بعد 43 يوماً فقط من وصولها إلى منصبها، استقالت وزيرة الداخلية البريطانية سويلا بريفرمان. ومع أن لدى بريفرمان مخاوف جدية حيال التزام الحكومة الحالية بما تعهدت به للناخبين في الانتخابات الأخيرة، إلا أن السبب المعلن لاستقالتها هو قيامها بإرسال مستند رسمي من بريدها الإلكتروني الشخصي، فيما اعتبر "انتهاكاً تقنياً" لقواعد الحكومة. اعترفت الوزيرة المستقيلة بغلطتها في رسالة وجهتها إلى رئيسة الحكومة نشرت على "تويتر"، قالت فيها: "لقد أخطأت، أتحمل المسؤولية، وأستقيل".
ربما فضلت الوزيرة الانسحاب بشرف قبل أن تُقال من منصبها كما حدث مع اللورد بيثيل السنة الماضية عندما حرمه رئيس الوزراء البريطاني حينها بوريس جونسون من منصب وزير الدولة بوزارة الصحة، بسبب ما أثير من جدل حول استخدامه بريداً إلكترونياً شخصياً في أمور تخص الوزارة. وكان بيثيل ثاني ضحية في الوزارة نفسها للأزمة عينها بعد إقالة الوزير مات هانكوك بسبب القضية ذاتها.
استقالة بريفرمان ليست مستغربة، لكن الغريب هو أنها ارتكبت تجاوزاً يعد من ألف باء السياسة: عدم الخلط بين ما هو شخصي ورسمي على كل المستويات، بخاصة أن هناك قصصاً مشابهة سابقة في حكومة بلادها بيّنت بشكل واضح جداً خطورة مثل هذا "التهاون" أو "الاستسهال".
ولعل أفضل درس يمكن للمسؤولين تعلمه، هو خلاصة تجربة هيلاري كلينتون عندما كانت وزيرة لخارجية الولايات المتحدة الأميركية، التي عزت خسارتها في الانتخابات الرئاسية عام 2016 إلى حد كبير إلى استغلال خصمها الجمهوري آنذاك دونالد ترمب قضية رسائل البريد الإلكتروني لتقويض فرصها في محاولتها الثانية للعودة إلى البيت الأبيض، رئيسة له وليس سيدة أولى.
"ذرائع" هيلاري كلينتون
ترجع قصة البريد الإلكتروني الشخصي (التي تحولت إلى فضيحة لاحقاً) إلى ربيع عام 2015، عندما كشفت صحف أميركية أن كلينتون كانت تستخدم خادم بريد إلكتروني خاصاً لمراسلاتها الرسمية في عملها بوزارة الخارجية. وكانت كلينتون أنشأت عنوان البريد الإلكتروني المقصود من منزلها في نيويورك عام 2009، قبل فترة وجيزة من أدائها اليمين كوزيرة للخارجية، ثم اعتمدت على هذا الخادم، في جميع المراسلات المهنية والشخصية على مدى السنوات الأربع التي قضتها في منصبها ولم تستخدم أو تفعل حسابها الرسمي على موقع الحكومة state.gov المرتبط بخوادم تديرها الحكومة الأميركية للمراسلات الرسمية.
في مارس (آذار) عام 2015، نشرت صحيفة "نيويورك تايمز"، تقريراً يقول باحتمالية انتهاك الشروط الفيدرالية ويحذر من أخطار مراسلات المسؤولين الحاليين والسابقين خارج الإطار الحكومي. حوّل هذا التقرير قضية رسائل كلينتون الإلكترونية إلى قضية رأي عام في الولايات المتحدة وأخضع السيدة لتحقيقات فيدرالية.
في محاولة لتبرير فعلتها، قالت كلينتون في مؤتمر صحافي إن السبب الرئيس وراء إنشاء حساب بريد شخصي هو "الراحة"، مضيفة أنها تفضل حمل هاتف ذكي واحد فقط، واستخدام عنوان بريد إلكتروني واحد، بدلاً من حمل جهازين، أحدهما للعمل والآخر للمراسلات الشخصية". يرجع السبب في ذلك إلى أن هواتف "بلاك بيري" التي كانت تعتمدها الحكومة الأميركية لم تكن قادرة على دعم استخدام حسابات بريد إلكتروني متعددة في وقت واحد. وتذرعت كلينتون باعتقادها "أن استخدام جهاز واحد فقط سيكون أبسط".
لكن في تقرير نشرته "بي بي سي" عام 2016، تبين أن الموضوع لم يكن بتلك البساطة. فبتلك الطريقة كانت كلينتون المتحكم الوحيد في ما يجب وما لا ينبغي تقديمه للحكومة، أو الإعلان عنه بموجب قانون حرية المعلومات أو تسليمه إلى الأطراف المعنية.
كذلك أشار تحقيق أجراه مكتب التحقيقات الفيدرالي إلى أن كلينتون استخدمت أجهزة شخصية عدة خلال وجودها في مكتبها بوزارة الخارجية، واعتمدت عدة خوادم للبريد الإلكتروني، ما اضطر موظفين في الخارجية إلى تحطيم عدد من الأجهزة المستخدمة بواسطة مطرقة للتخلص منها، بينما بقيت أجهزة أخرى.
على رغم التحقيقات التي أجريت مع كلينتون، إلا أنه لم توجه لها اتهامات بوجود جريمة فيدرالية، بل اكتفي بالإشارة إلى ارتكابها "إهمالاً بليغاً".
واستفادت كلينتون في قضيتها من تفسير قانون السجلات الفيدرالي لعام 1950، القائل إن على المسؤولين الذي يستخدمون حسابات شخصية التعهد بتسليم المراسلات الرسمية إلى الحكومة في غضون 10 أشهر من توليهم المناصب. ولفتت إلى أنها استوفت ذلك المطلب، حيث قامت بإعادة توجيه جميع الرسائل الواردة إلى حسابها الشخصي إلى أشخاص يستخدمون حسابات حكومية، بالتالي تمت أرشفة تلك الرسائل بشكل تلقائي، بينما سلمت بقية الرسائل إلى مسؤولي الخارجية عندما طلب منها ذلك.
وفقاً لمحامي كلينتون، فإنها تلقت وأرسلت ما مجموعه 62320 رسالة إلكترونية خلال فترة وجودها في وزارة الخارجية بين عامي 2009 و 2013، كان منها 55 ألف رسالة رسمية سلمت للوزارة.
ووقعت كلينتون في بداية شهر أغسطس (آب) عام 2015 على إفادة خطية، أقسمت فيها بأنها سلمت كل نسخ السجلات الحكومية خلال إدارتها للمنصب، لكن مكتب التحقيقات الفيدرالي وجد عدة آلاف من رسائل البريد الإلكتروني المتعلقة بعملها، التي لم تسلم لوزارة الخارجية.
رسائل بنس "الحساسة"
بعد كلينتون، طاردت فضيحة البريد الإلكتروني نائب الرئيس الأميركي مايك بنس في عام 2017.
حيث كشفت صحيفة "إنديانابوليس ستار" أن بنس كان يستخدم خادم بريد إلكتروني خاصاً عندما كان حاكماً لولاية إنديانا، أحياناً، لبحث "مسائل حساسة" و"قضايا تتعلق بالأمن القومي"، وأشارت إلى أن بريده الخاص هذا قد تعرض للقرصنة صيف عام 2016.
لكن مكتب بنس أوضح أنه التزم كلياً بقانون ولاية إنديانا عندما كان حاكماً لها في ما يتعلق باستخدام الرسائل الإلكترونية وحفظها.
وكان بنس وجه انتقادات شديدة خلال خوضه حملة الانتخابات الرئاسية بجانب دونالد ترمب في 2016 إلى هيلاري كلينتون التي كانت تتنافس عن الحزب الديمقراطي، لفعلتها المشابهة.
لكن عندما أثيرت قضية بنس، قلل المتحدث باسمه من شأن إجراء أي مقارنة بينه وبين استخدام هيلاري كلينتون بريدها الخاص للمراسلات الرسمية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اتهامات لأعضاء في إدارة ترمب
لم يكن بنس المسؤول الوحيد في إدارة ترمب الذي يواجه اتهامات بمثل هذه التجاوزات، إذ تضم القائمة ثمانية أسماء خضعت للتحقيق بموجب طلب من رئيس لجنة الرقابة في مجلس النواب، وهم: وزيرة التربية بيتسي ديفوس، الابنة الكبرى للرئيس ترمب وكبيرة مستشاري البيت الأبيض إيفانكا ترمب، زوج إيفانكا وزميلها المستشار الكبير في البيت الأبيض جاريد كوشنر، كبير الاستراتيجيين لدى الرئيس ستيف بانون، نائبة مستشار الأمن القومي كاثلين ترويا ماكفارلاند، مستشار البيت الأبيض ستيفن ميلر، رئيس الأركان رينس بريباس، ومدير المجلس الاقتصادي الوطني غاري كوهين.
قد يرى البعض أنه لا ضير في استخدام الحسابات الشخصية لأغراض العمل طالما أنها موثقة وتسهل وتسرع وتيرة العمل. لكن المشكلة هي أن هذه الممارسة تنطوي على أخطار أكبر مما يتصوره المرء.
يفترض أن يدير الوزراء وغيرهم من المسؤولين الأعمال الحكومية من خلال القنوات الرسمية، بحيث يمكن التدقيق في قراراتهم ويمكن لموظفي الخدمة المدنية الاحتفاظ بنسخ من مراسلاتهم. وقبل أن يصبح البريد الإلكتروني هو الوسيلة المفضلة والأسهل للاتصال، كان ذلك يتم عن طريق الرسائل والمذكرات المكتوبة. بالطبع لم تضمن هذه الطريقة أن جميع المراسلات كانت علنية، إذ كان من الممكن دائماً تمرير الملاحظات من دون إعلام المراقبين بها، كما يمكن للمسؤولين إجراء المحادثات الخاصة من دون تدوين ما جرى خلالها.
لكن يبقى الاحتفاظ بسجلات رسائل البريد الإلكتروني والوثائق الأخرى أمراً أساسياً لتفعيل قانون حرية المعلومات، الذي يسمح للجمهور والصحافيين بطلب الوصول إليها. كما أنه يتم حفظ الوثائق المهمة، بما فيها الإلكترونية، في الأرشيف الوطني كي تطلع عليها الأجيال المقبلة.
قد يؤدي استخدام الحسابات الشخصية إلى جعل رسائل البريد الإلكتروني والأنظمة عرضة للتخريب والقرصنة أكثر من استخدام الحسابات الرسمية. وفي بعض الحالات، قد تتعرض الأسرار الرسمية وحتى تلك المتعلقة بالأمن القومي للخطر. كما تخضع الرسائل على هذا المستوى من الأهمية، كتلك التي يرسلها وزراء الدفاع أو الخارجية أو الداخلية على سبيل المثال، لقانون الأسرار الرسمية وقوانين الأمن القومي.
لكن في زمن تقوم به المنصات الإلكترونية بجمع معلوماتنا الشخصية عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي ومحركات البحث، وحتى بمجرد وجود أجهزة متصلة بشبكة الإنترنت كما يزعم بعض خبراء الأمن السيبراني، ورصد وتصيد أي أنشطة أو تعليقات مرتبطة بالأمن القومي، ربما تكون حسابات البريد الإلكتروني الشخصية مكشوفة وخاضعة للرقابة والتدقيق أكثر من تلك الحسابات الرسمية الحصينة!