"الشتاء قادم" تلك العبارة الشهيرة من مسلسل الفنتازيا الملحمي "صراع العروش" التي كان يستدعيها أحد أبطال المسلسل من عائلة آل ستارك للتحذير في شأن خطر وجودي قادم يتمثل في شتاء قارس يسيطر فيه الجليد على كل شيء، ويستيقظ خلاله جيش من جحافل الموتى الذين يهاجمون البشر. استخدم الروس العبارة نفسها في فيديو دعائي أخيراً، يلمحون فيه إلى أزمة أوروبا خلال الشتاء المقبل بعد توقف إمدادات الغاز الروسي الذي كان مصدراً رئيساً لتدفئة الأوروبيين خلال فصول الشتاء القارس، داعين إلى زيارة روسيا والتمتع بالدفء.
وفي خضم ذلك الصراع الدائر بين روسيا والغرب على الأراضي الأوكرانية، يبحث الأوروبيون عن مصادر للطاقة تقيهم برد الشتاء بعد أن كانوا يعتمدون عليه لسد 40 في المئة من احتياجاتهم من الطاقة، لذا اضطروا إلى التخلي عن بعض الخطط الخاصة بتقليص الانبعاثات الضارة. ولعل إعادة تشغيل محطات الطاقة التي تعمل بالفحم الملوث للبيئة في ألمانيا ودول أوروبية أخرى هو أحدث مثال على تعليق أهداف المناخ في ظل ازدياد ظاهرة تغير المناخ حدة، مما يعني أن البشرية تواجه "شتاءً قادماً" لكنه ليس فصلاً مناخياً إنما تهديد وجودي أشبه بذلك الذي كان يخشاه سكان "وستروس" في "صراع العروش".
شر لا بد منه
وفي نهاية يونيو (حزيران) الماضي، أعطى المستشار الألماني أولاف شولتز، الضوء الأخضر لإعادة تشغيل 27 محطة طاقة تعمل بالفحم حتى مارس (آذار) 2024. وبحسب صحيفة "لوموند" الفرنسية فإن الحكومة الألمانية ليست الوحيدة التي اتخذت هذا القرار، على رغم أنها تتعارض مع مكافحة الغازات المسببة للاحتباس الحراري. فداخل الاتحاد الأوروبي، أعلنت بعض الدول -النمسا وإيطاليا وهولندا وفرنسا- عن نيتها تمديد أو إعادة تشغيل محطات الطاقة التي تم إغلاقها، في محاولة لتجاوز الأشهر القليلة المقبلة بأمان. ووصف سايمون تاغليبياترا، المتخصص في الطاقة لدى مركز بروغيل للأبحاث، في بروكسل، الإجراء بأنه "شر لا بد منه" إذا أراد الاتحاد الأوروبي، في أحسن الأحوال، تجنب انقطاع التيار الكهربائي هذا الشتاء.
ليست أوروبا فقط، ففي حين كانت قضية المناخ ركيزة أساسية في الحملة الانتخابية للرئيس الأميركي جو بايدن عام 2020، إذ وعد بتحول الولايات المتحدة إلى الاقتصاد الأخضر والابتعاد عن الوقود الأحفوري، فإنه وسط أزمة الطاقة وارتفاع الأسعار عالمياً والتضخم، لجأت إدارته إلى الاستعانة بمستويات قياسية من المخزونات الاستراتيجية للنفط الخام وحضت شركات النفط على ضخ المزيد لسد الطلب.
هذا المشهد دفع بتعالي الأصوات المحذرة من تأثير أزمة الطاقة في أجندة المناخ، التي وصفها المراقبون بأنها "ضربة" لجهود مكافحة تغير المناخ. وخلال "مؤتمر رويترز أمباكت للاستدامة" الذي عقد في وقت سابق من الشهر الحالي في لندن، قال قادة الأعمال والمعنيون بقضايا البيئة إن "أزمة الطاقة أثرت في التحول الأخضر وقوضت الجهود المبذولة لإبقاء الاحترار العالمي أقل من 1.5 درجة مئوية، مع تحذير من تهديد وجودي لأهداف المناخ".
كذلك حثت ندى الناشف، القائمة بأعمال منسق حقوق الإنسان لدى الأمم المتحدة، في وقت سابق، الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على تجنب "التراجع" عن أهدافها المناخية في مواجهة أزمة الطاقة. ودعت الناشف الاتحاد الأوروبي في خطاب أمام مجلس حقوق الإنسان، الشهر الماضي، إلى "النظر في العواقب الطويلة المدى المترتبة على تأمين مزيد من البنية التحتية للوقود الأحفوري"، في ظل اتجاه عديد من الدول الأعضاء إلى الاستثمار في البنية التحتية للوقود الأحفوري في ظل ارتفاع أسعار الطاقة بشكل كبير عبر أوروبا.
هل ينجح كوب 27؟
وتتزامن أزمة الطاقة مع مؤتمر الأطراف لاتفاق الأمم المتحدة لتغير المناخ "كوب 27"، الذي ينعقد على ساحل البحر الأحمر في مدينة شرم الشيخ المصرية في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، مما يمثل تحدياً رئيساً للقمة التي تستهدف تسريع العمل على قضية تغير المناخ والمضي نحو تحقيق الأهداف والخطط التي نوقشت في المؤتمرات السابقة وآخرها "كوب 26" في غلاسكو الاسكتلندية العام الماضي.
وفي مقابلة سابقة مع شبكة "بلومبيرغ" الأميركية، أعرب وزير الخارجية المصري سامح شكري، رئيس المؤتمر، عن قلقه من التحديات الحالية قائلاً إن "المؤتمر سيجرى في ظل وضع جيوسياسي صعب، العالم يواجه تحديات على صعيد الطاقة والغذاء"، مضيفاً أن "هذا الوضع بالطبع سيؤثر في مستوى الطموح وربما يقود إلى تشتيت الانتباه عن أولوية العمل على قضية المناخ".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ربما يشكل هذا الأمر تحدياً لمصر نفسها كأول دولة أفريقية تستضيف قمة "كوب" خلال ست سنوات، حيث تسعى إلى التركيز على ما تم الاتفاق عليه مسبقاً في شأن تخصيص موارد مالية بقيمة 100 مليار دولار سنوياً لدعم الدول النامية في مواجهة الظاهرة وتمويل التحول نحو الطاقة النظيفة، في إطار ما يعرف بالتكيف والمناعة. وقال شكري "نأمل أن يؤكد كوب 27 أولاً الالتزام السياسي بتغير المناخ والانتقال المتفق عليه على أعلى مستوى"، مشيراً إلى أن التركيز الرئيس لمؤتمر الأطراف السابع والعشرين هو "زيادة الطموح" وتأكيد "عدم التراجع أو التراجع عن الالتزامات والتعهدات" التي تم التعهد بها في القمم السابقة.
اجتماعات "مؤتمر الأطراف" (CoP) هي الوسيلة التي ينسق المجتمع العالمي من خلالها الإجراءات لخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري التي تؤدي إلى الاحترار العالمي. الهدف النهائي هو وضع حد أقصى لارتفاع متوسط درجات الحرارة العالمية والذي يتجه في الوقت الحالي إلى زيادة نحو 2.7 درجة مئوية أو أكثر بحلول نهاية القرن الحالي. ووفق أحدث تقرير علمي صادر عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، فإن الحد من الاحترار العالمي إلى 1.5 درجة مئوية يتطلب تحولات "سريعة وبعيدة المدى" في الأرض والطاقة والصناعة والمباني والنقل والمدن، إذ يجب أن تنخفض الانبعاثات العالمية الصافية الناتجة عن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنحو 45 في المئة عن مستويات عام 2010 بحلول عام 2030، لتصل إلى "صافي الصفر" في نحو عام 2050.
تسريع تحول نظام الطاقة
على رغم التشاؤم في شأن خطط تغير المناخ ثمة من هم أكثر تفاؤلاً، إذ يعتقد بعض المراقبين والمعنيين أن الوضع الدولي الحالي ربما يمثل فرصة لدفع عملية التحول نحو الطاقة النظيفة لضمان أمن الطاقة في المستقبل. وفي تصريحات سابقة لوكالة "رويترز"، قال جاسبر برودين، المدير التنفيذي لشركة "أيكيا"، إن التحول نحو الطاقة المتجددة سيكون أسرع الآن، مشيراً إلى أن شركته تقدم منتجات أكثر كفاءة في استخدام الطاقة بينها ما يعتمد على الطاقة الشمسية.
وفي مطلع أكتوبر الحالي، دعا البرلمان الأوروبي مجموعة العشرين إلى تكثيف أهدافها المناخية لعام 2030 قبل "كوب 27"، للحد من ظاهرة الاحتباس الحراري بما يتماشى مع اتفاق باريس. واعتمدت لجان البيئة والصحة العامة والأمن الغذائي في البرلمان الأوروبي مشروع قرار يحدد مطالبها لمؤتمر الأطراف في مصر، قائلة إن حرب روسيا ضد أوكرانيا أكدت الحاجة العاجلة إلى تحول نظام الطاقة عالمياً. وفي إطار تحذيراته من التراجع عن أهداف المناخ وخطة "صفر انبعاثات"، دعا رئيس بنك الاستثمار الأوروبي ورنر هوير، أيضاً إلى التحول الجاد والسريع نحو مصادر الطاقة المتجددة.
تحدي التمويل
وفي حين يجب أن يؤدي انخفاض كلفة الطاقة المتجددة إلى استثمارات كبيرة في أشكال أنظف للطاقة، لفت وزير الخارجية المصري في لقائه مع "بلومبيرغ" إلى أن الوضع الجيوسياسي الحالي يشير إلى أن التحول إلى الطاقة المتجددة سيستغرق وقتاً أطول مما توقعه المجتمع العالمي في مؤتمر "كوب 26" في غلاسكو العام الماضي. يتعلق الأمر بشكل رئيس بكيفية تنفيذ الدول النامية وبخاصة الدول الأفريقية هذا التحول، مع التأكد من عدم تأثر النمو الاقتصادي.
وخلال مؤتمر غلاسكو العام الماضي جادلت الدول الفقيرة بأنه لا ينبغي حرمانها من فرصة استغلال احتياطياتها من النفط والغاز. ومنذ ذلك الحين شددوا على أن أولوية مؤتمر هذا العام يجب أن تكون تأكيد التزام الدول الغنية بدفع المزيد لمساعدة الدول النامية -الأكثر تأثراً بتغير المناخ- على الانتقال إلى الطاقة النظيفة. وقال شكري "من واجبنا الاستماع بعناية إلى المخاوف الأفريقية وتأكيد الأولويات الأفريقية، مثل التكيف والمرونة"، مضيفاً أن المفاوضات في شأن التمويل يجب أن تأخذ في الاعتبار "حاجات المجتمعات في جميع أنحاء أفريقيا، والتي تعاني أكثر من أي قارة أخرى تأثيرات تغير المناخ".
وبموجب اتفاق باريس عام 2015، وافقت الدول المتقدمة على تقديم نحو 100 مليار دولار سنوياً للدول النامية بحلول عام 2020، لكنهم فشلوا في الوفاء بمليارات الدولارات، وتم وضع هدف جديد للوصول إلى المبلغ بحلول عام 2023. وتسعى مصر إلى أن يتم التوافق خلال "كوب 27" على زيادة التمويل بعد عام 2025.