من خلال أربع روايات أو أربعة كتب، ومع كتابة آني إرنو عموماً، لا أجد داعياً إلى الدخول في التصنيف الأدبي، إذ يستطيع قارئ نصوص هذه الروائية الفرنسية "النوبلية" الجديدة أن يضع يده على كاتبة عالمية بالمعنى الإبداعي والإنساني، بل كاتبة من مستوى رفيع في تأملها للعالم من خلال ذاتها، كما يبدو ذلك في الكتب التي وجدتها متاحة في الترجمة العربية، وهي "المكان" ترجمة أمينة رشيد وسيد البحراوي (شرقيات، 1994)، "الاحتلال" ترجمة إسكندر حبش، و"انظر إلى الأضواء يا حبيبي" ترجمة لينا بدر، و"الحدث" ترجمة سحر ستالة ومراجعة محمد جليد وهذه كلها صدرت عن دار الجمل.
كاتبة من أصول ريفية وأبوين عاملين تحوز نوبل، وهي في نظري تستحقها لأسباب، عدا مناهضتها للعدو الصهيوني ومناصرتها للحق الفلسطيني، إذ ثمة سبب مهم أنها إنسانية تستعيد في روايتها "المكان" سيرة والديها (والدها خصوصاً)، منذ كانا عاملين بين المزارع والمصانع وحتى انتقالهما إلى طبقة "وسطى صغيرة" بامتلاك مقهى أو بقالة، ومن خلالهما تستعيد حياتها معهما وحياة مجتمع كامل حتى وفاة والدها. كتابة بسيطة زاخرة بالتفاصيل الجوهرية النابعة من تأملات عميقة في الحياة والمجتمع والطبقات.
كاتبة رفيعة المستوى إذ يستطيع القارئ العربي الوصول إلى هذه القناعة على رغم الركاكة الفظيعة والأخطاء النحوية والإملائية فضلاً عن المطبعية غير المعقولة في الترجمات العربية، ركاكة تنم عن استهتار المترجمين والناشرين معاً. يذكر أنه تمت ترجمة ثماني روايات لآني إرنو إلى العربية، بدأت عام 1994 مع رواية "المكان" ثم تلاها عدد من الترجمات لرواياتها "الحدث" و "الاحتلال" و"البنت الأخرى- لم أخرج من ليلي" و"انظر إلى الأضواء يا حبيبي" و"شغف بسيط" و"امرأة" و"مذكرات فتاة"، لكن الحصول عليها كلها مستحيل في الظروف السيئة التي يعانيها النشر العربي والتوزيع.
الكتابة عن الكتابة
وابتداء ربما لا يستطيع قارئ أو ناقد كتابات الفرنسية "النوبلية" الجديدة آني إرنو تصنيف كتاباتها في إطار جنس أدبي محدد، وإن كانت رواية أم سيرة روائية أو رواية سِيرية أم يوميات ومذكرات، لذا فلا داعي للدخول في هذه التصنيفات التي لن تضيف شيئاً إلى هذه الكتابة الراقية والرفيعة المستوى والملتزمة سياسياً واجتماعياً - طبقياً وثقافياً – أدبياً، ولعل الكاتبة نفسها تنقذنا من هذا المأزق وهي تكتب عن كتابتها.
تكتب إرنو كثيراً عن الكتابة ذاتها لتكون الكتابة موضوعها وليست مجرد أداة فتقول، "بدا لي الكتاب الذي أنا بصدد تأليفه أشبه بمحاولة يائسة. كانت ذكرى تقنعني، كما في لحظات الرعشة الجنسية أو نور برق يشعرنا أن هذا هو الجوهر". وفي موضع آخر تقول، "شعرت أنني حصلت على الشيء الذي أنشد امتلاكه عبر الكلمات من دون جهد، جاعلة بذلك سعيي إلى الكتابة بلا جدوى، ولكن الكتابة في هذه اللحظة بعد أن اختفى الشعور الذي غمرني تحتاج إلى أهمية (والمقصود اهتمام) أشد قوة إلى درجة أنها تجد تبريرها في الحلم".
أو ترى أن "التذكر عبر الخيال أو التذكر عبر الذاكرة هو قدر الكتابة"، كما ترى "أن نرى لكي نكتب يعني أن نرى بشكل مختلف، فما أكتبه ليس بحثاً استطلاعياً ولا تحرياً منهجياً إنما يوميات، مما ينسجم على الأكثر مع مزاجي الذي يميل إلى الالتقاط الانطباعي للأشياء والناس والأجواء، كتابة حرة في إبداء الملاحظات والمشاعر محاولة مني الإمساك بشيء ما من الحياة الدائرة هناك".
وتقول، "بالتأكيد نستطيع كتابة قصص من الحياة من خلال المتاجر الكبرى الشاسعة التي نرتادها، فهي تشكل جزءاً من مشهد الطفولة، المخزن الكبير بالنسبة إلى كل الناس، مكان أليف يتداخل استخدامه مع الحياة، غير أننا لا نقدر أهميته على أساس علاقتنا بالآخرين وطريقتنا في صنع المجتمع مع معاصرينا في القرن الـ 21".
عمل سياسي
الكتابة في نظرها "عمل سياسي يفتح أعيننا على عدم المساواة الاجتماعية، وتحقيق مهمة أخلاقية وسياسية، وليست وظيفة الكتابة أو نتاجها طمس جرح أو علاجه، وإنما إعطاؤه معنى وقيمة وجعله في النهاية لا يُنسى"، ومن دون ذلك كله يمكننا أن نلمس مواقفها ذات الطابع الطبقي في مواجهة أصحاب رأس المال والإمبريالية المتوحشة، مثلما يبدو ذلك في كتابها/ يومياتها "انظر إلى الأضواء يا حبيبي" (ترجمة لينا بدر، دار الجمل 2017)، التي تقدم فيها مشاهداتها وانطباعاتها عن مخازن التسوق الكبرى (المولات)، وخصوصاً مخزن "أوشان" بكل ما ينطوي عليه من "استهتار" بالإنسان (الزبون) عبر الإغراءات والتحذيرات من الاقتراب أو طرق الدفع واليافطات المرفوعة فوق البضائع.
وفي واحدة من "يومياتها" تقرأ عن حريق شب في مصنع نسيج في بنغلاديش وتسبب في قتل المئات والأكثرية من النساء، ويعود عمل المصنع لمصلحة متاجر كبرى أحدها متجر "أوشان" الذي لا يتدخل في شأن هذه الكارثة الإنسانية، فتقول في هذا السياق إن "الثورة لن تأتي إلا من المستغلين من الطرف الآخر للعالم".دار
واستطراداً تأتي الكاتبة على ذكر بطاقة للزبائن المخلصين للمتجر، إذ يسألونها عند الصندوق "هل لديك بطاقة الزبون الوفي؟"، فترد بخشونة "لست وفية لأحد"، فهي تستنكر وجود عبارة "إلى زبائننا الكرام" أصلاً لكونها "زبونة حرة"، وتعترف بأن سلوكها "حال من المغالاة العنيدة"، وتصف سلوك المتجر بالقول "ليس هناك أسرع وأدهى منهم ليجعلوك معلقاً بعلامتهم التجارية".
وإلى ذلك فهي ترى أن المتجر أو المخزن "ينسجم مع التنوع الثقافي لزبائنه ويتابع بدقة شديدة أعيادهم"، وأن هذا هو "عرف التسويق وليس أخلاقاً".
وتكمل، "لماذا لا نثور، لا ننتقم من الانتظار الذي يفرضه علينا المخزن؟"، وعلى "عالم المخازن الكبرى والاقتصاد الحر؟"، مؤكدة أن "طواعية المستهلكين لا حدود لها"، فضلاً عن أن "العائلة التي أنشأت أول مخزن كارفور في المدينة تأكل في صحون من ذهب".
وينبغي التأكيد هنا أن ثمة ضعفاً في صياغة جميع الترجمات التي عثرنا عليها، وثمة أخطاء لغوية ونحوية لا يعرف القارئ كيف يتابع معها القراءة، فيتساءل "هل هي ترجمة غوغل وغيره من المحركات؟"، ومن هذه الأخطاء على سبيل المثال لا الحصر، أخطاء في النحو مثل: لا أعرف إن كان اسمه آت (الصحيح: آتياً، خبر كان)، اجتياز إحدى الحواجز (الصحيح: أحد الحواجز)، يغطي رأسه قلنسوة (تغطي)، تزان فوق ميزان (والصحيح توزن)، لا تشتري (تشتر)، عشرة سلع.
وليفسر لنا أحد هذه الجملة، "دون أن ينسوا تسجيل لحظة الدفع على الأرومة" أو "في منتصف بعد الظهر بين أناس يصعدون وآخرون ينزلون على نحو بالكاد مسموع" و"إحضار واحداً" و "إن لديه كلب" و "نحو 50000 قسماً غذائياً" و"عشر أرغفة، عشرة سِلع"، " و"ملقيةً" (ملقاة)، و"حول الأولاد المتكاثرون" و "تينك الراهبات" (أولئك) و"أرى سيدة وفتاتين ومراهق" (مراهقاً) "لم يشترها ثم "لم يرتادها"، و"كأن ليس هناك كتباً"(كتب).
"الاحتلال" غيرة العاشقة
وبالانتقال إلى كتاب أو يوميات "الاحتلال" (ترجمة إسكندر حبش، دار الجمل، 2011)، كتاب البوح والذكريات، وبحسب قراءتي وقراءة من يعرفون الفرنسية، نجد العجب في الترجمة أيضاً، في أخطاء اللغة العربية تحديداً، فضلاً عن ركاكة في الصياغة، لكننا أمام نص محبوك بصياغة أدبية أيضاً، نص تنشغل صاحبته بمشاعر وأحاسيس امرأة مخدوعة مع عاشق وعشيق، وهي التي انفصلت عنه لكنها بدأت تطارده وتبحث عن عشيقته الجديدة، وتبحث بطريقة مهووسة عبر كل الوسائل المتاحة، لأنه يعطيها عن عشيقته أطراف خيوط غامضة تجعلها أشد اضطراباً في حياتها اليومية وتواصلها مع العالم.
"أكتب الغيرة مثلما أحياها وأنا ألاحق الرغبات وأراكمها، الأحاسيس والأفعال التي كانت أحاسيسي وأفعالي في تلك الفترة، والكتابة في المحصلة النهائية هي كغيرة من الواقع".
أما أخطاء ترجمة حبش إلى العربية فتتمثل في النحو وبعض ركاكة في الصياغة اللغوية، ومنها على سبيل المثال أيضاً "كلما تراجعنا قليلاً إلى الوراء كلما لاحظنا"، (خطأ تكرار كلما). ولا يجوز القول "ثمانية عشر سنة" حيث الصحيح "ثماني عشرة سنة"، ولا يصح قول "استمرينا"؟ حيث الأصح "استمررنا"، وكيف يمكن أن نقرأ "كانت صورة هذه المرأة تأتي لتجتازني"؟ أليس الأدق لغة القول "تخترقني"؟ وفي الإملاء لا يمكن القول "كنت أنكفأ" (أنكفئ) و"استمرينا" أو "لم أبقى" والصحيح "أبقَ" و "في كل مرة كانت يجتازني" و"أصبحت يداي باردتان" و "في الدائرة الثانية عشر"، أو "هذه الدهشة التي غير المحتملة تقريبا"، وجملة "أكملت اتجاهي باتجاه" وهلم جرا.
الإجهاض المحرم
في كتابها "الحدث" تستعير إرنو من ميشال ليريس مقولة "أمنيتي المزدوجة أن يصبح الحدث مكتوباً وأن يصبح المكتوب حدثاً"، ومن اليابانية يوكو تسوشيما تستعير مقولة "قد لا تكون الذاكرة إلا تحديقاً في الأشياء حتى نهايتها"، وهي هنا تتذكر والدها "في الخامسة صباحاً يحلب البقر وينظف الإسطبلات ويراعي الخيول ويحلب البقر في المساء، وفي المقابل له الكساء والغذاء والسكن وبعض النقود، كان ينام فوق الإسطبل على حصيرة من دون فرش، والحيوانات تحلم وتدق الأرض طوال الليل، وكان يفكر في دار أبويه، مكان محرم الآن. إحدى أخواته خادمة لكل الأغراض، وكانت تظهر أحيانا عند السور بصرتها خرساء، وكان الجد يلعن وهي عاجزة عن أن تقول لماذا هربت مرة أخرى من مكانها، في الليلة ذاتها كان يردها إلى أسيادها ذليلة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعن الإجهاض تقول "كانت رغبتي في الإجهاض توحي بشيء من الإغواء. في الحقيقة كان إجهاضي بمثابة حكاية تبدو نهايتها مجهولة في نظر (أو) و(أندريه) و(جان ت)، "والرجل الذي حملت منه يتركني أتدبر الأمر بنفسي". وتهدي كتابها هذا إلى "المُجهِضة" التي أجرت لها عملية الإجهاض وتقول، "الهدف الحقيقي في حياتي هو فقط التالي، أن يتحول جسدي وحواسي وأفكاري إلى كتابة، أي إلى شيء ما واضح وشامل، إلى وجودي الذائب بأكمله في أذهان الآخرين وحياتهم".
وفي "المكان" تبدو مشغولة بحكاية الوالد الأب (والأم)، بدءاً من كونهما عاملين في المزارع والمصانع، ثم انتقالهما ليكونا مالكين لمقهى مع بقالة، يقدمان الطعام والمشروب، نقلة تعني تحولاً من الطبقة الدنيا إلى البرجوازية الدنيا، والارتقاء التدريجي في هذه الطبقة الاجتماعية، مما يسمح بإدخال تعديلات وتحسينات في المقهى والبيت.
وتتحدث عن انتقالها هي من طبقة إلى طبقة، من بنت عامل إلى "عالم البرجوازية المثقفة"، وهي التي عاشت مع أسرتها "صراع الطبقات الاجتماعية السائد في المجتمع بأسره" كما تقول. تكتب "بسرعة فرضت نفسها كواجب، ضرورة الكتابة عن حياة أبي وعن المسافة الثقافية بيننا"، وتكتب بوضوح وبوح ولا تتردد في الإفصاح عن مشاعرها تجاه الفظاظة، فهي تكتب كراوية بين عالمين، وهي الوحيدة التي تمتلك فرصة إعطاء صورة سليمة لحياة رجل "عادي"، لكنها تكتب عن والدها بـ "خجل" لكونه لا يقرأ.