تتكثف التحركات الدبلوماسية حيال الوضع اللبناني على بعد قرابة 12 يوماً من نهاية ولاية الرئيس ميشال عون التي تنتهي معها أيضاً المهلة الدستورية لانتخاب الرئيس الجديد، إذ يتحول البرلمان اللبناني إلى هيئة ناخبة وفقاً للدستور، وسط القلق المحلي والخارجي من حصول الشغور في الرئاسة لتعذر تأمين أكثرية تضمن نصاب الثلثين (86 نائباً) لانعقاد المجلس النيابي، وكذلك الأكثرية المطلقة (65 نائباً) لإنجاح أي مرشح في الدورة الثانية من الاقتراع، باعتبار أن الدورة الأولى التي توجب أكثرية الثلثين سبق أن أجريت في 29 سبتمبر (أيلول) الماضي، من دون أن يتمكن أي مرشح من الحصول على العدد المطلوب.
اقتراب انتهاء الولاية الرئاسية العونية في ظل الخلاف بين رئيس الوزراء المكلف نجيب ميقاتي والرئيس عون على تأليف الحكومة الجديدة والتجاذب بين عون وسائر القوى السياسية والكتل البرلمانية حول أحقية حكومة تصريف الأعمال برئاسة ميقاتي نفسه، أن تتولى سلطات الرئاسة، عزز المخاوف الخارجية من تداعيات الفراغ الرئاسي على التأزم السياسي في البلد.
بخاري وعون
لفتت في هذا السياق زيارة السفير السعودي لدى بيروت وليد بخاري لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ثم لرئيس البرلمان نبيه بري، في وقت تعتبر الأوساط المراقبة والسياسية أن زياراته لعون نادرة جداً. وسجل المراقبون دلالات مهمة لتصريحات أدلى بها السفير بخاري قبل وبعد اجتماعه بالرئيس عون. فهو غرد على "تويتر" عشية تحركه قائلاً "وثيقة الوفاق الوطني (اتفاق الطائف) عقد ملزم لإرساء ركائز الكيان اللبناني التعددي، والبديل عنها لن يكون ميثاقاً آخر، بل انفكاك لعقد العيش المشترك، وزوال الوطن الموحد واستبداله بكيانات لا تشبه لبنان الرسالة". فالجانب السعودي يشدد في مواقفه كافة، وكذلك بيانات مجلس التعاون الخليجي، والبيانات المشتركة التي تصدر عن السعودية ودول غربية، لا سيما الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا على أولوية تنفيذ اتفاق الطائف الذي باتت مندرجاته الدستور اللبناني عبر التعديلات التي أدخلت عليه عام 1990 تكريساً لـ15 سنة من الحرب الأهلية مقابل مطالبة البعض بتعديل هذا الدستور.
كما أن بخاري أكد بعد لقائه الرئيس عون "حرص السعودية على وحدة لبنان وشعبه وعمقه العربي، انطلاقاً من المبادئ الوطنية الميثاقية التي وردت في اتفاق الطائف، الذي شكل قاعدة أساسية حمت لبنان وأمنت الاستقرار فيه". وشدد على "أهمية إنجاز الاستحقاقات الدستورية في مواعيدها".
ولفت السفير السعودي إلى أن الرئيس عون "أكد حرصه على تفعيل العلاقات بين لبنان والسعودية لما فيه مصلحة الشعبين الشقيقين".
فرنسا وأميركا والجامعة العربية
في المعطيات المتوفرة لدى العارفين بموقف الرياض فإن التحرك السعودي ليس معزولاً عن تحركات أخرى حصلت، ويمكن أن تحصل، في إطار تنسيق الجهود الخارجية لإبقاء لبنان في دائرة الاهتمام والرعاية في هذه المرحلة الدقيقة التي يمر بها بحكم الاستحقاقين الرئاسي والحكومي، ومن أجل استباق أي تأزم بفعل الشغور المحتمل، بالإلحاح على إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها. ولا تفصل هذه المعطيات التي تؤيدها مصادر دبلوماسية معنية بموقف الرياض، التحرك السعودي عن زيارة وزيرة أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسية كاترين كولونا يومي الخميس والجمعة في 13 و14 أكتوبر (تشرين الأول) لبيروت، إذ التقت عون وبري وميقاتي ونظيرها اللبناني عبدالله بوحبيب، فشددت بدورها على "ضرورة إيفاء القادة اللبنانيين بمسؤولياتهم" لجهة انتخاب رئيس الجمهورية المقبل في الموعد الدستوري، وتشكيل حكومة جديدة. واعتبرت أنه "مكلف وخطر أن تفرض على اللبنانيين أزمة سياسية لها توابع وعواقب لأزمة سياسية اقتصادية أخرى".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتشير المصادر إلى الزيارة التي سبقت تحرك الوزيرة كولونا، أي الجولة التي قام بها مساعد الأمين العام للجامعة العربية السفير حسام زكي في 6 و7 أكتوبر، والتقى الرؤساء الثلاثة وقيادات سياسية. وأكد أن "لبنان لا يتحمل الفراغ الرئاسي وحالة الاعتياد على الأزمة". وأوضح زكي أنه استشعر تبايناً كبيراً في وجهات النظر بين الزعماء السياسيين، فضلاً عن ضعف قنوات التواصل في ما بينهم، الأمر الذي قد يدخل البلاد في وضع شديد الصعوبة".
ولا تستبعد أوساط أخرى حصول تحركات خارجية جديدة للحث على انتخاب رئيس جديد، فيما أفادت مصادر مواكبة للموقف السعودي عن كثب، أن هناك قيادات سياسية وزعامات واعية لحراجة الموقف في حال حصول فراغ رئاسي وتستشعر أهمية تدارك الوضع في الساعات الـ24 التالية لحصوله، وللحيلولة دون أي انزلاق أمني نتيجة التأزم، مشيرة إلى الدور الذي يمكن أن يلعبه الرئيس بري في هذا السياق، كما لفتت إلى أن بري أبدى ليونة لتسهيل تشكيل الحكومة الجديدة حين اقترح تولي الوزير السابق ياسين جابر حقيبة المال مكان الوزير الحالي يوسف الخليل، وأن رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط لم يطلب شيئاً سوى أن يتم توزير شخصية غير مستفزة بدل الوزير الدرزي (عصام شرف الدين يتولى حقيبة المهجرين) الذي اقترح رئيس الحكومة استبداله.
السعودية لم تنسحب من لبنان
لكن المصادر نفسها حرصت على التأكيد أن تحرك السفير بخاري دليل على أن الاستنتاجات بأن السعودية انكفأت عن لبنان غير صحيحة، وأنها لم تنسحب من لبنان ولم تتركه للقوى الإقليمية الأخرى، خلافاً للانطباعات التي ينجر إليها البعض بفعل الترويج الإعلامي. فالسعودية سبق أن وعت قبل سنوات، بعد دراسة عميقة للعلاقة بين البلدين، للمسار الذي يسلكه الوضع الاقتصادي المالي في لبنان، بعد سلسلة مؤتمرات باريس 1 و2 و3، ثم مؤتمر "سيدر" في عام 2018. وكان تقييم المسؤولين فيها أن الوضع متجه نحو الانحدار، وقررت وضع إطار قانوني للعلاقات الاقتصادية للمرة الأولى منذ عشرات الأعوام من الاستثمار السعودي في البلد، عبر مشاريع الاتفاقات الـ22 التي بدأ التفكير بها منذ عام 2014 من أجل تجنب الأزمة.
وفي عام 2017 أنجزت صياغتها، وهي تتناول الأوجه والميادين المعنية بها الوزارات كافة. وتشير المصادر إلى أنه في عام 2017 جرى التداول في نصوصها على الصعيد الرسمي بين البلدين، لإتمام صياغتها، وكان رئيس الحكومة اللبنانية آنذاك سعد الحريري أكثر الملحين، في لقاءاته مع السفير بخاري، على الإسراع في توقيعها، لكن ذلك تأخر إلى أن انفجرت الأزمة في لبنان في أكتوبر من عام 2019.
في سردها لرواية التحضير للاتفاقات الـ22 تشير المصادر إلى أنها انطلقت من حرص القيادة السعودية على مساعدة لبنان في معالجة أزمته الاقتصادية المالية بأسلوب لا يكرر التجارب السابقة، أي بعقد مؤتمرات دولية جديدة (باريس 4 مثلاً) لجمع الأموال وضخها في الاقتصاد لتذهب هدراً، جراء ممارسات الطبقة السياسية.
الحضور السعودي السياسي
وإذ تستدل مصادر دبلوماسية سعودية من تحرك بخاري على عدم صحة الاستنتاجات حول انسحاب الرياض من لبنان أو انكفائها عنه، تضيف إلى الرواية عن القرار بمأسسة العلاقات الاقتصادية أن السعودية تابعت وتتابع الوضع اللبناني بتنسيق متواصل مع الدول المعنية وبالتواصل مع القيادات اللبنانية. وهي تتوقف أمام مرحلة تحول لبنان إلى منصة للمواقف العدائية ضد السعودية، وتأخذ على كبار المسؤولين اللبنانيين أنهم تجاهلوا اتخاذ موقف ضد الاعتداءات المكشوفة بصواريخ وأسلحة إيرانية على أراضيها إلى درجة أن عدد الصواريخ الباليستية التي أطلقت عليها بلغ 560 صاروخاً، شملت قصف منشآت شركة "أرامكو" مصدر الطاقة العالمي الأول والحرمين والعاصمة. وهذا أمر لا تحتمله أي دولة في العالم، في وقت كان التوجيه والتسليح والتدريب والإعلام (التابع للحوثيين) يبث من الأراضي اللبنانية. ولم تصدر إدانات رسمية، ولم يدع مجلس الوزراء من أجل محاولة اتخاذ موقف من هذه الاعتداءات. فهيأ ذلك لرد الفعل الخليجي إزاء هذا التجاهل.
وكشفت المصادر عن أن خريطة الطريق التي رسمها البيان الثلاثي الأميركي - الفرنسي - السعودي المشترك حول لبنان إثر اجتماع وزراء خارجية الدول الثلاث في نيويورك أواخر سبتمبر (أيلول) جاءت بعد اتصالات بين المسؤولين في الدول الثلاث، في محطات عدة، البارز منها لقاءات باريس (مطلع سبتمبر) بعد زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى باريس في أواخر أغسطس (آب) بين الفريق الرئاسي الفرنسي المكلف ملف لبنان وبين الفريق السعودي المعني بهذا الملف، ويضم المستشار في الديوان الملكي نزار العلولا والسفير بخاري ومسؤولين آخرين، استندت إلى وقائع ومبادئ كالآتي:
- أن الجانب السعودي حسم مع الجانب الفرنسي ما أشيع وينشر عن أن باريس تنوي الدعوة إلى مؤتمر للحوار بين اللبنانيين، وصولاً إلى عقد اجتماعي جديد، محذراً من أن خطوة كهذه تعني حرمان الرئيس الجديد للجمهورية من أن يقود حواراً داخلياً من دون تدخل خارجي، وأنها قد تنسف اتفاق الطائف في هذه المرحلة، وتشجع من يسعى إلى تعديله، فجاء الجواب من المستشار الرئاسي الفرنسي باتريك دوريل أن كل ما ينشر في هذا الصدد، سواء في الإعلام الفرنسي أو اللبناني، هو أخبار كاذبة ولا نية لفرنسا أن تدعو إلى مؤتمر للحوار. استتبع ذلك تأكيد فرنسي بتنفيذ اتفاق الطائف. وانعكس ذلك على تنفيذه في البيانات اللاحقة التي صدرت.
- أن السعودية لا تنوي التدخل في أسماء المرشحين للرئاسة، لكنها تأمل، وفق المداولات مع الدول المعنية بلبنان، مجيء رئيس للجمهورية سيادي من ضمن سلة تشمل رئيس الحكومة أيضاً، فيحرصان مع الحكومة، على عدم تحول لبنان إلى منطلق للأعمال المعادية للدول العربية والخليجية كما كانت الحال في السنوات الماضية. وهناك تشديد في هذا السياق على أن أي رئيس تحوم حوله شبهة الفساد السياسي والمالي لن يكون في مصلحة البلد، ولن يكون مقبولاً من الدول العربية.
- أن المسؤولين في السعودية أجروا تقييماً لاستمرار تدهور الوضع الاقتصادي والحياتي في البلد، وعقدوا اجتماعات مع مسؤولين في دول مجلس التعاون الخليجي عقب بيان نيويورك، في جهد من أجل وضع مشروع يأتي في سياق الموقف الذي صدر في ذلك البيان، وتوصلوا إلى نص يتناول الحلول لجميع جوانب الأزمة في البلد. وفي حال جرت انتخابات الرئاسة وفق المواصفات المذكورة، وجرى توقيع الاتفاقات الـ22، مع ما يعنيه ذلك من ضخ استثمارات في إطار التعاون الاقتصادي، فإن جميع الدول المعنية بلبنان ستقبل بحماس على تقديم المساعدات المالية له وتستثمر في إعادة العجلة الاقتصادية إلى الدوران.
- أن الرياض لن تسمح بأي تسوية في المنطقة على حساب لبنان، وسيكون موقفها هذا ثابتاً مع حلفائها وفي العلاقة مع الأصدقاء وسائر الدول.