لمناسبة رحيله المؤسي بقراره الخاص هو الذي اعتاد أن يعيش دائماً تبعاً لقراراته الخاصة، تحدث كثر عن السياسة في أفلام جان لوك غودار، وربما كان ذلك التخصيص لأنه قد سها بال المتحدثين أن غودار لم يتحدث في كل سينماه، ومهما كانت بعيدة عن السياسة إلا عن السياسة، ويمكننا أن نضيف هنا في ما قد يعنينا أكثر من غيره، كيف أن غودار جعل من فلسطين أحد هواجسه الأساسية في فنه وحتى من قبل مشروعه الذي لم يكتمل كما أراد له أن يكون، "ثورة حتى النصر" (1970) الذي عاد واستخدم ما صوره من مشاهده في الأردن في فيلم عن قضية الإعلام عنونه "هنا وهناك"، والحقيقة أن عدداً من المهتمين بسينما غودار منذ بداياتها استغربوا كيف أن اهتمامه السينمائي بفلسطين وقضيتها فاق ومن بعيد اهتمامه بالجزائر على رغم أنه ينتمي إلى جيل من المثقفين الفرنسيين شكلت الحرب الجزائرية بالنسبة إليهم بدايات إطلالهم على السياسة.
على طريقته الخاصة
والصحيح أن الهم الجزائري لم يبتعد عن سينما غودار، لكنه دنا منه دائماً على طريقته الخاصة، بل كان ذلك الدنو أبكر مما يعتقد، وتحديداً منذ حقق فيلمه الروائي الطويل الثاني "الجندي الصغير" (1960) الذي لن يكون إلا رابعاً في ترتيب عرضه نظراً إلى أن الرقابة الفرنسية حظرت عرضه طوال سنوات قبل أن تسمح به، وذلك لأن القضية الجزائرية كانت شديدة الحساسية عند بداية سنوات الستين حين أنجز غودار فيلمه في وقت كان فيه الجنرال ديغول يخوض صراعاً عنيفاً مع اليمين الفرنسي المتطرف الذي أغضبه وقوف ديغول إلى جانب الاستقلال الجزائري بشكل أو بآخر، ولم يكن موضوع "الجندي الصغير" موضوعاً يمكن هضمه في مثل تلك الظروف، فالموضوع الذي عالجه غودار على أية حال بقدر كبير من الالتباس، يدور حول شاب فرنسي يعيش في جنيف هرباً من السلطات العسكرية الفرنسية بسبب فراره من الجندية دون أن يكون لموقفه أي بعد أيديولوجي، كل ما في الأمر أنه شاب لا يحب الحرب ولا يفهم كثيراً في السياسة، بل ها هو ينخرط في عمل لا يدرك أخطاره مع منظمة فاشية تريد أن تبقي الجزائر فرنسية، ودون أن يبالي بسياسات تلك الجمعية، لكنه في الوقت نفسه يرتبط بعلاقة بفتاة مسيسة تعمل مع جبهة التحرير الجزائرية.
انتماءات متناقضة
في البداية لا يرى الشاب غضاضة في أن يرتبط بالعمل من ناحية وبالحب من ناحية أخرى بجانبين متناقضين كل التناقض، وليس هذا لأننا هنا في إزاء شاب ساذج من الناحية السياسية، فهو في حقيقة أمره كان هو بمفرده من اتخذ قراره بالفرار من الجندية مع كل ما سيكون من شأن ذلك أن يتسبب له من مشكلات، في نهاية الأمر من الواضح فكرياً أن الفتى برونو، إنما يسعى إلى أن يحقق ما يتصور أنه حريته المطلقة في اختياراته، بيد أن الأمور لا يمكنها أن تسير على هذا النحو، وهو الأمر الذي لن يكتشفه مطلقاً، وبعد أن يكون قد دفع ثمناً باهظاً، فرفاقه في المنظمة الفاشية ومن جراء ارتباطه بفيرونيك، يشكون في أمره معتقدين أنه إنما يلعب لعبة مزدوجة، ولذا يكلفونه على سبيل الامتحان أن يقتل بنفسه صحافياً يعمل في الإذاعة السويسرية ومن عادته الدفاع عن الثوار الجزائريين، لكن برونو وبعد تفكير وإذ قال لنفسه إنه إذا كان قد فر من الجندية كي لا يضطر إلى قتل أناس لا يعرفهم ولم يتسببوا له بأية أذية، لكنه قد يتوجب عليه الآن أن يقتل هذا الصحافي لسبب غير واضح ربما لا يكون أكثر من تمسكه بحرية التعبير عن أفكاره، وهكذا سرعان ما يرفض القيام بتلك المهمة، فهو من حيث المبدأ أصلاً لايستسيغ الانتقال من التفكير إلى الفعل، وهنا قد يكون من الملائم أن نذكر أن واحدة من العبارات الأولى التي يتفوه بها في الفيلم هي تلك التي يقول فيها على سبيل تبريره لنفسه خطوته التي اتخذها بالهروب من الجندية "إنني أتقدم في السن وحان الوقت كي أنتقل من الفعل المباشر إلى التأمل والتفكير الهادئين". ولكن هنا لكي يرغمه رفاقه الفاشيون على الانخراط بالفعل يرتبون حادثة غير ذات معنى سيكون مآله فيها أن يهرب من البوليس السويسري كي يقبض عليه وتنجلي حقيقته.
على المقلب الآخر
وهنا على المقلب الآخر، سيكون رجال جبهة التحرير الجزائرية قد بدأوا بدورهم يترصدونه معتقدين أنه يعمل عن قصد ضدهم، ويعذبونه تعذيباً شديداً لكنه يتمكن من الإفلات منهم وينضم إلى فيرونيك ليتفقا على الهروب معاً إلى البرازيل، لكن خطتهما للهروب تفشل في اللحظة نفسها التي خيل إليه أنهما قد أفلتا هو من الجزائريين وهي من الفاشيين الفرنسيين، فهؤلاء لن يتركوه يفلت من بين أيديهم بمثل هذه السهولة، بل سيخطفون صديقته فيرونيك ويعذبونها تعذيباً شديداً يتسبب في موتها بالنظر إلى أنهم يعرفون ارتباطها بالجزائريين، لكن ذلك لن يحدث إلا بعد أن يرضخ برونو للقيام باغتيال الصحافي، وفقط على سبيل التخلص من ذلك المأزق الذي وقع فيه موقعاً معه فيرونيك، وللبرهنة مرة أخيرة للفاشيين أنه ليس عميلاً مزدوجاً بل هو مجرد شخص غير مبال، وهكذا، ينفذ في نهاية الأمر أمر القتل الذي كان قد كلف تنفيذه ويقتل الصحافي السويسري وقد اعتقد أنه بهذا الفعل "الذي لا أهمية له على أية حال" يتخلص من الحكاية كلها، لكنه إذ يجهز على الصحافي ويعود إلى الفاشيين ليبلغهم بما فعل يفاجأ بأنهم قد قتلوا الفتاة.
موقف متفرد ولوم لا يتوقف
لقد كان غريباً حقاً أن يتناول جان لوك غودار في العام الذي حقق فيه هذا الفيلم، الحرب الجزائرية من هذا المنظور الملتبس الذي يركز على ممارسات التعذيب التي يقوم بها الثوار الجزائريون بقدر ما يمارسها اليمينيون الفرنسيون المتطرفون، وكان ذلك مأخذاً عليه في وقت كان فيه مخرجون فرنسيون (ومن بينهم طبعاً آلان رينيه في "مورييل أو زمن العودة") من زملائه يعرضون وفي ذلك العام نفسه أفلاماً لهم بدت أقرب إلى تأييد الجزائريين أو على الأقل إلى التنديد بالحرب الظالمة التي تُشن ضدهم، وأكثر إدانة بشكل خاص لممارسات السلطات الفرنسية من فيلمه الذي بالكاد أشار إلى هذه الأخيرة مكتفياً بالتنديد باليمين المتطرف، ولكن مع وضع ممارسات بعض الثوار الجزائريين على قدم المساواة مع ممارساتهم، لكن غودار سيفسر هذا لاحقاً بأنه لم يكن يحقق فيلماً سياسياً بل فيلماً فلسفياً عن الحرية بالمعنى المطلق وعن حرية الاختيار بالمعنى الحصري.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هكذا تكلم سكورسيزي
بل يمكننا حتى القول هنا، دون أن يعني هذا من ناحيتنا تبريراً تبسيطياً لموقف غودار، إن ما كان يهم غودار في هذا الفيلم ليس موضوعه ورسائله السياسية، إنما تلك التجديدات الشكلية التي جعلت كثراً من النقاد بمن فيهم أولئك الذين كثرت مآخذهم السياسية على التباسات فيلمه، يقولون إنه لئن كان غودار قد ختم بفيلمه الأول "على آخر رمق" زمناً سينمائياً كان يتطلع إلى القطع معه، فإنه في "الجندي الصغير" افتتح زمنه السينمائي الجديد الذي جعل مارتن سكورسيزي، على سبيل المثال، يروي في نص بديع كتبه تعليقاً على رحيل غودار قبل أسابيع، ونشرته مجلة "كراسات السينما" كيف أنه باكراً في مساره السينمائي، كان من عادته أن يشتغل وحده على توليف فيلم له في هدأة غرفة التوليف الخاصة به، وكان قد اعتاد أيضاً أن يمرر من دون صوت على سبيل الاستلهام عبر جهاز خاص أمام عينيه مشاهد لا يبالي حقاً بمن هو مخرجها ولا من أي فيلم أتت، لكنه قال إنه كان ما إن يمر مقطع من أي فيلم لغودار يدرك سريعاً أنه غوداري ويتوقف عن العمل معيداً عرضه مرات ومرات.