للعام الثامن على التوالي تعاني ليبيا أزمة حادة وانسداداً سياسياً بسبب النزاع المستمر على الشرعية الذي بدأت فصوله عام 2014، وتبدلت أطرافه مرات كثيرة، لكنه ظل قائماً وعائقاً أمام أي حل يطرح، وجر البلاد إلى حلقة مفرغة من الانقسام التشريعي والتنفيذي وتداخل الصلاحيات وتنازعها.
ومنذ شهر مارس (آذار) من العام الحالي وجدت البلاد نفسها أمام صراع جديد وسؤال قديم وهو من هو الطرف الشرعي بين المتصارعين على السلطة في ليبيا؟ ومن أين يستمد شرعيته في ظل الفشل المتكرر في تنظيم انتخابات عامة تبدل الواقع القائم وتحسم النزاع المستمر على الحكم والشرعية؟
أزمة الشرعية
بدأت أزمة الشرعية وصلاحية الأجسام الحاكمة في ليبيا عام 2014 عقب الانتخابات التشريعية التي أنتجت مجلس النواب الحالي وانتهت بخسارة فادحة لتيار الإسلام السياسي على رغم الإمكانات الكبيرة التي سخرت للدعاية لمرشحيه، إذ رفض الاعتراف بهذه النتيجة وحاول قلبها عبر مسارين، قانوني من خلال التشكيك في سلامة العملية الانتخابية البرلمانية، ثم عسكري من طريق عملية "فجر ليبيا".
وبدأت أزمة الانقسام السياسي والجدل القانوني في شأن شرعية الأجسام التشريعية والتنفيذية المنبثقة عنها نهاية عام 2014، حينما قضت الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا في طرابلس بعدم دستورية قرارات "لجنة فبراير" المشكلة من المؤتمر الوطني العام في شأن تعديلاتها على الإعلان الدستوري وقرارها إجراء انتخابات برلمانية عاجلة، وبالتالي بطلان انتخابات البرلمان الحالي الذي كان وقتها بدأ يعقد اجتماعاته في طبرق.
وقبلت المحكمة بذلك طعن عدد من نواب المجلس المنتخب في يونيو (حزيران) من ذلك العام الذين قاطعوا جلساته وطعنوا أمام المحكمة في دستورية عقد النواب جلساتهم بطبرق.
المؤتمر الوطني العام (البرلمان السابق) الذي شكل "لجنة فبراير" لتعديل الدستور تراجع بعدها عن قراره وقدم طعناً قضائياً لإلغاء قراراتها التي اعتبرها تجاوزاً للصلاحيات الممنوحة لها.
انقسام في الجلسة الأولى
وظهرت بوادر الانقسام الذي تتجه إليه ليبيا منذ الجلسة الأولى للبرلمان الجديد والتي أحدثت خلافاً سياسياً حاداً، إذ قاطعها عدد من النواب وعلى رأسهم المحسوبون على تيار الإسلام السياسي، الذين رفضوا الذهاب إلى الاجتماع في طبرق كونها من المدن المؤيدة للعملية العسكرية التي أطلقها اللواء وقتها خليفة حفتر ضد كتائب إسلامية في مدينة بنغازي.
ودعا النواب المقاطعون إلى الالتزام بالإعلان الدستوري الذي أصدره المؤتمر الوطني والذي ينص على أن مدينة بنغازي هي المقر الدائم للبرلمان، بينما تمسك النواب الداعمون لعقد الجلسات في طبرق، ومعظمهم محسوبون على التيار الليبرالي، بشرعية قرارهم بعد موافقة 158 نائباً، وهو عدد يتجاوز النصاب القانوني المطلوب لانعقاد المجلس.
تشظ واصطفاف
الخلاف القانوني والدستوري في شأن شرعية الانتخابات التي أفرزت البرلمان الجديد كان نواة انشطار المؤسسة التشريعية وتبعتها الأجسام التنفيذية، إذ عاود المؤتمر الوطني عقد جلساته في طرابلس وشكل حكومة برئاسة عمر الحاسي، بينما شكل مجلس النواب في طبرق حكومة موقته برئاسة عبدالله الثني وزير الدفاع السابق في حكومة علي زيدان.
ويصف الإعلامي عمر الجروشي تلك المرحلة بأنها كانت مرحلة مفصلية وبداية تعقد المعضلة الليبية، "ففي تلك المرحلة بدأ رفاق الانتفاضة ينقلبون على بعضهم، ويكشف كل منهم عن توجهاته ونياته، وكما جمعتهم بنغازي صفاً واحداً في وجه نظام القذافي فقد كانت أيضاً العامل الرئيس لتفرقهم بسبب الأحداث التي كانت تشهدها وقتها من تفجيرات واغتيالات لنشطاء وأفراد المؤسسة الأمنية والعسكرية، وتبادل الاتهامات في شأنها".
وأضاف، "في تلك المرحلة التي تشكل فيها البرلمان الحالي كانت البلاد تشهد اصطفافاً ظاهراً وحاداً بين معسكرين، معسكر التيار الليبرالي الذي بدأ يتحالف مع بقايا المؤسسة العسكرية والمعسكر الإسلامي، والذي بلغ أشده في حرب طرابلس التي هزم فيها المعسكر الأول وخرج من العاصمة إلى يومنا هذا".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتابع، "تلك الأحداث خلقت معسكرين متضادين في العقيدة السياسية والوطنية في بنغازي وطرابلس، وعلى رغم كل محاولات الجمع بينهما إلا أنهما لا يزالان حتى هذه اللحظة لا يثقان في بعضهما، مما أفشل كل المشاريع السياسية التي رعتها الأمم المتحدة للاتفاق على خريطة طريق تحسم خلافاتهما وتقود البلاد إلى مرحلة جديدة مستقرة سياسياً".
ظهور فايز السراج
في عام 2015 سعت الأمم المتحدة إلى إيجاد حل للمأزق المعقد الذي دخلت فيه ليبيا تحت ضغط كبير من دول الجوار ومحيطها الإقليمي وخصوصاً الاتحاد الأوروبي، بعد بروز آثار أمنية خطرة للأزمة الليبية، وتحديداً على كل هؤلاء، ففي وقت كان العالم مشغولاً بوقف تمدد تنظيم "داعش"، كانت القارة الأوروبية تعاني تدفقاً غير مسبوق للمهاجرين غير الشرعيين كانت ليبيا قاعدة انطلاق رئيسة لهم إلى شواطئ القارة العجوز.
وعلى عكس المتوقع فقد عمقت المفاوضات التي رعتها بعثة الأمم المتحدة في الصخيرات المغربية النزاع على الشرعية في البلاد، وشرعنت جسماً جديداً في طرابلس بصلاحيات تشريعية وتنفيذية في آن واحد، تحت مسمى "المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق" برئاسة فايز السراج.
الذهاب إلى حرب جديدة
احتدم النزاع القانوني، وهو نواة الصراع السياسي والعسكري، في تلك الفترة ولسنوات لاحقة، عقب رفض مجلس النواب الاعتراف بالحكومة الجديدة التي شكلت في العاصمة، ومددت لحكومة عبدالله الثني، وانقسمت مؤسسات سيادية جديدة في البلاد مثل المصرف المركزي والمؤسسة النفطية، والأخطر كان انقسام المؤسسة العسكرية بعد قرار البرلمان تعيين خليفة حفتر قائداً عاماً للجيش بعد ترقيته إلى رتبة مشير، وهو ما رفض في الغرب الليبي، وبناء على هذا الرفض شكلت رئاسة أركان مستقلة في طرابلس.
وبلغ صراع الصلاحيات أشده وقتها بعد تنازع المجلس الرئاسي والبرلمان على صفة القائد الأعلى للجيش، وأدى إلى العملية العسكرية التي شنها حفتر على طرابلس لإسقاط حكومة السراج بتأييد ودعم مجلس النواب.
هدنة قصيرة
في عام 2020 عرفت ليبيا للمرة الأولى منذ ست سنوات مرحلة قصيرة حلت فيها معضلة الشرعية والانقسام السياسي والمؤسساتي عقب الاتفاق في جنيف على تشكيل حكومة موحدة للبلاد برئاسة عبدالحميد الدبيبة حازت ثقة البرلمان، وعاشت البلاد لعام واحد تحت قيادة مجلس نواب واحد وحكومة موحدة في انتظار الاحتكام إلى شرعية الصندوق، وهو الحلم الذي تلاشى عقب فشل تنظيم الانتخابات العامة التي كانت مقررة نهاية عام 2021.
ولم يمض وقت طويل قبل أن تدخل ليبيا في المتاهة نفسها عقب تشكيل حكومة جديدة من البرلمان برئاسة فتحي باشاغا، ورفض حكومة الدبيبة الاعتراف بالقرار وتسليم السلطة إليها، مع فتح الملف القديم لعدم صلاحية مجلس النواب لإدارة البلاد بسبب حله بحكم قضائي عام 2014.
ومع عودة الانقسام السياسي وحتى النزاع المسلح على السلطة، وادعاء كل طرف حقه الشرعي في وصالها والوصول إليها، عاد الجدل القديم ليؤرق الليبيين فيمن هو الطرف الشرعي المؤهل لحكمهم؟ ومن أين يستمد شرعيته؟ ومن له صلاحية نزع الشرعية عن من؟ ومتى ينتهي هذا الصراع العقيم؟