على شارع النيل قبالة التقاء النيلين الأزرق والأبيض عند منطقة المقرن بقلب العاصمة السودانية يطل مبنى المتحف القومي السوداني وواجهته المميزة التي تتوسط مقري قاعة الصداقة وحدائق 6 أبريل السياحية في مواجهة النيل الأزرق.
غير أن
المتحف العتيق الذي تجاوز عمره نصف قرن، ظل مغلقاً أمام الزوار والضيوف ما يقارب العام ونصف لأغراض الصيانة التي تحولت إلى مشروع كامل للتأهيل والترميم بعد التدهور الكبير الذي وصلت إليه بيئته وأوضاعه الداخلية ما دفع هيئة الآثار القومية إلى اتخاذ قرار إغلاقه وسحب كل الآثار وتفريغ صالات العرض إلى حين اكتمال إعادة التأهيل.
عراقة المبنى والمحتوى
لا يخلو مبنى المتحف الذي طالته مظاهر الإهمال فترة من الزمان من عراقة تعود إلى ستينيات القرن الماضي بعد افتتاحه كمتحف بمقره الحالي بشارع النيل عام 1971 ليحتضن المعالم الأثرية لجميع فترات الحضارة السودانية، بدءاً من عصور ما قبل التاريخ الحجرية وحتى الفترة الإسلامية مروراً بالآثار النوبية والفترة المسيحية. يعتبر المتحف السوداني القومي أكبر متاحف السودان، إذ زاره عدد كبير من القادة والزعماء وكبار الشخصيات من مختلف أنحاء العالم.
تتوسط فناء المتحف حديقة تشكل هي نفسها متحفاً مفتوحاً يضم عديداً من المعابد والمدافن والنصب التذكارية والتماثيل بأحجامها المختلفة، ومن أهم محتوياتها، المعابد التي فككت خلال حملة اليوينسكو الدولية التاريخية لإنقاذ آثار منطقة النوبة التي أغرقتها بحيرة ناصر عند إنشاء السد العالي جنوب مصر ونقلت وأعيد تركيبها في فناء المتحف بالخرطوم، وهي معابد سمنة شرق وغرب، وعكشة الذي يؤرخ لرمسيس الثاني من الدولة الحديثة والمقبرة الصخرية للأمير النوبي جحوحتب ومعبد بوهين الذي يؤرخ للدولة الحديثة وبقايا أعمدة غرانيت تعود للفترة المسيحية من كاتدرائية (فرص).
تماثيل تزين فناء المتحف القومي من الداخل (اندبندنت عربية - حسن حامد)
أما سلسلة الحصون الدفاعية الأثرية التي كانت مبنية من الطوب اللبن في تلك المناطق فقد كان نصيبها التوثيق لتبقى محفوظة وموجودة فقط ضمن السجلات والمنشورات إلى جانب مجموعة الكنائس والوحدات المعمارية الفريدة ونماذج جصية ورسوم جدارية ملونة نُقلت وعرضت داخل صالات المتاحف.
مشروع التأهيل
في السياق ذاته، تكشفت مدير المتحف القومي السوداني الدكتورة إخلاص عبداللطيف لـ"اندبندنت عربية" أن المتحف يخضع لعملية صيانة وإعادة تأهيل منذ أكثر من عام ونصف العام حيث ظل مغلقاً خلالها إلى حين اكتمال
المشروع الذي انطلق عملياً في مارس (آذار) 2020 بالتنسيق مع منظمة اليونيسكو بمساهمة من الحكومة الإيطالية منذ 2019 بمليون دولار، إلى حين وصول تدفقات لمساهمات وأموال جديدة.
وتوضح أن المتحف كان قد بلغ مرحلة لا تليق به كمتحف قومي بسبب غياب الصيانة المحترفة منذ افتتاحه على يد الرئيس الأسبق جعفر نميري في 1971 ما حدا بالسلطات المتخصصة في الهيئة إلى اتخاذ قرار بإغلاق في نهاية 2020 بعد أن باتت بيئته غير صالحة أو مهيأة لاستقبال الضيوف من الزوار أو الوفود الرسمية والسواح، لأنه بتلك الوضعية سيعكس صورة سيئة أكثر من كونه مصدر فخر لعرض تاريخ حضارات السودان العريقة.
وترى مدير المتحف أن عمليات التجديد تهدف بصورة أساسية إلى الوصول به إلى المستوى العالمي والإقليمي بعد أن نجحت الهيئة في تحويل فرصة الصيانة إلى مشروع لإعادة التأهيل الشامل للمتحف بالتنسيق مع منظمة اليونيسكو ووقع الاختيار على إحدى الشركات الإيطالية عبر عطاءات طرحت لشركات عالمية متخصصة في المتاحف لعمل تصميم عالمي وفق مفهوم ومواصفات سودانية.
تفاؤل بالتجديد
في المقابل، أعربت عبداللطيف عن تفاؤلها بأن تنتهي معظم
أعمال التأهيل قريباً ليتم افتتاح المتحف بشكله الجديد خلال الاحتفالات بأعياد استقلال البلاد المقبلة بعد اكتمال الصيانة الداخلية بحد أقصى مايو (أيار) المقبل، سيشهد بعدها المتحف تغييراً شاملاً في التصميم والعرض بما يوازي مقام وحجم عراقة الحضارة الكوشية العريقة ويصبح متحفاً مميزاً على الصعيدين الدولي والإقليمي ونتمنى أن نجد دعم الدولة في ذلك الجهد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غير أن عبداللطيف تشير إلى أن المتحف لا يزال ضيقاً ولا يتسع سوى لـ2500 قطعة أثرية فقط لأن مجموعة الآثار الموجودة بالمخازن لا تزال أكثر من المعروض ولا مكان لعرضها، في وقت تعاني فيه المخازن من عدم التأهيل مما اضطر البعثات الأجنبية العاملة بالسودان إلى عمل مخازن مؤقتة، لاستيعاب ما قد تتوصل إليه حركة الاستكشافات المستمرة، وبالفعل أنشئت مخازن مؤقتة سواء بالمواقع أو برئاسة هيئة الآثار في الخرطوم لذلك الغرض.
وشملت الصيانة إلى جانب مبنى المتحف نفسه، تجديد اللوحات الجدارية لكنائس العهد المسيحي في فرص ودغيم ودنقلا العجوز التي تم اقتطاعها بطريقة علمية خلال حملة اليونيسكو لإنقاذ آثار منطقة النوبة التي أغرقتها بحيرة ناصر عند قيام السد العالي، مبينة أن شركة ترميم بريطانية إيطالية متخصصة قامت بأعمال الترميم وخُزنت بطريقة علمية آمنة إلى حين اكتمال صيانة المتحف الذي آل عطاء إنجازه لشركة مقاولات وطنية سودانية كبيرة.
تحديات وخبرات
وأضافت مديرة المتحف، أن تحديات كبيرة واجهتهم عند تحويل ونقل التماثيل الكبيرة التي تتراوح أوزانها ما بين 3.5 إلى 5 أطنان داخل الصالة الرئيسة، لكنها تغلبت عليها بالاستفادة من ورشة المتحف والخبرات الوطنية من فنيين وأمناء متاحف وإدارة الكشف الأثري لتتماشى وضعيتها مع التصميم الجديد، كما شملت عمليات التأمين تركيب شبكة كاميرات بكل منعطفات وصالات وفناء المتحف.
من التماثيل المعروضة في فناء المتحف (اندبندنت عربية - حسن حامد)
وأشادت عبداللطيف بجهود العاملين بهيئة الآثار الذين انخرطوا من دون توقف في كل الظروف وواكبوا عمليات الصيانة بوضع قاعدة بيانات أثرية للمتحف بغرض إعادة تنظيم وتصنيف المعروضات بشكل متخصص، وبالمساهمات الكبيرة من رجال الأعمال السودانيين وعلى رأسهم أسامة داوود في إعادة تأهيل
المتحف القومي.
وحول جهود استرداد الآثار المسروقة أوضحت أنه وبخلاف السرقات التي شهدتها فترة الاستعمار وبعض التي تعود إلى فترة الثمانينيات كان متحف البركل من أكبر المتأثرين لكن تم استعادة جزء كبير منها بواسطة الأمن الاقتصادي وهي عبارة عن عدد من التماثيل الجنائزية المهمة، فضلاً عن التعرف والقبض على بعض منها معروضة في مزادات عالمية تم استرجاع جزء منها ولا تزال المتابعة مستمرة.
وأكدت عبداللطيف أن الهيئة تضم وحدة متخصصة هي وحدة متابعة الآثار المعروضة عالمياً، تعمل بالتنسيق والتعاون مع المتحف البريطاني وفق قاعدة بيانات سودانية بكل المواد المعروضة عالمياً، مشيرة إلى أن السودان أوقف ما كان سائداً في فترات سابقة بخصوص قسمة الآثار المكتشفة بموجب القوانين الوطنية، فضلاً عن السلطات المتخصصة بصدد إنشاء مراكز محلية لصيانة الآثار للحد من سفر القطع الأثرية والاستغناء عن الصيانة الخارجية.
جهود استرداد المسروقات
في سياق متصل، يكشف المدير السابق للهيئة العامة للآثار والمتاحف السودانية عبدالرحمن علي، عن شروع الأجهزة الرسمية في إجراءات أولية لحصر ومتابعة الآثار الوطنية التي خرجت بصورة غير شرعية عبر السرقة أو التهريب، سواء في الفترات الاستعمارية أو اللاحقة لها، لتبدأ الأجهزة المتخصصة بمتابعتها وفق الطرق القانونية والدبلوماسية، التي من بينها السعي إلى لانضمام للاتفاقيات الدولية الخاصة بعدم تهريب الآثار من أوطانها الأصلية، وتقوية القوانين الوطنية الحامية للآثار، ما يمكن من التقصي والمتابعة الخارجية لها
ويضيف "سعت الهيئة منذ فترة ليست قصيرة إلى التنسيق مع المتاحف العالمية الكبرى لتأمين الملكية الفكرية للآثار السودانية، بفصلها عن الحضارات المصرية، وأعدت الدراسات اللازمة للانضمام إلى اتفاقية منظمة اليونيسكو لعام 1970، الخاصة بمنع تهريب الآثار، فضلاً عن إنشاء وحدة متخصصة للاسترداد بالتعاون مع البوليس الدولي (الإنتربول).
ودعا المدير الأسبق للهيئة العامة للآثار والمتاحف السودانية إلى ضرورة تشكيل آلية تنسيقية وطنية تضم كل المؤسسات ذات الصلة إلى جانب متخصصين في القانون الدولي والآثار من الداخل والخارج، لإعداد خريطة طريق لاسترجاع الآثار السودانية.
وكانت منظمة اليونيسكو أعدت ونظمت في الستينيات برنامج إنقاذي غير مسبوق تاريخياً، بتشكيل لجنة من الدول الأعضاء للمساعدة في تنظيم الحملة العالمية تحت رعاية المنظمة، ولجنة أخرى لتنظيم عمل الحملة برئاسة غوستاف السادس، ملك السويد آنذاك.
كان أهم إنجاز لليونيسكو في الإعداد إطلاق مديرها العام نداء شهيراً في مارس 1960، الذي حث فيه على طلب المساعدة التقنية والمالية من أجل الحفاظ على الآثار النوبية من الدمار المؤكد المحدق بها بسبب إنشاء السد العالي الذي هدد بإغراقها بالكامل.
على أثر النداء الذي وجد تجاوباً دولياً كبيراً، سارعت نحو 40 بعثة أجنبية للعمل في السودان ومصر لإنقاذ المعالم الأثرية في منطقة النوبة الممتدة إلى أراضي السودان التي غمرت المياه المعابد القديمة فيها، وتم إنقاذها خلال الحملة التي نسقتها منظمة اليونيسكو، تحت اسم مشروع إنقاذ آثار النوبة، التي شملت أيضاً معبدين أبو سمبل الكبير والصغير.
وتعتبر هذه الحملة العالمية بحسب الهيئة العامة للآثار السودانية نقطة تحول كبيرة في مسيرة العمل الأثري الإنقاذي في السودان وعلامة مميزة في تاريخ العمل الأثري الإنقاذي في العالم، وتؤكد وثائق الهيئة العامة للآثار السودانية، كل الجهود التي بذلتها يونيسكو وعدد من الجامعات الغربية، لإنقاذ أكبر قدر من تلك الآثار.