وجد انقلاب قائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان على حكومة رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك، الذي نفذه في الصباح الباكر ليوم 25 أكتوبر (تشرين الأول)، مقاومة من الشارع السوداني الذي كان يحلم بنجاح انتفاضته التي أطاحت نظام الرئيس السابق عمر البشير في 11 أبريل (نيسان) 2019، وصولاً إلى حكم مدني ينهي مغامرات الحقب العسكرية التي سيطرت على السلطة لفترة 53 عاماً منذ استقلال البلاد في 1956، وذلك مقابل 13 عاماً من الحكم الديمقراطي.
وظل كثيرون يتساءلون ومنذ الوهلة الأولى عن "الدافع وراء هذا الانقلاب، وما الحسابات التي بني عليها في ظل رغبة الشارع الجامحة للحرية والعدالة والسلام؟".
تغيير موازين القوى
يقول الكاتب السوداني، رئيس تحرير إحدى الجرائد المطبوعة، عثمان ميرغني "في اعتقادي أن فكرة تنفيذ انقلاب 25 أكتوبر لم تكن فردية وليست محصورة في المكون العسكري وحده، فهناك جهات عدة مدنية وعسكرية شاركت في الإعداد والتنفيذ لهذا الانقلاب بصورة جماعية، والأساس الذي بني عليه الانقلاب يقوم على تغيير موازين القوى السياسية ما بعد الانتفاضة. فالمقصود من هذه المسألة هو إبعاد اليسار الذي كان مهيمناً على آليات الدولة، وسحبه من مراكز القوى، وإجراء تعديل للوضع السياسي وتغيير هذه المعادلة بالسرعة المطلوبة. والدليل على ذلك أن الحديث الذي أدلى به البرهان في أول مؤتمر صحافي له عقد في اليوم الثاني من الانقلاب، ركز على القول إن السودان لن يحكم بعد اليوم بواسطة أحزاب عقائدية".
وأضاف ميرغني "لكن الانقلاب بعد ذلك لم ينجح، وفشل في مهمته بالعبور من الحالة الانقلابية إلى الانتقالية، فكان بحسب ما هو مرسوم له أن يتم خلال وقت قصير لا يتعدى الشهر أو الشهرين عبر إعادة الشراكة مع المدنيين وفق معادلة سياسية جديدة. إلا أن الانقلاب استمر لمدة عام من دون أن ينجز شيئاً، بل تورط في سفك الدماء التي لم يكن هناك أدنى مبرر لها، فالآن فاتورة الانقلاب كبيرة جداً بالنظر إلى ما آل إليه الوضع من سوء وترد في كل نواحي الحياة. والسبب في نظري لما حدث يرجع إلى عدم القدرة على التخطيط السياسي السليم من قبل القائمين على هذا الانقلاب. فهناك كثير من التصورات بنيت على استشارات ضعيفة، فالمجموعة الانقلابية تنقصها الخبرة والدراية وتدير الأمور بالعقلية العسكرية من دون وجود سند سياسي يدعمها في إدارة المشهد".
وعود أجنبية
وفي السياق أوضح أستاذ العلوم السياسية في جامعة أفريقيا العالمية في الخرطوم، محمد خليفة صديق، بأن "هناك غموضاً حول ما اتخذه البرهان من إجراءات عطل بموجبها الشراكة مع المدنيين، فقد يكون بنى حساباته على وعود أجنبية أو عسكرية تشكل له سنداً سياسياً، لكن ما حدث بعد ذلك لم يكن كما هو مخطط له، بل أمسك العصا من المنتصف، فهو لم ينقلب انقلاباً كاملاً ولم يستمر في تنفيذ إجراءاته التي أعلن عنها في بيانه الأول يوم 25 أكتوبر. والآن لا نعرف إذا كانت هذه حكومة مدنية أم عسكرية، كما أن وجود أعضاء مجلس السيادة من العسكريين ليس له تأثير في ناحية معالجة المشكلات التي يعانيها المواطن السوداني لا سيما الاقتصادية، فظل وجودهم شرفياً من دون المستوى المأمول".
وتابع صديق "يبدو أن البرهان لم يقرأ الملعب جيداً قبل اتخاذه تلك القرارات، لأن الأحوال بعد 25 أكتوبر أشبه بما قبلها بل أسوأ بكثير مما كان عليه المشهد آنذاك. وربما أوحى له الخارج بشيء من الرضا على ما اتخذه من إجراءات، لكن ذلك الخارج لم يدعمه حتى النهاية وتخلى عنه".
وواصل أستاذ العلوم السياسية "بعد مرور عام على انقلاب البرهان لا تزال الأوضاع في البلاد عند نقطة الصفر من دون تقدم يذكر بخاصة من جانب القضايا الأساسية، مثل الانتقال وترتيبات الانتخابات وتكملة أجهزة الحكم وغيرها، فقد تكون التسوية الجارية الآن آخر طلقة في يد البرهان، فإذا نجحت في إيجاد توافق سياسي بمشاركة واسعة من القوى المدنية تكون قراراته أثمرت لكن ببطء شديد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قرارات ضرورية
في المقابل قال القيادي في "الجبهة الثورية"، نائب رئيس "جبهة كفاح السودانية"، حذيفة محيي الدين البلول، "في الحقيقة أن الأزمة السودانية بتمظهراتها كافة لم تبدأ مع قرارات البرهان في 25 أكتوبر، وإنما عقب سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير، وذلك بعد سعي مجموعة من قوى الحرية والتغيير للتفاوض مع المكون العسكري، متجاوزة آراء عدد مقدر من مكوناتها، وتوصلها إلى صفقة ثنائية أنتجت حكومة الفترة الانتقالية، والتي هيمنت فيها على القرار السياسي وأدت إلى تضعضع المكون الرئيس للانتفاضة، كما أن طابع هذه الحكومة كان إقصائياً بدرجة كبيرة، فضلاً عن اتباع سياسة التمكين الحزبي، مما فجر الغبن بين مكونات هذه الفترة لا سيما شركاء السلام من الحركات المسلحة، كما تجاهلت مكونات تلك الحكومة دعاوى الإصلاح وتوسيع قاعدة المشاركة، وظلت متمسكة بمواقفها الرافضة للحوار مع الآخرين والسير في طريق الهيمنة والإقصاء، متجاهلة مبادرة رئيس الوزراء وغيرها من مبادرات وطنية".
وأردف البلول "أسهم هذا الوضع المتأزم في إرباك المشهد السياسي، وإحداث حال من الانسداد والاحتقان، في وقت كادت البلاد تخطو نحو الهاوية، فجاءت قرارات 25 أكتوبر للسيطرة على الموقف الذي وصل مرحلة من الخطورة، فأنهت هذه القرارات حقبة الشراكة مع الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية، ممثلة في قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، كما أوقفت التشاكس على السلطة، والتزمت حماية الانتفاضة والفترة الانتقالية والحكم المدني الديمقراطي، لكن ضعف المؤسسة العسكرية حال دون تنفيذ تلك القرارات، ولو أن البرهان التزم تنفيذ ما جاء من قرارات لما وصلنا إلى هذا الوضع من غياب كامل لمؤسسات الدولة، وأزمات اقتصادية متلاحقة في القطاعات الحيوية كافة، إلى جانب السيولة الأمنية والاضطرابات السياسية التي ما زالت قائمة".
وشدد القيادي في "الجبهة الثورية" على أن قرارات 25 أكتوبر كانت ضرورية في ذلك الوقت، إلا أنها لم تجد طريقها للتنفيذ، مما ساعد بشكل كبير في ما نشاهده من هشاشة سياسية وأمنية، لكن بشكل عام الوضع الحالي للبلاد، ممثلاً في قواه السياسية ومكوناته المختلفة، غير مؤهل لقيادة دولة تسع الجميع وتؤمن بالديمقراطية والحكم المدني.