ينتظر لبنان انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفاً للرئيس ميشال عون، ومع هذا الاستحقاق تفتح "اندبندنت عربية" ملف رؤساء الجمهورية في لبنان على مرحلتين قبل "الطائف" وبعده، وهذه الحلقة من حلقات رؤساء ما قبل الطائف مع عهد الرئيس إلياس سركيس.
في انتخابات رئاسة الجمهورية عام 1970 لم يخسر إلياس سركيس الحرب بل خسر جولة، فالفرصة التي ضاعت بفارق صوت واحد ستعود لتقع بين يديه.
صحيح أنه كان مرشح النهج الشهابي ضد سليمان فرنجية مرشح الحلف الثلاثي، ولكنه عام 1976 سيعود مرشح الحل والخروج من الحرب.
في عام 1970 كان مرشح فؤاد شهاب ولكنه في 1976 سيصبح مرشح الجبهة اللبنانية بتأييد من رئيس سوريا حافظ الأسد بعد الخلاف الكبير الذي نشأ بينه وبين ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية وحليفه كمال جنبلاط رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي ورئيس الحركة الوطنية.
الانتخاب والطريق إلى الحكم
في الثامن من مايو (أيار) 1976 وقبل خمسة أشهر من انتهاء ولاية الرئيس سليمان فرنجية تم انتخابه رئيساً للجمهورية بعد تعديل الدستور، وهو الرئيس اللبناني الوحيد الذي استفاد من هذا التعديل بعدما انقلبت الأمور عام 1988 عندما تعطل انتخاب الرئيس، ثم بعد 2005 عندما صار الفراغ في سدة الرئاسة هو البديل بانتظار التفاهم على رئيس جديد.
تحت القصف جرت جلسة الانتخاب، وبعض النواب تم إيصالهم إلى مقر النواب بالملالات العسكرية، وبأكثرية 66 صوتاً وبثلاث أوراق بيضاء وبغياب 30 نائباً صار الياس سركيس رئيساً للجمهورية، وكان عليه أن ينتظر حتى الـ 23 من سبتمبر (أيلول) ليتسلم الرئاسة، واستفاد من هذا الوقت الفاصل ليؤسس فريق العمل الذي سيشاركه الحكم.
انطلق عهده بزخم ودعم عربي ودولي، وكانت هناك محاولة لإخراج لبنان من حال الحرب بعد عام ونصف العام من القتال والصراعات، وهذا الدعم تجلى خلال مؤتمري قمة عربيين مصغرين عقدا من أجل لبنان، الأول بالرياض في الـ 16 من أكتوبر (تشرين الأول) 1976، بمبادرة من السعودية والكويت لبحث الأزمة اللبنانية ودرس سبل حلها، وحضرته ست دول هي السعودية والكويت ومصر وسوريا ولبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية، والأخير عقد بالقاهرة في الـ 25 من أكتوبر وحضرته 14 دولة، وأبرز ما تقرر فيه إرسال قوات أمن عربية لرعاية السلام المنتظر مع الرئيس اللبناني الجديد الواعد. ولكن ما حصل بعد ذلك أن هذه القوات تشكلت بأكثريتها من الجيش السوري الذي دخل إلى لبنان وخاض معارك ضد الفلسطينيين والحركة الوطنية بعد التحول الكبير الذي طرأ على مواقف رئيس سوريا حافظ الأسد، وكانت هذه القوات مطعمة بوحدات رمزية من السعودية واليمن والسودان على سبيل المشاركة والموافقة على القرار، واعتباراً من هذا التاريخ ستصبح القوات السورية القوة العسكرية الأكبر في لبنان الموضوعة نظرياً تحت إمرة الرئيس سركيس، بينما بقيت تتلقى أوامرها من دمشق.
ومع انتشار هذه القوات لاحت في الأفق اللبناني بارقة أمل مع اختفاء المظاهر المسلحة، ولكن النار بقيت تحت الرماد. استفاد الرئيس سركيس من هذه الفرصة ليحاول إعادة بناء الدولة وتوحيد الجيش، وبدأ عملية إعادة البناء منذ عاد للقصر الجمهوري في بعبدا الذي كان مهجوراً منذ تركه الرئيس فرنجية قبل ستة أشهر.
ضياع الفرص
التحدي الأول الذي واجهه سركيس كان اغتيال كمال جنبلاط في الـ 16 من مارس (آذار) 1977 وما تبعه من اعتداءات ضد المسيحيين في جبل لبنان مع أن التهمة كانت موجهة إلى سوريا، أما الثاني فتمثل في اضطراب العلاقات العربية - العربية.
منذ عام 1977 برز توجه الرئيس المصري أنور السادات نحو السلام مع إسرائيل وإعلانه نيته زيارة القدس، وتمت ترجمة هذا التوجه باتفاقات "كامب ديفيد" عام 1978 بينه وبين رئيس وزراء إسرائيل مناحيم بيغن والرئيس الأميركي جيمي كارتر.
هذا التوجه أدى إلى انقلاب الوضع في لبنان وضياع بارقة الأمل بالسلام، وشكل التحدي الأكبر للرئيس الذي كان يتكل على التوافق العربي في قمتي الرياض والقاهرة الذي انهار بعد أقل من عام واحد. وأدى هذا التحول الكبير في المنطقة أيضاً إلى انقلاب في الموقف السوري، بحيث أعاد الرئيس حافظ الأسد نسج علاقاته مع ياسر عرفات حتى لا يذهب في الاتجاه الذي سلكه السادات.
أولى علامات هذا الانقلاب ظهرت في فبراير (شباط) عام 1978 خلال الاشتباكات العنيفة التي حصلت بمنطقة الفياضية بين الجيش اللبناني الذي كان يعاد توحيده وبناؤه، وبين الجيش السوري الذي تكبد خسائر كبيرة خلخلت العلاقة التي كانت بدأت ترتسم بين الأسد والرئيس سركيس.
وجاء التحدي الثالث أمام حكم سركيس في استمرار العمليات الأمنية الفلسطينية انطلاقاً من لبنان.
وفي الـ 11 من مارس تم تنفيذ عملية واسعة داخل إسرائيل أدت إلى مقتل 37 إسرائيلياً، فردت إسرائيل بعد ثلاثة أيام باجتياح جنوب لبنان في عملية عسكرية واسعة حتى نهر الليطاني، ولم يكن أمام لبنان إلا اللجوء إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن الذي أصدر القرار (425) الذي يطلب انسحاب الجيش الإسرائيلي من الجنوب وإرسال قوات دولية للفصل بين البلدين، ولكن الجيش الإسرائيلي لم ينسحب بشكل كامل وأقام منطقة أمنية على طول الحدود سميت دولة لبنان الجنوبي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
التحدي الرابع الذي واجهه عهد الرئيس سركيس كان في الـ 13 من يونيو (حزيران) 1978 في "حادثة إهدن" بين حزب الكتائب والرئيس سليمان فرنجية التي أدت إلى مقتل ابنه طوني وزوجته وابنته وعدد من أنصاره وعدد من المهاجمين، وقد نتج من هذه العملية توسيع انتشار الجيش السوري في مناطق الشمال اللبناني وتهجير عدد كبير من أهالي المنطقة، مما خلق خطوط تماس عسكرية جديدة، ولم يكن الرئيس سركيس قادراً على احتواء هذا الانهيار.
أما التحدي الخامس كان في اندلاع الحرب بين القوات السورية وبين القوات اللبنانية بقيادة بشير الجميل في الأشرفية أواخر يونيو من العام نفسه، إذ خرجت قيادة القوات السورية بشكل كامل عن سلطة الرئيس سركيس، وأمطرت المناطق الشرقية من العاصمة بوابل من القذائف في معارك استمرت ثلاثة أشهر وأدت إلى خروج القوات السورية من الأشرفية وإلى انسحاب باقي الوحدات العربية من لبنان. هذا الأمر أدى إلى خلاف كبير بين الرئيس سركيس والجبهة اللبنانية خصوصاً الرئيس كميل شمعون، وظهر سركيس وكأنه عاجز عن التأثير في مجرى الأحداث، فسارع في السادس من يوليو (تموز) إلى الاعتكاف عن ممارسة صلاحياته، وبعد يومين كتب استقالته من رئاسة الجمهورية، ولكنه بعد ثلاثة أيام ونتيجة المناشدات والتدخلات الدولية عاد عنها من دون أن تعود الأمور لطبيعتها فاستمرت الحرب السورية ضد المناطق الشرقية.
بشير الجميل وقوة الحضور
التحدي السادس الذي واجهه سركيس كان في يوليو (تموز) عام 1980 عندما حسم قائد القوات اللبنانية بشير الجميل الذي خرج من حرب الـ 100 يوم منتصراً، الوضع المتفلت في المناطق الشرقية وقضى على القوة العسكرية لحزب الوطنيين الأحرار التابع للرئيس كميل شمعون، وغدا الرجل الأقوى في هذه المناطق فارضاً حضوره على الساحة الداخلية مما جعل الرئيس سركيس مضطراً إلى التعامل معه ومستنداً إليه في تحقيق نوع من التوازن مع الحكم في سوريا.
التحدي السابع الذي واجهه سركيس كان في حرب زحلة في أبريل (نيسان) 1981 التي شنتها سوريا ضد المدينة المسيحية في قلب منطقة البقاع، مطالبة بطرد القوات اللبنانية التي تدافع عنها منها.
وكما في حرب الأشرفية وجد الرئيس سركيس نفسه عاجزاً عن التأثير في القرار السوري، وبدأ وكأنه أصبح يدير عمليات وقف إطلاق النار واحتواء الانفجارات المتتالية، ولكن ما حصل في "حرب زحلة" فاق التوقعات عندما تدخل الطيران الإسرائيلي في المعركة وأسقط طوافات سورية كانت تشارك في العمليات الحربية فردت دمشق بإدخال بطاريات صوريخ "سام 6" إلى البقاع، وهو ما اعتبر تجاوزاً لاتفاق الخطوط الحمر الذي كانت وافقت عليه سوريا وإسرائيل ووضعته واشنطن لتغطية التدخل السوري في لبنان عام 1976.
وعند هذا التطور وخوفاً من تحوله إلى حرب بين سوريا وإسرائيل، أرسل الرئيس الأميركي رونالد ريغن موفداً خاصاً إلى لبنان هو فيليب حبيب الذي بدأ وساطة معقدة لسحب فتائل التفجير، ولكن لم يكن واضحاً وقتها بعد أن مهمة حبيب ستكون طويلة، وأن دوره في لبنان سيكون كبيراً.
وفي ظل هذا الوضع بدأ التخوف من اجتياح إسرائيلي جديد للبنان عندما أمسك اليمين الإسرائيلي بزعامة مناحيم بيغن بالسلطة ووصل أرييل شارون إلى وزارة الدفاع، ومع اقتراب موعد انتهاء عهد الرئيس الياس سركيس وبدء بشير الجميل الاستعداد والتحضير ليكون مرشحاً لرئاسة الجمهورية.
وفي السادس من يونيو عام 1982 بدا جلياً أن ما كان يتم تسريبه تحول إلى حقيقة وواقع على الأرض، فبعد ثلاثة أيام على تنفيذ محاولة فاشلة لاغتيال السفير الإسرائيلي في لندن شلومو أرغوف بدأ الاجتياح الإسرائيلي الثاني الواسع للبنان في عملية لم تكن لها حدود، ومنذ العام 1978 استمرت عمليات القصف بالصواريخ على شمال إسرائيل، وهذه العملية كانت تهدف إلى إبعاد منظمة التحرير من الجنوب، ثم ظهر أنها تهدف أيضاً إلى إخراجها من لبنان، وبسرعة قياسية سقطت المناطق اللبنانية تحت السيطرة الإسرائيلية وانسحب مسلحو منظمة التحرير إلى بيروت التي أصبحت تحت الحصار. حصلت مواجهات بين الجيشين الإسرائيلي والسوري تكبد فيها الأخير خسائر فادحة خصوصاً في سلاح الطيران، وحوصرت قواته أيضاً في بيروت وتوقف الجيش الإسرائيلي عند المداخل المؤدية إلى قصر بعبدا.
عند هذا الحد عاد فيليب حبيب إلى لبنان وكان الشرط الإسرائيلي لوقف القتال هو خروج منظمة التحرير وياسر عرفات من لبنان وانسحاب الجيش السوري إلى البقاع.
خلال المفاوضات التي كان يتولاها حبيب أعلن بشير الجميل ترشحه لرئاسة الجمهورية، وفي الـ 23 من أغسطس (آب) وبينما كانت آخر الوحدات الفلسطينية مع ياسر عرفات تخرج من بيروت عبر البحر، كانت تتم عملية انتخابه رئيساً للجمهورية.
بدا للرئيس إلياس سركيس وكأنه في آخر أيام ولايته سيتمكن من نقل السلطة إلى الرئيس المنتخب الذي سيكون بإمكانه أن يحقق ما عجز عنه سلفه، ومرت العلاقات بين رئيس الدولة وقائد القوات اللبنانية بمرحلتين متناقضتين، مرحلة الصراع والتنافس من عام 1976 حتى عام 1980، ومرحلة التعاون بعد عام 1980 عندما أصبح بشير الجميل الرجل الأقوى في منطقته.
هذا التطور الكبير في العلاقة لعب دوراً أساساً فيه مدير المخابرات في عهد سركيس العقيد جوني عبدو، ولكن تلك لم تكن أيضاً نهاية الطريق.
اغتيل بشير الجميل في الـ 14 من سبتمبر وتلقى الرئيس سركيس الخبر بحزن كبير لم يمنعه من البكاء، ورفض محاولات تمديد ولايته ولو لسنتين، وبعد أربعة أيام من اغتيال بشير تم انتخاب شقيقه أمين رئيساً للجمهورية.
الرئيس النظيف
في الـ 23 من سبتمبر ألقى الرئيس سركيس عبء الرئاسة عن كاهله وخرج إلى استراحة طويلة، فقد أتعبته الرئاسة وتجربته في الحكم منذ اختاره الرئيس فؤاد شهاب ليكون إلى جانبه، وكان كفؤاد شهاب صامتاً ورجل مؤسسات، وإليه يعود الفضل في امتلاك لبنان كميات كبيرة من الذهب عندما كان حاكماً للبنك المركزي منذ عام 1968، وخاض انتخابات الرئاسة ضد سليمان فرنجية، وبعد خسارته أبقاه فرنجية في هذا الموقع. كانت الأحداث كفيلة بتحطيم شغفه بالحياة ولم يمهله المرض كثيراً، ووجد نفسه وحيدا في مواجهته باستثناء عدد من المقربين إليه، فتوفي عام 1985 من دون أن تشوب سيرته الذاتية أية شائبة، فقد دخل إلى الحكم نظيفاً وكبيراً وخرج منه كذلك.