قام وزير الخزانة (المالية) البريطاني الجديد جيريمي هنت بجولة مقابلات إعلامية وتصريحات صحافية مكثفة في اليوم التالي لتعيينه خلفاً لوزير الخزانة المقال كواسي كوارتنغ. ومن استوديوهات إذاعة "بي بي سي" إلى استوديوهات التلفزيون مع الهيئة وشبكة "سكاي نيوز"، وغيرها على مدى عطلة نهاية الأسبوع السبت والأحد، حاول هنت تكرار رسالة قوية للأسواق قبل أن تفتح أعمالها صباح الإثنين.
لم يكتف وزير الخزانة الجديد بمقابلاته الإذاعية والتلفزيونية، بل أصدر بياناً مساء السبت أيضاً. وفحوى رسالة هنت للأسواق أنه قادم إلى المنصب ليغير تماماً السياسة المالية والاقتصادية التي أعلنت عنها حكومة تراس نهاية الشهر الماضي. ليس فقط أن يلغي كل تخفيضات الضرائب التي تضمنتها الميزانية التكميلية التي أعلنها كواسي كوارتنغ، بل سيزيد الضرائب الحالية ويضغط الإنفاق الحكومي لتحقيق "السلامة المالية".
والهدف الرئيس والسريع من كل تلك التصريحات والبيانات هو محاولة استعادة ثقة الأسواق في الاقتصاد البريطاني التي انهارت بعد أيام من تولي ليز تراس رئاسة الحكومة. وهو ما وصفه المعلقون في الإعلام البريطاني بمحاولة "إطفاء الحرائق" التي أشعلتها حكومة حزب المحافظين في نفسها وفي الاقتصاد بشكل عام.
وكانت الأسواق قد ردت على خطط ليز تراس التي تستهدف تشجيع النمو الاقتصادي من دون اهتمام بارتفاع معدلات التضخم ببيع كثيف للعملة البريطانية، الجنيه الاسترليني وسندات الدين البريطاني، فهوت قيمتها بشكل كبير. وزادت رئيسة الوزراء من اضطراب السوق بتصريحها عقب اقالتها وزير الخزانة وتعيين هنت بتأكيدها أن الإطار العام لسياستها مستمر كما هو.
شيك على بياض
الآن، اختفت رئيسة الوزراء ليز تراس تماماً عن المشهد وتركت الساحة لوزير الخزانة الجديد الذي "جاءت به لإصلاح ما أفسدته" كما يقول عدد من المخضرمين من نواب الحزب الحاكم. يذكر أن جيريمي هنت كان من أقوى الداتعمين لوزير الخزانة السابق ريشي سوناك حين كان منافسل لليز تراس على زعامة الحزب ورئاسة الحكومة.
ومن تصريحات جيريمي هنت خلال اليومين الأخيرين، وبيانه مساء السبـت، يبدو واضحاً أنه حصل على ما يوصف بأنه "شيك على بياض" للتصرف في محاولة تقليل الخسائر والأضرار التي لحقت بقدرة حزب المحافظين على الحكم وإدارة اقتصاد البلاد. تلك هي الرسالة المستترة التي تبدو حتى الآن من وزارة الخزانة، وكأنها حلت محل رئاسة الحكومة كبديل للحزب الحاكم الذي يخشى من زيادة الأضرار إذا أقال ليز تراس الآن. ووصف أحد أعضاء الحزب البارزين الوضع بأن السياسة في بريطانيا "أصبحت مثل إيطاليا"، أي تغيير الحكومة كل عدة أشهر والسبب الفشل الاقتصادي.
وعلى رغم تأكيد بيان وزير الخزانة أن الهدف النهائي هو تحقيق النمو الاقتصادي فإن ذلك يجب أن يكون على أسس مالية سليمة، وهو تعبير دبلوماسي عن خطأ السياسات السابقة قبل أسابيع، وأنه سيقلبها رأساً على عقب، بمعنى آخر، فإن جيريمي هنت سيطبق ما كان ريشي سوناك يعتمده كأساس لحملته الانتخابية لزعامة الحزب ورئاسة الحكومة: الأولوية لوقف ارتفاع التضخم وخفض الدين العام. وهو النقيض تماماً لما فازت ليز تراس على أساسه.
زيادة ضريبية وخفض انفاق
كان وزير الخزانة الجديد واضحاً في إحدى مقابلاته، السبت، إذ قال صراحة إن الحكومة تصرفت "بسرعة وبمغالاة كبيرة"، وهو اعتراف ضمني بالخطأ الفادح الذي ارتكبته الحكومة، وأنه جاء لإصلاحه، لكن تركيز هنت على إصلاح الخطأ ومحاولة تقليل الأضرار لا تضمن تماماً استعادة ثقة الأسواق، بخاصة أن قطاعاً في حزب المحافظين سيعارض بشدة بعض الإجراءات التي يعتزم وزير الخزانة اتخاذها.
لن يكون كافياً التراجع عما أعلنته ليز تراس ووزير خزانته المقال، بل سيكون على جيرمي هنت كما كرر في كل مقابلاته وتصريحاته "اتخاذ قرارات صعبة تتعلق بالضرائب والانفاق العام". كانت تراس أعلنت تراجعاً على ثلاثة مكونات أساسية في خطتها الاقتصادية الكارثية، الأول قبل أكثر من أسبوع حين أعلنت الحكومة أنها لن تلغي الزيادة في الضريبة على الأغنياء، أي إن الضريبة بنسبة 45 في المئة على الشريحة الأعلى دخلاً باقية، ثم يوم الجمعة أعلنت أنها لن تلغي الزيادة في ضريبة الشركات من 19 في المئة إلى 25 في المئة، والتي سيبدأ تطبيقها في أبريل (نيسان) القادم. وقبل ذلك بيومين تراجعت أمام البرلمان عن خفض الإنفاق العام، بعد معارضة أغلب نواب حزبها لأي تخفيض في مدفوعات الضمان الاجتماعي الشهرية للأسر الفقيرة، لكن وزير الخزانة الجديدة لن يبقي في الأغلب على أي شيء آخر تضمنته الميزانية التكميلية، بمعنى أن تخفيضات ضريبية أخرى سيتم إلغاؤها، أي زيادة فعلية في الضرائب للإبقاء على حصيلة الخزانة من الضرائب في وضع معقول. وأول تلك البنود هو إلغاء خفض الشريحة الضريبية الأولى على أصحاب الدخول المنخفضة، والذي تضمنت الميزانية الشهيرة تقليله إلى نسبة 19 في المئة بدلاً من 20 في المئة حالياً. هناك أيضاً الزيادة الضريبية في مستقطعات التأمينات الاجتماعية التي يدفعها العاملون وأصحاب الأعمال التي كانت تنوي حكومة تراس إلغاءها. وكل تلك الإجراءات هي ما كان يستهدفه ريشي سوناك بجعل أولويته مواجهة ارتفاع التضخم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الجانب الأهم، غير زيادة الضرائب المتوقع من قبل وزير الخزانة الجديدة جيريمي هنت، هو خفض الإنفاق. وفي مقابلاته الإذاعية التلفزيونية لم يستبعد الوزير الجديد مطالبة جميع الوزارات والإدارات بتخفيض ميزانياتها لتوفير الإنفاق، وإن غلف ذلك بعبارة تقليدية في بيانه الرسمي ليل السبت "ضمان الكفاء في الإنفاق العام والتأكد من أموال دافعي الضرائب تصرف في مكانها الصحيح". وهي عبارة تعني بوضوح تقشفاً حكومياً كبيراً.
ومع أن جيريمي هنت أشار إلى أن ميزانية وزارة الدفاع يتعين أن تزيد، لكنه رفض الالتزام بما أعلنته ليز تراس وحكومتها من قبل بزيادة في ميزانية الدفاع بنسبة ثلاثة في المئة، لذا خرجب صحف الأحد البريطانية بتقارير عن أن وزير الدفاع بن والاس قد يستقيل من الحكومة إذا لم تنفذ زيادة ميزانية وزارته بنسبة ثلاثة في المئة.
لن يكون بن والاس الوحيد الذي يعارض مزيداً من تخفيض الميزانية، بل إن أغلب وزراء الحكومة سيعارضون إجراءات جيريمي هنت في هذا السياق. حتى خدمة الصحة الوطنية التي تعد أكثر ما يهم المواطن البريطاني، لمح هنت إلى أنها يجب أن "ترشد الإنفاق".
صحيح أن وزير الخزانة الجديد حظي بدعم وتأييد فوري من بنك إنجلترا (المركزي البريطاني)، لكن ذلك قد لا يكون كافياً لضمان إنفاذ كل ما يريد عمله لتفادي أخطاء حكومة ليز تراس واستعادة ثقة الأسواق، فقد صرح محافظ بنك إنجلترا أدنرو بايلي من واشنطن أن هناك "توافقاً تاماً" مع جيريمي هنت الذي تحدث معه فور تعيينه. ومعنى ذلك أن البنك سيعود إلى نهجه في تشديد السياسة النقدية لكبح جماح ارتفاع التضخم، أي زيادة سعر الفائدة الشهر المقبل ربما بنسبة كبيرة، ولكن أيضاً لن يكون البنك مضطراً للتدخل في سوق السندات بالعودة للشراء، بل ربما يبدأ بيع السندات التي اشتراها في فترة التيسير الكمي وتثقل ميزان حسابه الجاري.
هذا التوافق في السياسة النقدية والمالية بين البنك ووزارة الخزانة كان مفتقداً تماماً في الأسابيع القليلة التي تولى فيها كواسي كوارتنغ حقيبة الخزانة. فمنذ اليوم الأول في الحكم الشهر الماضي، لم تخف ليز تراس ووزير خزانتها انتقادهم للبنك المركزي، وإن لم يصل ذلك إلى حد التهديد بإلغاء استقلالية البنك عن السياسة المالية الحكومية.