل الفلسطيني - الإسرائيلي جرى في ظل السلطة، وليست حماس التي تحكم القطاع منذ سنوات ما بعد الانقلاب على السلطة الفلسطينية.
حماس ليست بعد مفوضة بإدارة الأوضاع المتخصصة داخل قطاع غزة من قبل السلطة، ولا تزال تتعامل كفصيل فلسطيني يحكم في القطاع وفقاً لسياسة الأمر الواقع، وإن كانت قبلت بالتعامل معه إسرائيل من خلال الوسطاء الدوليين في مفاوضات وقف إطلاق النار من دون أن تعترف به طرفاً رسمياً، وأن آليات التعامل الرسمي تجري عبر استراتيجية تقوم على فكرة الواقعية السياسية ليس أكثر، ومن ثم فإن السلطة الفلسطينية المنوط بها أي تفاوض محتمل أو مقترح.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بدأت المفاوضات بين لبنان وإسرائيل منذ سنوات، ولا تزال قائمة بين شد وجذب، وأوشكت على الحسم على رغم كل التجاذبات الراهنة على الجانبين. وفي المقابل فإن السلطة الفلسطينية لم تتحمس في التعامل مع الملف بجدية، بل من خلال تأكيد أنها الطرف المعني والمباشر في هذا الإطار، وليس أي فصيل حتى لو كان هذا الفصيل "حماس"، لكن هذا الأمر لم يمنعها من إبرام اتفاق مع مصر، لتطوير وتحسين حقل الغاز المستهدف أمام سواحل القطاع.
إن مسؤولية السلطة الفلسطينية أصيلة في إدارة وضع الأراضي الفلسطينية بأكملها، وليس القطاع وحده، بخاصة أن السلطة الفلسطينية لا تزال تباشر مهماتها في توفير متطلبات القطاع المالية، وتوفير ذلك من واقع المخصصات المقدرة في الموازنة الفلسطينية المحددة، التي ترسم طبيعة العلاقات بين القطاع المارق، وفق الرؤية القانونية، وبين السلطة الفلسطينية الحاكمة.
عدم وجود تحمس إقليمي للدخول في مفاوضات بشأن حسم ملف الغاز أمام سواحل غزة في ظل حال التنازع الراهنة، وفي ظل تصاعد الأولويات البديلة مع تأكيد أن الوسيط المقترح لدخول حلبة التفاوض الفلسطيني والإسرائيلي سيكون مصرياً، على أن السلطة الفلسطينية سبق أن طالبت بترسيم الحدود الفلسطينية مع تركيا ومصر، في إشارة مهمة لتأكيد الحضور الفلسطيني في مسار ما يجري في شرق المتوسط من تطورات تطول استراتيجيات رسم الحدود رسمياً، وهو ما جرى مصرياً مع قبرص واليونان مثلاً، فيما لم تُحدد بعد الحدود البحرية بين مصر وإسرائيل، وكذلك بين منتدى دول شرق المتوسط التي ينظم العضوية العاملة لدول الإقليم، وفي إطار منتدى غاز المتوسط الذي تحول إلى منظمة إقليمية محددة، وبحسب مقاربة مصلحية بين دول المنطقة.
الوضع الراهن
توجد محاولات سابقة للتعامل على منطقة التنازع بين مناطق التماس في قطاع غزة وبين إسرائيل من جانب ومصر من جانب آخر، وهو ما لم يحسم بعد، وسيظل محل تجاذب إذا دخلت الأطراف المعنية على خط التفاوض وفقاً لقاعدة المصالح المشتركة، وفي ظل الاستفادة من تجربة التفاوض الراهنة بين لبنان وإسرائيل، وفي ظل وجود طرف لبناني مناوئ ممثلاً في حزب الله.
ومعلوم أن المناطق البحرية التي تطالب بها الدول للاستغلال التجاري بالمنطقة الاقتصادية الخالصة، ويحكمها في العادة قانون الأمم المتحدة للبحار أو الاتفاقات الثنائية بين الدول المجاورة التي تتفق في العادة على حدود تقع على مسافة واحدة من سواحلها، وبموجب مفهوم المنطقة الاقتصادية الخالصة يحق للدولة أن تمارس بشأنها حقوق الاستغلال والتنقيب عن الموارد البحرية، ويحددها القانون الدولي بـ"200 ميل بحري" من خط الأساس البري للدولة، وهو الخط الذي يحدد الفاصل بين اليابسة والبحر الخارجي، وتودع كل دولة من دول العالم لدى الأمم المتحدة مجموعة إحداثيات نقاط تحدد خط الأساس لتلك الدولة.
يشير المشهد الراهن بين قطاع غزة وإسرائيل إلى أن استمرار شكوى السلطة الفلسطينية من الممارسات الإسرائيلية بشأن الاستمرار في عمليات التنقيب عن الغاز في بحر غزة لاستخراجه والاستفادة منه، فضلاً عن عرقلة إسرائيل أي مساع لعقد اتفاقات ذات علاقة بالملف. في ظل استيراد الجانب الفلسطيني 93 في المئة من احتياجاتهم من الطاقة الكهربائية من إسرائيل بمعدل 850 ميغاواط للضفة الغربية و120 ميغاواط لقطاع غزة.
تحركات السلطة
كانت السلطة الفلسطينية منحت عمليات التنقيب في تلك المنطقة الواقعة بالقرب من غزة إلى تحالف مكون من شركة "بي جي" التابعة في ذلك الوقت إلى بريتيش غاز البريطانية، قبل استحواذ شركة شل عليها، وصندوق الاستثمار الفلسطيني وشركة اتحاد المقاولين، بعقد استكشاف مدته 25 عاماً.
وتشير التقديرات إلى أن حقل غزة مارين يحتوي على أكثر من تريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي، مع إمكان إنتاج غاز بمعدل 1.5 مليار متر مكعب سنوياً من حقلي الغاز معاً.
ويشار إلى أنه وبعد اكتشاف حقل غزة مارين مباشرة، بدأت المفاوضات بين السلطة الفلسطينية، وشركة بي جي البريطانية طرفاً، والحكومة الإسرائيلية طرفاً آخر، للتنسيق بينهما في إطار اتفاق أوسلو الذي يعطي الحق للفلسطينيين في استخراج الثروات من الأراضي التابعة لها.
سبق أن جرى اتفاق بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل يقر بوصول الغاز المستخرج من حقل غزة مارين عبر الأنابيب إلى مدينة عسقلان أولاً، وبعدها إلى غزة، وهو ما يعني أن إسرائيل تريد التحكم في كميات الغاز التي ستذهب إلى قطاع غزة، وفي أبريل (نيسان) 2018، توصل صندوق الاستثمار الفلسطيني إلى اتفاق مع شركة شل العالمية يقضي بخروجها من تطوير الحقل غزة البحري.
وبعد خروج شل من التعامل مع الحقل، كونت السلطة الفلسطينية تحالفاً جديداً، وبحصص جديدة، يتكون من صندوق الاستثمار الفلسطيني وشركة اتحاد المقاولين بنسبة 27.5 في المئة لكل منهما، مع تخصيص 45 في المئة لشركة تطوير أخرى.
واللافت أن السلطة ظلت تتحرك في إطار منتدى غاز المتوسط، وقد وقعت الشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية "إيغاس"، مذكرة تفاهم مع الأطراف الشريكة في حقل غاز غزة البحري في فبراير (شباط) 2021، وهي صندوق الاستثمار وشركة اتحاد المقاولين. واستهدفت مذكرة التفاهم تطوير حقل غزة، للعمل على توفير احتياجات فلسطين من الغاز الطبيعي، مع إمكان تصدير جزء من إنتاجه لمصر.
وعلى هامش الاجتماع الوزاري لمنتدى غاز شرق المتوسط الذي عقد في يونيو (حزيران) 2022 الماضي أكد وزير البترول طارق الملا، موقف مصر الثابت والداعم لحقوق فلسطين في استغلال مواردها الطبيعية، وسيادتها على تلك الموارد، وفي مقدمتها حقل غزة مارين. إذ تشير التقديرات إلى أنه يضم نحو 1.4 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي. وقد اتفقت مصر وإسرائيل على مد خط أنابيب لربط حقل غاز إسرائيلي كبير بمحطات الإسالة في مصر لزيادة لتصدير للخارج.
واعترضت حركة حماس على الاتفاق الذي وقعته السلطة الفلسطينية في فبراير 2021 مع الشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية "إيجاس"، وبين كل من إسرائيل والاتحاد الأوروبي، لتطوير حقل "مارين" الذي لا يزال على حاله، ولم يخضع بعد لعمليات التنقيب والاستخراج من إسرائيل.
والخلاصة تسعى إسرائيل للسيطرة على حقلي غاز كاريش وقانا في لبنان، للتفرغ في المدى المتوسط لحقل غاز مارين على شواطئ قطاع غزة، فيما ستظل تسعى حركة حماس إلى طرح قضية حقول الغاز قبالة سواحل غزة على غرار ما يجري بين لبنان وإسرائيل، بهدف انتزاع جزء من حقوق الطاقة التي تنتهكها إسرائيل، وقد يكون هذا الملف مدخلاً للتسويق السياسي للحركة إقليمياً ودولياً على اعتبار أنها لا تزال حركة إرهابية في المنظور الأوروبي.