تعتبر إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن في استراتيجيتها للأمن القومي أن التحدي الأبرز الذي يواجه الولايات المتحدة يتلخص في المنافسة المحتدمة مع الصين ووجوب احتواء الخطر الروسي. وتفصل الاستراتيجية- وكان الكونغرس أوعز إلى الإدارة بوضعها- المصالح والسياسات الخاصة بالبلاد، بما في ذلك ما يتعلق منها بالاقتصاد. وكان من المفترض صدور الوثيقة العام الماضي بعد تولي بايدن منصبه، لكن الحرب الروسية في أوكرانيا أخرت الخطوة. وكانت آخر استراتيجية للأمن القومي الأميركي صدرت عام 2017 بعد تولي الرئيس السابق دونالد ترمب منصبه.
وتصف الاستراتيجية الجديدة الصين بأنها "التحدي الجيوسياسي ذو التداعيات الكبرى" وتؤكد أن واشنطن وبكين "تخوضان منافسة استراتيجية على تشكيل النظام الدولي". وتضيف: "إن جمهورية الصين الشعبية هي الجهة المنافسة الوحيدة التي تملك كلاً من النية بإعادة تشكيل النظام الدولي، وعلى نحو متزايد، القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية للقيام بذلك. فبكين تملك طموحات لإنشاء دائرة نفوذ في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وتسعى إلى أن تصبح القوة الرائدة في العالم. وهي تستخدم القدرة التكنولوجية والنفوذ المتزايد على المؤسسات الدولية لإنشاء ظروف مسهّلة أكثر لنموذجها التسلطي".
وتعد الولايات المتحدة في الاستراتيجية بتنفيذ استثمارات لتعزيز "الابتكار" فيها وبالعمل مع الحلفاء "التي تجمعهم قضية مشتركة" لتعزيز المنافسة "المسؤولة" مع الصين. وتضيف الوثيقة: "تتضح المنافسة مع جمهورية الصين الشعبية أكثر ما تتضح في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، لكنها تكتسب صفة عالمية في شكل متزايد. حول العالم، يبرز السباق على كتابة القواعد وتشكيل العلاقات التي تحكم الشؤون العالمية في كل منطقة وفي الاقتصاد والتكنولوجيا والدبلوماسية والتنمية والأمن والحوكمة العالمية".
في ما يخص روسيا، تتهم الاستراتيجية موسكو بتشكيل "تهديد مباشر ومستمر للسلام والاستقرار العالميين" عن طريق سياسات "بلغت أوجها" في اجتياح أوكرانيا. وتذكّر الوثيقة بالتدخل العسكري الروسي دعماً لحكومة الرئيس السوري بشار الأسد وضم شبه جزيرة القرم بعد انتزاعها من أوكرانيا والتدخل في الشؤون الداخلية لبلدان أخرى، بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها. وتضيف: "سنواصل الوقوف إلى جانب الشعب الأوكراني إذ يقاوم العدوان الروسي السافر. وسنحض العالم على محاسبة روسيا على الفظائع التي ارتكبتها في مختلف أرجاء أوكرانيا".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإذ تصف الاستراتيجية الحرب الروسية على أوكرانيا بأنها تستند إلى "حسابات خاطئة استراتيجياً"، تعد بأن واشنطن ستعمل مع حلفائها وشركائها على جعل الحرب "فشلاً استراتيجياً" لموسكو فتمنى بخسارة كبيرة. "في مختلف أرجاء أوروبا، يقف حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي موحدين في مواجهة روسيا والدفاع عن قيمهما المشتركة. ونحن نلجم القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية الروسية، بما في ذلك الدفاع والطيران، وسنواصل مقاومة المحاولات التي تبذلها روسيا لإضعاف بلدان تتمتع بالسيادة وزعزعة استقرارها وتقويض مؤسسات متعددة الأطراف".
وترى الوثيقة أن الحرب الروسية في أوكرانيا "قلصت في شكل عميق موقف روسيا إزاء الصين واليابان. فالقوة الناعمة والنفوذ الدبلوماسي الروسيان يضعفان ويتراجعان، في حين أن جهود روسيا لاستخدام الطاقة كسلاح أتت بنتائج عكسية. ويمثل الرد العالمي التاريخي على الحرب الروسية على أوكرانيا رسالة قوية مفادها بأن البلدان لا تستطيع الاستفادة من التكامل العالمي في وقت تنتهك الأسس المركزية من ميثاق الأمم المتحدة". وتشدد على أن الولايات المتحدة "لن تسمح لروسيا أو أي قوة أخرى بتحقيق أهدافها من خلال استخدام الأسلحة النووية أو التهديد باستخدامها".
وتتطرق الاستراتيجية إلى "قوى تسلطية أصغر حجماً" تهدد الاستقرار العالمي. "في تطور هو الأبرز على هذا الصعيد، تتدخل إيران في الشؤون الداخلية للبلدان المجاورة لها وتنشر صواريخ ومسيّرات عن طريق مجموعات وكيلة، وتخطط للإضرار بأميركيين، بمن فيهم مسؤولون سابقون، وتطور برنامجاً نووياً يتجاوز أي حاجة مدنية قابلة للتصديق. وتواصل جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية [كوريا الشمالية] توسيع برامجها غير المشروعة في مجالي الأسلحة النووية والصواريخ". ووفق الوثيقة، "سنتبع الدبلوماسية لضمان عدم امتلاك إيران سلاحاً نووياً على الإطلاق، مع الإبقاء على موقفنا واستعدادنا لاستخدام وسائل أخرى في حال فشل الدبلوماسية". كذلك "سنتبع الدبلوماسية المستمرة مع كوريا الشمالية لتحقيق تقدم ملموس باتجاه تجريد شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية، مع تعزيز الردع الموسع في مواجهة التهديدات التي تمثلها أسلحة الدمار الشامل والصواريخ في كوريا الشمالية".
عن الشرق الأوسط، تشير الاستراتيجية إلى أن الولايات المتحدة لجأت "أكثر مما ينبغي إلى سياسات ذات تركيز عسكري تستند إلى إيمان غير واقعي بالقوة وتغيير للأنظمة لتحقيق نتائج مستدامة [إعلاء شأن القوة على غيرها من الوسائل]، لكنها فشلت في احتساب الخسائر التي تكبدتها على مستوى الأولويات العالمية أو احتساب النتائج غير المقصودة [الاعتباطية]. لقد آن الأوان للتخلي عن الخطط الكبرى لصالح خطوات أكثر عملية تستطيع تعزيز مصالح الولايات المتحدة ومساعدة شركائها في المنطقة في إرساء أساس لمزيد من الاستقرار والازدهار والفرص لصالح شعب الشرق الأوسط والشعب الأميركي". وتتلخص المقاربة الجديدة بدعم البلدان التي تحترم قواعد النظام الدولي ومنع أي قوة من المنطقة أو خارجها من تهديد حرية الملاحة في الممرات المائية بما في ذلك مضيقي هرمز وباب المندب، وخفض التوترات من خلال الدبلوماسية وتعزيز تكامل المنطقة من خلال بناء روابط بين شركاء واشنطن والدفاع عن حقوق الإنسان وميثاق الأمم المتحدة.
وتعيد الاستراتيجية التشديد على التزام واشنطن بأمن إسرائيل وبتعزيز اتفاقات أبراهام، فتقول: "سنسعى إلى تعزيز الروابط المتنامية بين إسرائيل وبلدان مجاورة وبلدان عربية أخرى وتعميقها، بما يشمل الاتفاقات الإبراهيمية، مع الحفاظ على التزامنا الصلب بأمن إسرائيل. وسنواصل الترويج لحل قابل للاستمرار [للصراع الفلسطيني الإسرائيلي] يستند إلى مبدأ الدولتين ويحفظ مستقبل إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية مع تلبية تطلعات الفلسطينيين إلى دولة آمنة وقابلة للاستمرار لهم".
وعلى رغم احتدام المنافسة الدولية المتصاعدة، على الولايات المتحدة "الحفاظ على التعاون الدولي على مستوى التحديات المشتركة وتعزيزه"، على حد تعبير الوثيقة. "فاستراتيجيتنا للتعامل مع التحديات التي تتطلب تعاوناً دولياً تشمل مسارين متزامنين: في أحد المسارين، سنشرك في شكل كامل البلدان والمؤسسات كلها في التعاون في مواجهة التهديدات المشتركة، بما في ذلك ما يتعلق بالضغط من أجل إصلاحات تبدو معالجة المؤسسات لها غير مناسبة. وفي الوقت ذاته، سنضاعف جهودنا لتعميق تعاوننا مع شركاء يشاركوننا تفكيرنا. وفي المسارين، سنسعى أيضاً إلى الاستحواذ على الآثار الإيجابية للمنافسة، فنروج لسباق إلى القمة، بهدف زيادة الجهود الدولية إزاء التحديات هذه".
ومن هذه التحديات، تلفت وثيقة الاستراتيجية إلى أزمة المناخ التي تصفها باسم "التحدي الوجودي الماثل في زمننا" وتبرز جهود الولايات المتحدة لتلبية مستهدفاتها المناخية المحلية وعملها مع مؤسسات دولية ومن خلال اتفاقات دولية لتقليص الانبعاثات التي ترفع درجات حرارة الكوكب. وتدرج إلى جانب أزمة المناخ أمن الطاقة في تحد واحد، وتعدد تحديات أخرى تستدعي تعاوناً عالمياً، من أبرزها الجوائح والدفاع البيولوجي [حماية الأنواع الطبيعية من الانقراض] وغياب الأمن الغذائي وفرض ضوابط على التسلح ومنع انتشار الأسلحة والإرهاب وتشكيل الأنظمة العالمية والتكنولوجيا وضمان أمن الفضاء السيبراني والتجارة والاقتصاديات.
وتستنتج الوثيقة بالقول: "من خلال الاستفادة من نقاط قوتنا الوطنية وحشد تحالف واسع من الحلفاء والشركاء، سندفع قدماً وجهة نظرنا المتعلقة بعالم حر ومنفتح ومزدهر وآمن، وتتغلب مناوراتنا على مناورات منافسينا، ونحقق تقدماً ذا معنى في مسائل على غرار تغير المناخ والصحة العالمية والأمن الغذائي، بما يحسن حياة الأميركيين وعامة البشر حول العالم. هذا ما يجب أن نحققه في هذا العقد الحاسم. ومثلما فعلنا خلال تاريخنا، ستغتنم أميركا الفرصة وتواجه التحدي. ولا وقت نضيعه".