تعد الحرب علي إقليم تيغراي من أبرز صراعات القرن الأفريقي في المرحلة الحالية، حيث لا يقتصر تأثيرها على الدولة الإثيوبية، ولكنه يمتد ليؤثر في عدد من دول المنطقة، وربما أيضاً على أمن البحر الأحمر.
من هنا تحوز المفاوضات المرتقبة في جنوب أفريقيا بنهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، بين أديس أبابا وحكومة التيغراي أهمية كبرى على الصعيدين الإقليمي والدولي، وعلى رغم اكتسائها هذه الأهمية، تبرز دوماً شكوك بشأن إمكانية نجاحها في الوصول إلى سلام، وإنهاء هذا الصراع الذي بدأ في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 ولا يزال مستمراً، وذلك على رغم إعلان هدنة ووقف لإطلاق النار لفترة خمسة أشهر انتهت في آخر شهر أغسطس (آب) الماضي، حين اندلع الصراع مجدداً.
ويبرز في مقدمة الشكوك بشأن إمكانية إنهاء الصراع في تيغراي، وجود رؤية استراتيجية لدى أديس أبابا بشأن إقرار نظام سياسي شبه مركزي أعلن عنه رئيس الوزراء آبيي أحمد قبل ثلاث سنوات تقريباً، وهو السبب الرئيس لهذه الحرب، ولعل هذه الرؤية تفسر الإعلان الأخير من جانب الحكومة الإثيوبية عن عمليات عسكرية ينوي بموجبها الجيش الإثيوبي السيطرة جميع المطارات والمرافق الفيدرالية في إقليم تيغراي، وقد استند الإعلان بهذا الصدد على ما أسماه "الواجب الدستوري للحكومة الإثيوبية في حماية سيادة إثيوبيا وسلامتها الإقليمية، لا سيما في ما يتعلق بمجالها الجوي علاوةً على حماية مواطني إقليم تيغراي".
الجغرافيا
أما ثاني أسباب هذه الشكوك بإمكانية إنهاء الصراع، فهو طبيعة الجغرافيا في إقليم التيغراي التي تتيح كراً وفراً وبناء جيوب لمقاومة الحكومة المركزية، قادرة على الاحتماء والحركة طبقاً للمتطلبات السياسية والعسكرية وكذلك الإثنية لـ"جبهة تحرير تيغراي" ذات البأس والباع الطويل في المقاومة العسكرية، حيث إن خصومة التيغراي للحكومة المركزية تنطوي أيضاً على عداء إثني مع قومية الأمهرة حليفة آبيي أحمد وهي الإثنية التي تعد ميليشياتها الأكثر تشدداً، لا سيما ميليشيا "الفانو"، التي تدفع بالحرب ضد التيغراي وأيضاً بالصراع المسلح مع السودان على الحدود الإثيوبية – السودانية.
وربما يشكل الدور الإرتيري سبباً ثالثاً لتراكم الشكوك، ذلك أن لإرتيريا مصلحة أكيدة في إضعاف إقليم التيغراي الذي يشعر بالمرارة تجاه استقلال إرتيريا عن إثيوبيا في عام 1993 ويتطلع إلى إعادة لحمة قومية التيغراي التي تبعثرت بين البلدين.
ويمكن القول إن طبيعة "الذهنية الإثيوبية الصفرية" هي سبب رابع لتصاعد الشكوك بشأن إمكان إنهاء الحرب على التيغراي، ذلك أن هذه الذهنية هي المسؤولة حتى الآن بامتياز عن عملية الاندماج الوطني المنتجة للدولة الأمة، على رغم المحاولات التي بذلها ميليس زيناوي صاحب المشروع القومي الإثيوبي في تسعينيات القرن الماضي، وهي المحاولة التي أنتجت صيغة الفيدرالية الإثنية التي تستجيب لمتطلبات ليس الواقع الإثيوبي فحسب، ولكن للواقع السياسي والاجتماعي الأفريقي بشكل عام .
رؤية شاملة
هذه البيئة الإثنية والسياسية المعقدة تتطلب في حقيقة الأمر معالجات ربما تكون غير تقليدية وطويلة المدى وتحاول قدر الطاقة العمل تحت مظلة رؤية شاملة تتطلب عدداً من المعطيات التي نراها كالتالي :
تدشين آلية مناسبة لتكون راعية ودافعة للتقارب بين طرفي الصراع، ذلك أن الاتحاد الأفريقي ليس هو الآلية التي يمكن أن يعول عليها وذلك بالنظر إلى أن إثيوبيا هي بلد المقر للاتحاد الأفريقي، بالتالي قدرة المفوضية على الاستقلال عن هذا الواقع تبدو مثالية، وربما يكون هذا ما دفع "جبهة تحرير تيغراي" إلى التحفظ على رعاية الاتحاد القاري للمفاوضات في المرحلة الأولى، لكنها عادت وقبلت بذلك تحت مظلة ضغوط دولية، كما أن حال الالتباس والغموض لجهود الاتحاد الأفريقي دفعت الرئيس الكيني السابق أوهورو كينياتا، إلى الإعلان في السابع من أكتوبر الحالي، أنه لن يحضر المفاوضات قائلاً في رسالة إلى رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فكي محمد "سأكون ممتناً لو تلقيت مزيداً من الإيضاح بشأن هيكلية المحادثات وصيغتها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولعل هذا الغموض يعود جزئياً إلى حالة توازي الجهود بين الاتحاد الأفريقي وجهود المبعوث الأميركي مايك هامر غير المعلنة التي كشفتها "نيويورك تايمز" أخيراً، حيث قام هامر بعدد من المهمات التي لم يعلن عنها، وذلك بتوجهه إلى إقليم تيغراي الشمالي سراً بهدف إجراء محادثات لوقف إراقة الدماء في إثيوبيا، كما تم الجمع بين الفرقاء في أكثر من محطة، منها سيشل وجيبوتي، ولكن لم تصل إلى نتائج حتى الآن".
كما أن تحجيم التدخلات الإقليمية في هذا الصراع، بما يعنيه ذلك من وقف للدعم العسكري لأديس أبابا يضمن تفوقها جوياً، بالتالي توازن الميزان العسكري بين الطرفين، يدفع بالتأكيد نحو بيئة دافعة لمفاوضات ناجحة، فربما عند هذه اللحظة تقدم أديس أبابا الضمانات المطلوبة لأمن وفد التيغراي المفاوض، كما تكون خريطة الوسطاء الإقليمين والدوليين واضحة للطرفين بما يضمن لكل منهما إسناداً مناسباً في العملية التفاوضية.
المجتمع الدولي
كذلك يجب أن يتخذ المجتمع الدولي والإقليمي موقفاً محدداً من مشروع آبيي أحمد المصر على إرساء نظام سياسي شبه مركزي في البلاد، إذ من شأن هذا الموقف أن يشكل أحد المعطيات المركزية لحل الصراع، ذلك أن "جبهة تحرير تيغراي" لا تريد أن تلقي سلاحها الذي ترى أنه الضامن لتحقيق مطالب الإقليم، بينما تبدو الحكومة الإثيوبية حريصة على نزع سلاح الجبهة حتى لا تتحول مستقبلاً إلى كيان مواز للدولة طبقاً لتصورات آبيي أحمد عن الدولة، وليس طبقاً لصيغة الفيدرالية الإثنية التي تصر عليها قومية التيغراي وعدد من القوميات الأخرى، ذلك أن صيغة النظام السياسي الإثيوبي مسألة لا تتعلق فقط بحل معضلة التيغراي، ولكنها متعلقة بصيغ التعايش المطلوب الاستقرار عليها بين مختلف القوميات الإثيوبية .
وأخيراً وربما يكون الأهم، هو أن يجد المجتمع الدولي صيغةً لإبعاد المساعدات الإنسانية من أن تكون بين آليات الصراع بين الطرفين، ذلك أن حصار الإقليم من جانب المستوى الفيدرالي الإثيوبي أسفر عن مجاعة في الإقليم، فضلاً عن تردي الظروف الصحية خصوصاً لدى الأطفال، حيث أظهرت بيانات من مكتب "منظمة الصحة العالمية" في تيغراي، أن الأمراض الفتاكة مثل الحصبة والتيتانوس والسعال الديكي تتزايد في الإقليم، مشيراً إلى انخفاض معدلات تطعيم الأطفال لتصل إلى أقل من 10 في المئة.
إجمالاً إن الاهتمام بالصراع في تيغراي يعد ترياقاً ضد حدوث انهيارات في إقليم شرق أفريقيا كله، ذلك أن دولة مثل كينيا 15 في المئة من سكانها ينتمون إلى قومية الأورومو ذات الغالبية العددية في إثيوبيا التي تعاني من احتقان سياسي مزمن انعكس في أن بعض مكوناتها العسكرية تحارب ضد الحكومة الإثيوبية، وهو ما تجده كينيا خطراً عليها، كما أن استمرار استنزاف المستوى الفيدرالي الإثيوبي في الحرب على التيغراي يعني فشله في الحفاظ على كيانه وترابه ضد هجمات "حركة الشباب" الصومالية التابعة لتنظيم "القاعدة"، وتعد كينيا والصومال دولتان مؤثرتان في أمن المحيط الهندي والبحر الأحمر، حيث لم تتح القواعد العسكرية في جيبوتي ضمان الحماية من ضربات "الشباب"، ما يعني ارتفاع مستوى التهديدات في البحر الأحمر المتسارع خطرها أيضاً كنتيجة مباشرة للأداء الحوثي في اليمن، وفي ضوء هذه التهديدات مجتمعة، فإن تفعيل مجلس البحر الأحمر المعلن في الرياض قبل ثلاث سنوات، بات أمراً مطلوباً للحفاظ على أمن البحر الأحمر وأمن الدول المشاطئة وغالبيتها دول عربية .