تعيش بريطانيا على وقع أزمة اقتصادية، عمقتها أيام رئيسة الوزراء المستقيلة ليز تراس، المعدودة على رأس السلطة، بعد أن أشاع برنامجها الاقتصادي الفوضى في الأسواق المالية ورفع تكلفة المعيشة وأثار غضب كثيرين حتى بين أعضاء حزب المحافظين الذي تتزعمه، في وقت تغرق البلاد في أزمة سياسية قبل عامين من الانتخابات العامة، وذلك بعد أن فشل أربعة رؤساء وزراء في مواجهة التحديات المتفاقمة منذ أن صوتت لندن على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي عام 2016، وهم ديفيد كاميرون، وتيريزا ماي، وبوريس جونسون، وتراس.
وعلى رغم إرجاع ليز تراس، التي قضت أقصر فترة لرئيس وزراء في التاريخ البريطاني (44 يوماً)، تأزم الأوضاع الاقتصادية التي تواجه بلادها، إلى الحرب "غير الشرعية" التي يشنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أوكرانيا، مما خلف أزمة طاقة غير مسبوقة، وذلك بحسب ما جاء في معرض خطاب استقالتها أمس الخميس (20 أكتوبر "تشرين الأول")، ينتظر "10 داوننغ ستريت" ساكنه الجديد من بين حزب المحافظين الذي أدى الاضطراب الحالي داخله إلى تقدم حزب العمال المعارض في استطلاعات الرأي لأول مرة منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي.
وترجح كثير من التقارير البريطانية انحسار المنافسة على المنصب بين وزير الخزانة السابق ريشي سوناك ووزيرة الدفاع السابقة بيني موردونت، مع عودة مرتقبة لرئيس الوزراء السابق بوريس جونسون الذي تمت إطاحته في يوليو (تموز) الماضي، عندما استقال وزراؤه بصورة جماعية لإجباره على التنحي، والذي بحسب صحيفة "ذي تايمز"، فإن ترشحه سيكون من أجل "المصلحة الوطنية".
فوضى سياسية
تصاعدت حدة الفوضى السياسية في بريطانيا، مع اهتزاز الثقة في قيادة ليز تراس، في 23 سبتمبر (أيلول) الماضي، حين كشفت رفقة وزير الخزانة (السابق) كواسي كوارتنغ عن برنامج مستوحى من خطة الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان في ثمانينيات القرن الماضي، بقيمة 45 مليار جنيه استرليني (50 مليار دولار) من تخفيضات ضريبية ممولة حصراً من الديون المرتفعة.
ومن خلال هذا البرنامج كانت تراس وكوارتنغ يسعيان لقلب السياسة المالية البريطانية رأساً على عقب لإنقاذ الاقتصاد من الركود، إلا أن خطط البرنامج لخفض ضريبي كبير بلا تغطية مالية أدت إلى انهيار الجنيه الاسترليني، وكان رد المستثمرين في السندات عنيفاً وارتفعت تكاليف الاقتراض وسحب المقرضون عروض الرهن العقاري، واضطر بنك إنجلترا المركزي في نهاية المطاف إلى التدخل لحماية صناديق المعاشات التقاعدية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومع إثارة هذه الفوضى السياسية سخطاً داخل حزب المحافظين الذي تنتمي له تراس لم يفلح اعتذار الأخيرة وإقرارها بالخطأ وتراجعها عنه، في وقت لاحق من الأسبوع الماضي، في إبقائها بمنصبها، وكان لخسارتها وزيرين (وزير الخزانة ووزيرة الداخلية) من أربعة وزراء هم الأهم في الحكومة، أثر في تعميق الشعور بالفوضى في وستمنستر، إذ قوبلت محاولتها للدفاع عن سجلها أمام البرلمان الأربعاء بالضحك، وشهدت شجاراً علنياً بين النواب من حزبها في شأن السياسة المتبعة.
وبينما يسابق وزير المالية الجديد جيريمي هانت الزمن لخفض الإنفاق بمبالغ تصل إلى عشرات المليارات من الجنيهات الاسترلينية في محاولة لطمأنة المستثمرين وإعادة بناء سمعة بريطانيا المالية، قاد الاضطراب الحالي داخل حزب المحافظين الحاكم إلى تقدم حزب العمال المعارض في استطلاعات الرأي، إذ بحسب ما أعلنه معهد استطلاعات "يوغوف" فقد تقدم حزب العمال بـ33 نقطة، الأمر الذي لم يحدث منذ نهاية التسعينيات. كذلك، أفادت استطلاعات أخرى عن كارثة انتخابية للمحافظين، وذلك قبل عامين من الانتخابات التشريعية.
مؤشرات اقتصادية "مقلقة"
وفي ما يعاني ملايين المواطنين من أزمة في تكلفة المعيشة في الوقت الذي يتجه فيه الاقتصاد إلى ركود وارتفاع التضخم إلى أعلى مستوياته في 40 عاماً، تتراكم المؤشرات السلبية في الاقتصاد وسط أزمة سياسية مالية حادة، بين فوائد قياسية على الدين وانهيار مبيعات التجزئة وتراجع الثقة.
وذكر مكتب الإحصاءات الوطني في تقريره الشهري اليوم الجمعة أن قيمة الفوائد على الدين البريطاني بلغت 7.7 مليار جنيه استرليني في سبتمبر (أيلول)، بزيادة 2.5 مليار على العام السابق، وهو أعلى مبلغ يتم تسديده منذ بدء إصدار هذه البيانات الشهرية عام 1997.
وبحسب تقرير "الإحصاءات الوطني"، فإنه منذ منتصف 2021 "ازداد عبء الدين على الدولة بشكل كبير، ليس بسبب ارتفاع الدين بل إلى حد بعيد بسبب التضخم"، كذلك ازداد الاقتراض العام خارج المصارف بنسبة 2.2 في المئة بوتيرة سنوية ليبلغ 20 مليار جنيه استرليني في سبتمبر، وهو أعلى مستوى يسجل منذ بدء إصدار هذه البيانات قبل ثلاثين عاماً، باستثناء الرقم القياسي خلال أزمة وباء "كوفيد-19".
أما الدين العام فبلغ خارج البنوك العامة 2450.2 مليار جنيه استرليني في نهاية سبتمبر، مما يمثل 98 في المئة من إجمالي الناتج المحلي وزيادة بـ2.5 نقطة مئوية من إجمالي الناتج المحلي على مستواه قبل عام، وتعكس هذه الأرقام حجم الاضطراب الذي يشهده الاقتصاد البريطاني كما تكشف عن صعوبة مهمة الحكومة المقبلة.
وبينما حذر وزير المالية جيريمي هانت من أنه "لإرساء الاستقرار في الأسواق سيتم اتخاذ قرارات صعبة لحماية حسابات الدولة"، يتصاعد الضغط بصورة خاصة لزيادة الضريبة على أرباح شركات الطاقة، كما تتحدث الصحافة البريطانية عن احتمال فرض ضرائب على المصارف التي تستفيد من ارتفاع معدلات الفائدة.
غير أنه من غير المعروف ما إذا كانت خطة جيريمي هانت ستعتمد أم لا، إذ ليس من المؤكد أن يحتفظ بمنصبه في الحكومة المقبلة.
ولا تقتصر متاعب المملكة المتحدة على الركود السياسي، بل يشهد البلد أيضاً عاصفة اقتصادية مع جمود في النشاط وتضخم يزيد على 10 في المئة، وهو الأعلى بين دول مجموعة السبع، وأزمة الطاقة والفقر الذي بات يطال ملايين البريطانيين.
وينعكس كل ذلك على الاستهلاك، إذ تراجعت مبيعات التجزئة بنسبة 1.4 في المئة في سبتمبر بالمقارنة مع أغسطس، مواصلة تراجعها المتواصل منذ أشهر. ونقلت وكالة "رويترز" عن المحلل لدى "إنتر أكتيف إنفستور" ريتشارد هانتر، قوله إن "البلبلة السياسية وتغيير الموقف في شأن الميزانية أضرا بثقة المستثمرين الدوليين في البلد".
أين تتجه بريطانيا؟
على وقع الأرقام الاقتصادية "الكارثية" بالنسبة إلى بريطانيا، واحتدام الخلافات السياسية داخل حزب المحافظين، بالتوازي مع صعود شعبية حزب العمال لأول مرة منذ عقود، ومطالبة زعيمه كير ستارمر، بـ"إجراء انتخابات عامة فورية"، ترجح الصحف البريطانية تفاقم التحديات أمام أي حكومة مقبلة بعد رحيل ليز تراس.
وفيما عدت صحيفة "فايننشيال تايمز" الاقتصادية أن رئاسة تراس الحكومة قادت إلى "انهيار الاستراتيجية الاقتصادية"، اعتبرت صحيفة "الغارديان" في افتتاحيتها اليوم الجمعة، المشاهد الأخيرة لحقبة تراس في "10 داوننغ ستريت"، أنها "لحظات مهزلة وطنية".
وتحت عنوان "مستسلمة في نهاية الأمر"، كتبت "الغارديان" تقول إنه "لم يكن هناك شخص في رئاسة الوزراء أقل ملاءمة للوظيفة مما كانت عليه تراس. وأنه لم تكن البلاد يوماً بحاجة إلى استقالة أحد أكثر منها"، مضيفة أنه "بعد يوم واحد من تفاخرها بأنها ليست مستسلمة ولن تستقيل، فعلت ذلك في اليوم التالي". وتابعت "كان هذا التحول في مسار رئاسة الوزراء البريطانية الأكثر عجزاً في العصر الحديث، وربما في أي عصر آخر".
وبحسب "الغارديان" فإن إعلان استقالة تراس جاء بعد 24 ساعة من "الفوضى الحارقة" لحزب المحافظين، ومثلت "آلام الموت لنظام منهار"، مشيرة إلى أن تبعات سياساتها كانت تدني قيمة الجنيه الاسترليني، وترنح سوق السندات، كما انهارت الثقة في الإدارة الاقتصادية المحافظة وانهارت استطلاعات الرأي. ومع ذلك، اعتبرت الصحيفة أن أياً من ذلك لن ينهي الانقسامات التي تلتهم حزب المحافظين، معتبرة أن الأيام المقبلة "ستكون رهيبة بالنسبة إلى حزب المحافظين والديمقراطية البريطانية".
وفيما زادت الدعوات الداخلية إلى اللجوء سريعاً لانتخابات عامة مبكرة، على اعتبار أنها الحل الحقيقي لأزمة حزب المحافظين، ذكرت صحيفة "تلغراف" البريطانية، أن "لا شيء سوى حكومة جديدة بتفويض جديد يمكنها أن تمنح الشعب البريطاني البداية الجديدة التي يحتاج إليها ويستحقها".
ويقول مراقبون إن تغيير زعيم حزب المحافظين بانتظام قاد إلى خلق ديناميكية غير عادية بين أعضائه في البرلمان، وزاد من الخصومات والأحقاد المعتادة، معتبرين أن الحزب الآن مجزأ، ولا يوجد زعيم أو خطة بديلة واضحة.
ويعتقد العشرات من نواب حزب المحافظين في الوقت الحالي أنهم سيفقدون مقاعدهم في الانتخابات المقبلة. ونقلت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، عن بعضهم أنهم يفكرون في ترك السياسة تماماً، وذلك في وقت لا يرى فيه البعض طريقة سهلة للخروج من هذه الفوضى.
وكان لافتاً قبل أيام من رحيل تراس إعلان وزير خارجيتها، جيمس كليفرلي، أن فكرة تغيير رئيسة الوزراء الآن بأنها "سيئة ولها عواقب وخيمة"، وبحسب ما نقلت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" عنه فإن تغيير القيادة لن يبشر بالخير بالنسبة إلى بريطانيا "لا سياسياً ولا اقتصادياً". واعتبر أن الطريقة الوحيدة لمواجهة "الرياح الاقتصادية القوية والسلبية المعاكسة" التي تعصف ببريطانيا ستكون من خلال تحفيز النمو.