حازت رواية "بائع الحليب" للكاتبة الايرلندية أنّا برنز، "جائزة جورج أورويل لروايات الخيال السياسي"2019 ، بعد فوزها بجائزة بوكر مان للعام2018 ثم بجائزة دائرة النقاد البريطانيين للعام 2018 أيضاً .والجوائز الثلاث تعد م الأبرز في بريطانيا والعالم، خصوصا ان جائزة بوكر مان تفتح امام الفائز بها السبيل الى العالمية عبر الترجمة الى لغات عدة. ونادرا ما يحالف الحظ كاتبة مثلما حالف الكاتبة أنّا برنز (1962) المولودة في منطقة بلفست الإيرلندية، فتفوز رواية واحدة لها بهذه الجوائز الراقية. وبرنز هي الكاتبة الإيرلندية الأولى التي تنال جائزة بوكرمان والكاتبة الثالثة في بريطانيا التي تجمع ما بين نيلها جائزة بوكر مان وجائزة النقاد.
ما لا يتوقعه قارئ رواية "بائع الحليب" للكاتبة الإيرلندية أنا برنز (The milkman, Anna Burns)، أن يموت بائع الحليب في الجملة الأولى من الرواية، كما أنه لا يتوقع أن يكون بائع الحليب هذا نفسه مصدر قلق وتوتر وتوجس طيلة الرواية. فبائع الحليب ليس بطل السرد، ليس هو الراوي ولا الشخصية التي يتعاطف معها القارئ ولا حتى شخصية تُعرف خفاياها وأسرار ماضيها. بائع الحليب في رواية أنا برنز هو شخص مخيف يعرف كل شيء ويثير التوتر والاضطراب في نفس البطلة الشابة البالغة من العمر ثمانية عشر سنة، فهو فعلياً يشكل المحرك الأول لعجلة السرد والسبب الرئيسي خلف انطلاق الإشاعات المغرضة التي طاولت الراوية.
وفي روايتها الثالثة، كما في سابقتيها، تنقل برنز قارئها إلى بلفاست عاصمة إيرلندا الشمالية: أكبر مدينة في شمال إيرلندا، وثاني أكبر المدن الإيرلندية بعد دبلن. ولبلفاست تاريخ سياسي ديني معقد مليء بالحروب والأزمات تستثمره برنز في نصها لتنقل مشهد الحرب والانقسام الذي شهدته إيرلندا الشمالية في النصف الثاني من القرن العشرين. فبعد أن شهدت هذه المدينة ازدهاراً عظيماً في أثناء الثورة الصناعية في شمال إيرلندا في القرن التاسع عشر، اندلعت أحداث أواخر ستينيات القرن العشرين لتدوم حتى عام 1998. فقد عرفت إيرلندا الشمالية التي كانت مركزاً اقتصادياً بارزاً، عرفت حرباً أو أزمة عُرفت بأزمة إيرلندا الشمالية أو الحرب غير المنتظمة، وهي حرب ناتجة من عداوة سياسية وطنية دينية وقعت بين الكاثوليك والبروتستانت في إيرلندا الشمالية. وعلى الرغم من أن هذه الحرب كانت بمجملها في إيرلندا الشمالية وبلفاست إلا أنها امتدت في أحيانٍ كثيرة إلى مناطق إيرلندية وبريطانية وأوروبية أخرى مؤدية إلى زعزعة للوضع الأمني والسياسي العام في تلك المنطقة. ويعود الخلاف أساساً إلى الموقف الوطني من إيرلندا، فالبروتستانت أرادوا لإيرلندا الشمالية أن تبقى تحت الحكم البريطاني، بينما أراد الكاثوليك أن ينشقوا عن بريطانيا وأن ينضموا إلى اتحاد إيرلندا.
أجواء التوتر والتوجس
تتكلم راوية "بائع الحليب" الشابة بضمير المتكلم، وتنقل مجريات أيامها بأسلوب ماهر متماسك جعله بعض النقاد قريباً من أسلوب بروست في رائعته "بحثاً عن الوقت الضائع". وتنقل برنز إلى قارئها قصة فتاة شابة في الثامنة عشرة من عمرها عاشت في فترة الانشقاقات والاضطرابات التي عرفتها بلفاست، فترة كان هناك "نحن" من ناحية وبمواجهتهم من ناحية أخرى "هم". فترة ضغط سياسي وخوف اجتماعي وقلق وتوجس ومراقبة للآخر وتناقل إشاعات وشكوك وتُهَم.
وتتميز هذه الرواية أولاً بأسلوبها الجذاب واللافت الذي مدحته معظم أقلام الصحافة البريطانية والأميركية، فما يضفي الدقة والبطء على تطور مسار السرد هو الجمل الطويلة المسبوكة بشكل متماسك. فيقدم النص شخصيات تتمتع بسماكة نفسية مترابطة إلى جانب معانٍ سياسية واجتماعية محكمة التركيب بالإضافة إلى ما جاءت الضمائر لتضيفه من تحديد للأطر السردية بشكل صارم "نحن" و"هم"؛ "معنا" و"معهم"، فمن ليس معنا هو معهم، حتى الشقيقة رقم اثنين نفسها يتم استبعادها عن العائلة لأنها اختارت زوجاً من الـ "هم". وينقل الوصف الدقيق والحقيقي في الرواية حالات التوتر والهلع والقلق والسوداوية بشكل يكاد يقرب الهزل والتبسيط على الرغم من أنه في غاية الجدية والتماسك. وأكثر ما يحفز القارئ على متابعة القراءة هو اعتماد برنز تقنية وصف الشخصيات بدلاً من منحها أسماء خاصة بها. فما من اسم علم في الرواية وما من اسم عائلة، وحدها الصفات وصلات القربى ووظائف الشخصيات هي التي تحددها، فهناك الصهر رقم واحد، والصهر رقم اثنين، والصهر رقم ثلاثة، والشقيقة رقم واحد، والشقيقة رقم اثنين، والشقيقة رقم ثلاثة، وبائع الحليب، والذي يمكن أن يكون صديقي، والذي يعمل في مصنع السيارات، وغيرها من الجمل الوصفية التي تحل محل الأسماء وتحدد هوية الشخصيات. فيروح القارئ يتابع مجريات الأحداث المُقلقة وهو بالكاد يُمسك بوجوه الشخصيات التي تتحرك على خشبة السرد. لينتقل القلق إلى القارئ نفسه في نوع من رهاب الأحداث والأسماء والمستقبل.
دوامة أحداث
تعيش الراوية الشابة سلسلة أحداث مثيرة للقلق تعجز عن الفرار منها. أحداث تقع على الصعيد الشخصي والعائلي والاجتماعي. فراوية "بائع الحليب" فتاة منطوية على ذاتها تحاول عدم التميز أو الظهور على ساحة الأحداث. هي فتاة بالكاد ترفع رأسها عن كتبها وتثابر على القراءة والاهتمام بشؤونها الخاصة حتى وهي تسير في الشارع. وعلى الرغم من دأبها على التخفي والبقاء في الظل، يظهر طيف بائع الحليب ليعكر صفو حياتها. وبائع الحليب هذا هو رجل متزوج وفي الواحدة والأربعين من عمره لا يبيع الحليب إنما يُعرف بهذا الاسم. فيروح يتعقبها ويثير توترها ويتدخل في حياتها ويهدد صديقها ويتعمد أن يظهر لها أنه يعرف كل شيء عنها وأنها في قبضته تماماً.
ولا يكتفي بائع الحليب بتعقب الفتاة الشابة بل يروح يظهر لها بوقاحة في مختلف أوقات يومها ما يثير الريبة حولها ويحولها إلى حديث المنطقة كلها. فتنطلق إشاعات حول علاقة تربط هذه الفتاة ببائع الحليب، ويروح الناس يتهامسون حولها ويشيرون إليها بالأصابع من دون أن يتكبدوا عناء فهم ما يجري فعلياً. والدة الفتاة نفسها تروح تراقبها ولا تتوانى في لومها ومعاتبتها وحضها على قطع علاقتها ببائع الحليب. وتزداد الضغوطات العائلية على هذه الفتاة التي هي في الأصل لا تعرف شيئاً عن بائع الحليب ولم تتحدث معه حتى ولم تركب سيارته يوماً كما زعمت الأقوال.
وبين تعقب بائع الحليب وضغط الأم وإشاعات المجتمع، تأتي الأحداث السياسية لتضفي المزيد من الاضطراب على راوية تحاول قدر الإمكان البقاء في الظل وبعيداً من الأعين والألسن.
"بائع الحليب"، رواية متوترة مضطربة تثير قلق القارئ وترقبه بأسلوب متوهج مميز وبحنكة سردية مجددة ورؤيوية. فتطرق أنا برنز الإيرلندية مواضيع سياسية اجتماعية نفسية شيقة وبعيدة بعض البعد عن مواضيع الأدب العالمي الشائعة وذلك في إطار من الطرافة السوداوية والجمل المرهبة التي تزيد من إحكام الحبل حول رقبة الراوية والقارئ معاً.