يمر الاقتصاد المصري بأزمة فرضت عليه من اختلال الاقتصاد العالمي مع الشرارة الأولى للحرب الأوكرانية المشتعلة منذ الأسبوع الأخير من فبراير (شباط) 2022، ولم تضع أوزارها بعد. الآثار الجانبية التي تداعى لها الاقتصاد المصري منذ الأزمة تجلت في تبخر أكثر من 22 مليار دولار أميركي من الأموال الساخنة (استثمارات الأجانب في أدوات الدين الحكومية) منذ مطلع 2022.
ولم يتوقف الأمر عند هرولة المستثمرين الأجانب نحو الأسواق الأميركية هرباً من الأسواق الناشئة، ومنها مصر بالطبع مع بدء الفيدرالي الأميركي دورة التشديد النقدي والمالي برفع أسعار الفائدة، بل إن الحظ العثر أمام القاهرة وضح جلياً في تناحر موسكو وكييف اللتين يمثلان أكثر من 40 في المئة من عائدات السياحة المصرية.
ومع ضعف حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وثبات تحويلات المصريين العاملين بالخارج، وحصيلة قناة السويس باتت الحكومة المصرية في وضع صعب مع الشح الواضح في الدولار الأميركي، مما أضعف الجنيه المصري في مواجهة العملة الخضراء الأميركية، ليقترب من خسارة نحو 30 في المئة من قيمته منذ بداية 2022، ليتدنى إلى مستوى تاريخي أمام الدولار المنتشي عالمياً.
وسجل سعر صرف الدولار الأميركي في مقابل الجنيه المصري حتى مساء الخميس 13 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي 19.70 لسعر البيع، في حين سجل الشراء 19.63 جنيه في مقابل كل دولار.
ولجأت القاهرة إلى صندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد لدعم الرصيد الدولاري بقيمة لن تقل عن خمسة مليارات دولار، لمواجهة الطلب المتزايد على العملة الصعبة للوفاء بطلبات الاستيراد للقطاعين العام والخاص على حد سواء، إلا أن صعوبة المفاوضات الشاقة الجارية مع المؤسسة المالية الدولية، وتأخر الحصول على القرض دفعت الحكومة إلى الحفاظ على ما تبقى معها من عملة صعبة بكبح العمليات الاستيرادية للسلع غير الأساسية من جانب، أو البحث عن الدولار بطرق جديدة غير تقليدية من جانب آخر.
ترشيد الطاقة لتصدير الغاز
البداية كانت في أغسطس (آب) الماضي عندما أعلن رئيس مجلس الوزراء المصري مصطفى مدبولي خطة لترشيد استهلاك الكهرباء، وتقليل الغاز الطبيعي المستخدم لتشغيلها.
وقال مدبولي، في مؤتمر صحافي آنذاك، إن لدى حكومته خطة لترشيد استخدام الطاقة، موضحاً أن "حقلاً ظهر للغاز يسد حاجة الاستهلاك المحلي، ويحقق وفراً يجري تصديره، ومن هنا جاءت رؤيتنا حول أهمية تعظيم الاستفادة من هذا المورد الطبيعي وزيادة الصادرات من الغاز الطبيعي".
وتابع مدبولي "60 في المئة من إنتاج مصر من الغاز الطبيعي يذهب إلى محطات الكهرباء لتوليد الطاقة، لذا كلما استطعنا ترشيد كميات الغاز الطبيعي التي تخدم محطات الكهرباء، أصبحت لدينا فرصة لتصدير جانب أكبر من هذه الثروة الطبيعية، بالتالي جلب عملة صعبة أكثر".
تحديد سقف للسحب النقدي الدولاري
محور آخر للأفكار غير التقليدية التي تنفذها الحكومة لجلب العملة الأجنبية نفذته البنوك المحلية في الأسبوع الأول من أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، بعد أن أخطرت عملاءها بوضع سقف للسحب النقدي عبر بطاقات الخصم والائتمان المستخدمة في الخارج، في محاولة للحفاظ على العملة الأجنبية.
وأقر البنك التجاري الدولي (أكبر ذراع مصرفية من القطاع الخاص) حدوداً شهرية على السحب النقدي في الخارج لبطاقات الخصم من خمسة آلاف إلى 300 ألف جنيه (255 دولاراً إلى 15306 دولارات) بحسب نوع البطاقة، كما وضع سقفاً للمشتريات الشهرية الدولية (سواء أكان ذلك شخصياً أو عبر الإنترنت) بين 20 ألفاً و200 ألف جنيه (1020 دولاراً إلى 10204 دولارات). كما حدد السحوب الدولية الأسبوعية لبطاقات الائتمان بين ثلاثة آلاف و30 ألف جنيه (153 دولاراً إلى 1530 دولاراً) وعلى المنوال نفسه حدد بنك "أتش أس بي سي - مصر" سقفاً شهرياً للسحب النقدي قدره خمسة آلاف دولار لكل من بطاقات الخصم والائتمان.
وعلى النهج ذاته حدد بنك مصر (المملوك للدولة) سقف السحب النقدي لبطاقات الائتمان والخصم المستخدمة في الخارج بين 500 و1500 دولار شهرياً بحسب نوع البطاقة، كما حدد السقف الشهري للمشتريات في الخارج باستخدام بطاقات الخصم ما بين 1000 و25 ألف دولار وبطريقة مماثلة خفض بنك أبو ظبي الأول حدود السحب النقدي باستخدام بطاقات الخصم في الخارج إلى 10 آلاف جنيه (510 دولارات) من 50 ألف جنيه (2551 دولاراً).
في غضون ذلك، أعلن بنكا مصر الأهلي رفع الفائدة على شهادات الإيداع بالدولار إلى أكثر من الضعف. ورفع البنكان الفائدة إلى 5.30 في المئة سنوياً للشهادات الدولارية لمدة ثلاث سنوات، و5.15 في المئة على الشهادات لمدة خمس سنوات، بزيادة من 2.15 إلى 2.25 في المئة.
وديعة دولارية مقابل سيارة معفاة من الجمارك
وبعيداً من المصريين بالداخل لجأت الحكومة إلى أفكار جديدة لجذب الدولار من المصريين العاملين بالخارج، إذ أصدر مجلس الوزراء قراراً بإعفاء سيارات المقيمين في الخارج من الجمارك والضرائب في مقابل تحويل المغترب مبلغاً نقدياً بالعملة الأجنبية، يوازي جميع هذه الرسوم لصالح وزارة المالية، على أن يسترد صاحب السيارة المبلغ بعد 5 سنوات من تاريخ السداد بالعملة المحلية بسعر الصرف المعلن وقت الاسترداد.
ويشترط أن يتوافر في المصري الذي يرغب في الاستفادة من أحكام هذا القانون، في تاريخ سداد المبلغ النقدي المنصوص عليه، أن تكون له إقامة قانونية سارية خارج البلاد، وأن يبلغ 16 سنة ميلادية كاملة على الأقل، وأن يكون لديه حساب بنكي في الخارج مضى على فتحه ثلاثة أشهر على الأقل كما يشترط في السيارة التي يتم استيرادها من غير المالك الأول، وفقاً لأحكام هذا القانون ألا يزيد عمرها في تاريخ العمل بأحكام هذا القانون على ثلاث سنوات من سنة الصنع. وتعليقاً على ذلك قال وزير المالية المصري محمد معيط في تصريحات نقلتها "بلومبيرغ" إن "قرار السماح للعاملين في الخارج باستيراد سيارة معفاة من الضرائب سيكون متاحاً لأربعة أشهر فحسب".
وحدات سكنية بالدولار
في تلك الأثناء كشف متحدث رئاسة مجلس الوزراء المصري نادر سعد عن أن "الحكومة المصرية تدرس مبادرة إضافية تخص المواطنين المقيمين في الخارج، تتمثل في طرح وحدات سكنية مميزة بأسعار تنافسية وتخفيضات جذابة، شريطة دفع ثمن هذه الوحدات العقارية بالدولار".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأشار سعد إلى أن "الوحدات السكنية التي ستعرض على المغتربين تم إنشاؤها من قبل وزارة الإسكان"، لافتاً إلى أن تلك المبادرة تمثل إحدى الطرق التي تسعى الحكومة من خلالها لتعظيم إيراداتها الدولارية" وفقاً لـ"بلومبيرغ".
ووفق بيانات البنك المركزي المصري سجل احتياطي مصر من النقد الأجنبي ارتفاعاً طفيفاً في سبتمبر (أيلول) الماضي ليصل إلى 33.2 مليار دولار، بعد أن استقر عند 33.14 مليار دولار في أغسطس (آب) الماضي.
على رغم من أن الزيادة ضئيلة نسبياً فإنها تعد أول قفزة في الاحتياطي الأجنبي منذ فبراير (شباط) الماضي. وانخفضت الاحتياطيات الأجنبية بنحو 20 في المئة منذ مارس (آذار) الماضي، إذ أجبرت تداعيات الحرب في أوكرانيا وارتفاع أسعار الفائدة عالمياً البنك المركزي على التدخل لتغطية المحافظ الخارجة والواردات وسداد الديون.
مسكنات وليست حلولاً
ووصف المتخصصون في حديثهم لـ"اندبندنت عربية" محاولات الحكومة في زيادة حصيلتها من الدولار بـ"الجيدة". لكنهم أكدوا أنها ستظل "مجرد مسكنات عاجلة لن تحل الأزمة المستعصية".
يقول المتخصص في شؤون المصارف ماجد فهمي، "لا أنكر أهمية تلك الجهود التي تبذلها مؤسسات الدولة في تخفيف حدة الأزمة، سواء بطرح شهادات بالعملة الأجنبية، ووحدات سكنية وإعفاء سيارات المصريين بالخارج من الضرائب والرسوم"، موضحاً "أفكار من خارج الصندوق لا غبار عليها، لكنها ستبقى مجرد مسكنات لعلاج الاقتصاد المصري المريض".
وطالب فهمي الحكومة المصرية بزيادة المصادر الرئيسة لجلب الدولار الأميركي، مشيراً إلى أن "الحكومة تملك زيادة مصدرين رئيسين من مصادر العملة الأجنبية، بينما هناك مصدران لا تملك السيطرة عليهما"، موضحاً أن "زيادة عائدات السياحة بطرق غير تقليدية وزيادة الصادرات بدعم الصناعة وإزالة العقبات أمام المستثمرين الأجانب في الوقت الذي لا تملك القاهرة السيطرة على زيادة عائدات قناة السويس أو التحكم في تحويلات المصريين العاملين في الخارج".
تشكيل لجنة اقتصادية عليا
في الاتجاه نفسه قال المتخصص في شؤون الاقتصاد الكلي هاني توفيق، إن "إعفاء سيارات المصريين العاملين بالخارج من الرسوم والضرائب أحد الحلول والأفكار غير التقليدية. سنفترض أن عدد المصريين بالخارج الذين سيستفيدون من هذا القرار مليون فرد، وبافتراض أن الرسوم والضرائب الجمركية عن كل سيارة تصل إلى 250 ألف جنيه (12.72 ألف دولار أميركي)، وهو يعني أن حصيلة الخزانة المصرية ستكون 12.5 مليار دولار، وهذا أمر جيد للغاية".
واستدرك توفيق "لكن لدي تحفظان الأول يتعلق بالبنية التحتية المصرية هل تتحمل مليون سيارة جديدة تعادل 20 في المئة من عدد السيارات الحالي، بينما التحفظ الثاني هو أن ما تعلنه الحكومة من مبادرات على تلك الشاكلة تعبر عن قدرات محددة للحكومة في إدارة مواردها النقدية الدولارية في ظل أزمة اقتصادية عالمية محلية طاحنة". مطالباً بتشكيل لجنة اقتصادية عليا دائمة ومستقلة، على رأس اختصاصاتها التخطيط وإدارة جميع موارد الدولة، وبخاصة الدولارية منها.
ومن جانبه قال المحاضر بالجامعة الأميركية هاني جنينة، "مبادرة السيارات للمصريين بالخارج أفضل المبادرات لجذب الدولار الأميركي. وفي حال استجابة خمسة في المئة منهم للمبادرة يعني ضمان خمسة مليارات دولار على أقل بشكل عاجل. ومبادرة الوحدات السكنية بالدولار جيدة أيضاً وستدعم رصيد الاحتياطي الأجنبي بشكل سريع".
وسجلت تحويلات المصريين العاملين بالخارج خلال الفترة من يوليو (تموز) 2021 وحتى مايو (أيار) 2022، نحو 29.1 مليار دولار أميركي مقارنة بـ28.5 مليار دولار في فترة المقارنة نفسها من العام المالي السابق 2020-2021 بزيادة قدرها مليارا دولار تقريباً وعلى أساس شهري، سجلت تحويلات المصريين العاملين خارج البلاد في مايو 2022 نحو 2.4 مليار دولار في مقابل نحو 2.6 مليار دولار خلال الشهر نفسه من عام 2021، وفقاً لبيانات رسمية من البنك المركزي المصري.