بعد الجزأين الأول والثاني الصادرين عام 2019، نشرت سلسلة "من المسرح العالمي" (المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- الكويت) في عدديها لشهري سبتمبر (أيلول)، ونوفمبر (تشرين الثاني) 2022، بقية أعمال كاتبة المسرح الفرنسية ياسمينا رضا، في كتاب من جزأين في 379 صفحة من القطع المتوسط. وتولت ترجمة تلك الأعمال إلى اللغة العربية فاطمة علي نعام، وقدم لها وراجعها أحمد الوزيري. ياسمينا رضا Yasmina Reza اسمها الحقيقي إيفيلين أغنيس ياسمينا رضا، ولدت في باريس في الأول من مايو (أيار) 1959 لأسرة يهودية تنحدر من أصول إيرانية، وتعد من بين أهم الأديبات الفرنسيات في الوقت الراهن. تخصصت في سنوات دراستها الجامعية في علم الاجتماع ثم انشغلت بعد ذلك بالمسرح واهتمت دائماً بالبحث عن أشكال جديدة في إطار المسرح الكلاسيكي. بدأت ياسمينا رضا مشوارها مع المسرح بالعمل ممثلة، ودرست تقنيات التمثيل والإخراج في مؤسسة جاك لوكوك Lecoq ودفعت بها موهبة الكتابة التي رافقتها منذ المراهقة إلى تجريب حظها في التأليف، فانكبت منذ منتصف الثمانينيات على إنشاء نص يتجاوب مع ذوقها الفني وتصورها الدرامي، وهكذا غدت وفق مقدمة أحمد الويزي "أحاديث ما بعد مراسم الدفن" باكورتها المسرحية التي كرستها كاتبة منذ سنة 1987 بحكم النجاح الجماهيري الواسع الذي لقيه هذا النص بعد عرضه في السنة نفسها على خشبة مسرح باري فيليت Paris - Villette وتتويجه بحصول صاحبته على جائزة موليير في التأليف.
النص الأول
اشتمل الكتاب على أربعة نصوص هي "ثلاث صيغ للحياة"، "المجزرة"، "مسرحية إسبانية"، ثم "كيف أحكي لكم عن اللعبة". في النص الأول الذي يمكن وصفه، كما يقول الويزي، مسرحية تجريبية، تقدم الكاتبة وهي تستلهم التوليف الموسيقي الكلاسيكي، نفس المحتوى الدرامي، في صيغ ثلاثة شبه متمايزة تأتي كل واحدة منها على نحو يجعل النسخة اللاحقة، تنسخ ما سبقها نسخاً نسبياً، لكنه لا ينفي المحتوى الموضوعي بالكامل ولا يناقضه تماماً وإنما يحافظ على موتيفاته الدرامية التي تعد الموضوعة الرئيسة والفضاء والشخصيات أهمها إلى جانب عناصر أخرى.
وبهذا تبقي الكاتبة على معظم المعطيات النصية الرئيسة دون تغيير، بينما تنوع على حواش أخرى تنويعاً عرضياً بالشكل الذي يوحي، كما يقول الويزي، بأننا إزاء تأليف موسيقي كلاسيكي، ذلك أن الأحداث العامة للمسرحية عادة ما تجري في صالون "هنري" و"صونيا"، وهما زوجان من الطبقة البرجوازية الصغرى. يقع بينهما خلاف حول الاستجابة لطلبات ابن صغير، عادة ما يقع في الإلحاح المشاكس في الطلبات ليلاً. وسيتفاقم خلاف الزوجين أكثر باستقبالهما ضيفين (هيبر فينيدوري وزوجته إينس) كانا قد نسيا أنهما سيأتيان لزيارتهما. وسيلعب هذا الحضور المفاجئ في كل صيغة دور المحفز الرئيس للصراع بين الأربعة، سواء بفعل ظهور مبرر موضوعي أو من دونه.
مشاجرة صغيرة
أما مسرحية "المجزرة التي تحولت إلى فيلم شهير من إخراج رومان بولانسكي، فتقدم ياسمينا رضا عبرها حكاية مشاجرة بين يافعين، إلا أنها سرعان ما تتحول إلى ورطة سيسقط في شركها الآباء. تبدأ المسرحية باستقبال ’آل هولييه’ (فيرونيك وميشيل) للسيد ’آلان رييه’ وزوجته ’أنيت’ في بيتهما، على أثر اعتداء الفتى ’فيردينان رييه’ على قرينه ’برينو هولييه’، وكسر سنين من أسنانه في أحد المتنزهات لذلك يجتمع الكبار بنية التوصل إلى اتفاق حول الصيغة النهائية للتصريح بالحادثة، كي يرفع إلى إدارة التأمين لأجل تغطية نفقات علاج الفتى المتضرر، وتعويض ما فقده من أسنان. ولا تمضي إلا لحظات حتى تخيم على الأسرتين ظلال سوء التفاهم، وسرعان ما سيؤول الأمر إلى مجزرة مجازية، تتعقد بسببها وضعية الكبار، وتنتهي خلالها جميع إمكانات الوئام ورأب الصدع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي مسرحية "كيف أحكي لكم عن اللعبة"، نلتقي بحكاية الروائية الفرنسية الغريبة الأطوار "ناتالي أوبنهييم"، التي تحضر فعاليات لقاء ثقافي خارج باريس، من أجل الاحتفاء بفوز رواية لها بجائزة. ولخلق فرصة التفاعل الحقة مع الروائية المكرسة، يضيف الويزي، فإن منظمي اللقاء تعاقدوا مع صحافية باريسية (روزانا إيرتيل كيفال) لتسهم بنصيب وافر في تنشيط هذا اللقاء، من خلال محاوري الروائية بجرأة وشجاعة، والمساهمة في إنجاح ذلك اللقاء نجاحاً منقطع النظير، بما عرف عن تلك الصحافية من جرأة هجومية لافتة. وفي خضم المحاورة تتصارع أكثر من وجهة نظر، يزيدها تدخل عمدة البلدة تعقيداً، إضافة إلى تداخل أحداث وشخصيات أخرى في هذا الحفل.
مسرحية إسبانية
وفي نص "مسرحية إسبانية" يلتقي القارئ مع خمس شخصيات (فيرنان، بيلار، أوريليا، نوريا وماريانو) تتقاسم أطوار النص بالتساوي، بتعبير الويزي، سواء وهي تؤدي ما أنيط بها من أدوار في: مسرحية إسبانية (تجربة المسرح في المسرح) أو حين تخرج عن تلك الأدوار لتوهمنا بأنها نزعت عن وجهها قناع التمثيل، فتنهمك في سهرة عائلية على هامش النص السابق، في عملية انتقاد تطال طبيعة الأدوار الموكلة إليها نازلة باللوم والتقريع على كاتب المسرحية تارة وعلى مخرجها أو مصممة أزيائها تارة أخرى. يحدث ذلك في طقس بوح فردي يتأطر، كما يقول الويزي، ضمن خانة الاعترافات المتخيلة والمونولوغ. وبالتدريج، تجعلنا حوارات المسرحية نتعرف على سمات وملامح تلك الشخصيات ونقترب من ميولها النفسية والفكرية، ومن أهوالها واستيهاماتها كذلك. إلى جانب تعرفنا على ما تمارسه من أفعال، تصل بسبب سوء الفهم الذي يعتري فجأة الجميع، فتتأجج الدواخل ويتحين كل واحد أي فرصة للاحتداد، فيبلغ النزاع مداه المتجاوز للأعراف، ومن ثم تنتهي السهرة مثلما بدأت، بانفصال وجداني ذريع بين أكثر من شخصية.
المسرحي والروائي
وكما يقول أحمد الويزي تعد ياسمينا رضا واحدة من أهم الأديبات الفرنسيات المعاصرات الأكثر شهرة وانتشاراً، سواء داخل وطنهن أو خارجه، وقد ولدت في الأول من مايو 1959، لأسرة استقرت في باريس بعد الحرب العالمية الثانية.
ويختلط في أعمال ياسمينا رضا المسرحي بالروائي وتتخللها مجموعة من التقنيات التعبيرية الهادفة إلى تكسير خطية البناء، إلى جانب تقنية الكتابة والمحو، حيث يتفتت النص وتتداخل فيه أشكال السرد الروائي تارة، بمقومات التقديم المسرحي وأنماط المحاورة الصحافية تارات أخرى.
ويضيف أحمد الويزي، أن نصوص ياسمينا رضا حققت إضافة نوعية في التجربة المسرحية الفرنسية والعالمية، وقد حرصت سلسلة "من المسرح العالمي" التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت، على تعريف القارئ العربي بتجربة هذه الكاتبة الفرنسية المعاصرة التي استطاعت أن تقدم بحضورها الإبداعي المنتظم، أعمالاً حظيت بنجاح كبير وشهرة واسعة، سواء على مستوى البلدان الأوروبية أو خارجها.
تقنيات مسرح العبث
ومسرح ياسمينا رضا مسرح كوميدي غالباً ما يندرج ضمن ما يعرف بكوميديا الشارع، خصوصاً ضمن الاختيار الفني الذي دشنه مواطنها ميشيل فينافير الذي وسم تجربته الكوميدية بوسم المسرح اليومي، فحرص بذلك على تقديم أهم القضايا التي تتنازع حولها الفئات الوسطى والصغرى من المجتمع، وتشمل بالأساس قضايا معيشية في غاية البساطة والتفاهة والابتذال، بحسب أحمد الويزي. ولذلك، يضيف الويزي، تحرص ياسمينا رضا عادة على أن تقدم في مسرحياتها، مختلف أشكال المفارقة المثيرة للضحك، ضمن حياة الفئة البرجوازية الصغرى تحديداً، بالاستفادة من تقنيات ولغات مسرح العبث، كما مثله تحديداً أوجين يونسكو. فقارئ نصوص رضا، يوضح الويزي، عادة ما يلاحظ حرصها الشديد على استثمار التقاطع السابق بين الكوميديا والعبث في صيغة أخرى، تخلق أفقاً ثالثاً يتميز بطبيعة التناول التي تقتات على موضوعات أثيرة لدى كتاب كوميديا الشارع، بكيفية تستفيد في تقديمها من قوالب مسرح العبث القائمة على البناء شبه المفكك، واختيار الأنساق اللغوية الحوارية التي تجنح إلى التكرار والتكثيف والاختزال. إلى جانب الاعتماد على تقنيات البياض والصمت، فضلاً عن غياب كلي للديكور والأكسسوارات الواقعية. كل هذا، يستطرد الويزي، تحتال ياسمينا رضا من أجل تقديمه في مشاهد كوميدية تولد "ضحكاً عصابياً"، يستثمر النزوع العدواني الكامن في النفوس، لتحريرها من عقالها اللاواعي، وجعلها تطفو فجأة على السطح وتتفاعل مع غيرها.
تتويج شبه عالمي
وبحسب الويزي، فإن نجاح المسرحية الأولى لياسمينا رضا توالت نصوصها في المسرح والرواية والسيناريو السينمائي ما أسهم في توسيع دائرة شهرتها داخل بلدها وخارجه، ودفع بأعمالها المسرحية على وجه الخصوص إلى الانتشار بعيداً من الدائرة الفرانكفونية الضيقة، بفضل الترجمات المتنوعة التي نقلت عنها تلك النصوص إلى مختلف لغات العالم. وقد شكل هذا نقلة نوعية في حياة رضا، الأمر الذي سمح لمسرحياتها بأن تقدم على مسارح عالمية كبرى، وتحصل صاحبتها على تتويج شبه عالمي عبر حيازتها جوائز كثيرة. فهي في انجذاب دائم للتجريب واختبار بعض الأشكال التعبيرية ضمن نصوص مسرحية هجينة، تتقاطع فيها عدة أجناس بعضها يمت بصلة إلى طرق العرض المسرحي، وبعضها الآخر ينتمي إلى تقنيات التقديم السردي البحتة، وهو ما اتخذ لدى هذه الكاتبة صبغته الثابتة، فالمتتبع للنصوص التي قدمتها باطراد إلى الآن لا يمكنه إلا أن يرى فيها نوعاً من الهاجس الذي يطبع تمثل صاحبتها للكتابة المسرحية، وهي تواصل تقديم "المحتوى الدرامي نفسه" تقريباً ضمن أشكال تعبيرية تتجدد باستمرار من مسرحية إلى أخرى.