تمر العلاقات المغربية - الفرنسية بأسوأ حالاتها، فبعد إصرار الرباط منذ سنوات على ضرورة اعتماد باريس موقفاً واضحاً بخصوص قضية الصحراء، لا سيما في وقت تعتمد فيه فرنسا توجهاً يحاول الحفاظ على العلاقات مع جميع أطراف النزاع.
يرى مراقبون أن تنويع المغرب لشركائه في مجالات عدة جعل فرنسا تعيد حساباتها، فهل تتجه الأزمة بين البلدين نحو القطيعة؟ بالتالي إلى تخلي الرباط عن شريكه الاقتصادي التاريخي؟
جذور الخلاف
منذ إعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب اعترافه بسيادة المغرب على الصحراء الغربية في ديسمبر (أيلول) من عام 2020، وبموازاة الاتفاق الثلاثي المغربي - الأميركي - الإسرائيلي، أصبحت الرباط تنهج سياسة خارجية براغماتية تعتمد بالأساس على موقف الآخرين من قضية الصحراء.
ونشبت خلافات مع دول عدة كألمانيا وتونس وجنوب أفريقيا وإسبانيا التي نجح الضغط المغربي في دفعها إلى مراجعة موقفها من نزاع الصحراء، وإلى تشديدها على ضرورة الحفاظ على التعاون مع الرباط، إضافة إلى ذلك عملت البلاد على البحث عن شركاء جدد خارج الإطار التقليدي.
فراغ وقطيعة غير معلنة
الخبير الاقتصادي المغربي محمد جدري يرى أن العلاقات بين فرنسا والمغرب تمر خلال السنتين الأخيرتين بمرحلة فراغ وقطيعة سياسية غير معلنة.
وأرجع جدري ذلك لأسباب عدة من بينها أن فرنسا لا تنظر بعين الرضا إلى تنويع المغرب لشركائه الاقتصاديين، إذ اتجهت الرباط شرقاً نحو الصين وإسرائيل، وشمالاً نحو المملكة المتحدة وأوروبا الشرقية، وغرباً نحو الولايات المتحدة الأميركية، وجنوباً نحو أفريقيا.
إضافة إلى ذلك، بحسب المصدر ذاته، "أصبح المغرب يزن علاقاته الدولية بموقف الدول من قضية الصحراء، ولم يعد يقبل أبداً بالمواقف الضبابية، إذ أكد عاهل البلاد خلال خطاب المسيرة الخضراء للسنة الماضية أن المغرب لن يقيم مستقبلاً علاقات تجارية واقتصادية مع دول لا تعترف صراحة بمغربية الصحراء".
الميكانزيمات الاستراتيجية
من جانبه قال الباحث المغربي في العلاقات الدولية هشام معتضد إن أسباب الخلاف بين البلدين مرتبطة خصوصاً بعدم استعداد فرنسا لتغيير نظرتها للميكانزيمات الاستراتيجية التي يجب أن تأطر العلاقات بين الرباط وباريس، وذلك في ظل التطورات والتحولات الجيوسياسية التي يعرفها العالم بشكل عام والمنطقة المتوسطية والأفريقية بشكل خاص.
وأوضح معتضد أن القادة الفرنسيين ما زالوا يأملون في ضبط العلاقات مع المغرب على النهج التقليدي والكلاسيكي، الذي يخدم المصالح الاقتصادية لباريس بشكل كبير، لكن هذه النظرة غير قابلة للتطبيق في ظل المتغيرات التي تشهدها الرباط على المستوى الفكري والسياسي والاقتصادي، ولم ولن تعد وحدة قياس التي سيقبل بها المغرب في المرحلة المقبلة، على حد تعبيره.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان المغرب اتهم العام الماضي باستخدام برنامج "بيغاسوس" الإسرائيلي للتصنت على هواتف بعض الشخصيات الفرنسية، وردت باريس في صيف العام الحالي بوضع قيود مشددة على التأشيرات للمواطنين المغاربة (والمغاربيين).
وفي شهر أغسطس (آب) الماضي زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الجزائر، بدعوى إعادة الشراكة بين البلدين بعد أشهر من التوتر، وهو ما اعتبر ضمنياً استفزازاً للمغرب.
إضافة إلى استقبال البرلمان الفرنسي لوفد من جبهة البوليساريو في سبتمبر (أيلول) الماضي، وكذا إنهاء سفيرة فرنسا لدى الرباط مهماتها في الشهر نفسه، بينما عين المغرب أخيراً سفيره لدى باريس في منصب رسمي آخر.
مرحلة مفصلية
يجمع المحللون على كون العلاقات بين البلدين تمر بأحلك أيامها وأنها تتجه، بالنظر إلى التوجه الجديد للمغرب في علاقاته الدولية، نحو التغيير النوعي.
وأشار معتضد إلى أن العلاقات بين البلدين تمر بمرحلة مفصلية، مؤكداً أن المغرب لن يقبل بالإطار القديم لعلاقته مع فرنسا، وأنه على القادة الفرنسيين التأقلم مع الواقع الجديد والبراغماتية السياسية للمعطيات الجديدة في المنطقة، بهدف مراجعة رؤيتها المتعلقة بعلاقاتها مع الرباط.
لكن وعلى رغم ذلك استبعد الباحث المغربي أن تصل الرباط إلى مرحلة التخلي عن الحليف التاريخي الأول فرنسا، موضحاً أن المشكل الأساسي يكمن في الفكر السياسي لباريس الذي ما زال مرتبطاً بالثقافة الاستعمارية في تعامله مع مستعمراته ومحميته التاريخية.
لذلك فالمغرب مصمم، بحسب معتضد، من خلال خطابه السياسي وتدبيره الدبلوماسي، على القطيعة مع نوعية الثقافة القديمة التي تنهجها فرنسا وتحاول الحفاظ عليها في علاقتها مع الرباط، على رغم كون فرنسا أصبحت متجاوزة ثقافياً وعسكرياً واقتصادياً بالنسبة إلى التطلعات السياسية والبنية الديموغرافية والفكرية المغربية، خصوصاً في ظل التطور السريع الذي عرفه المجتمع المغربي الذي يريد الانفتاح أكثر على محاور فكرية مختلفة تستجيب لرغباته الشمولية وتطلعاته العالمية.
من الخاسر اقتصادياً؟
إثر تهديد باريس بنقل شركاتها العاملة بالرباط، تستعد فروع بعض المؤسسات الفرنسية لإنهاء مهماتها بالمغرب، مثل "شركة ليديك" لتدبير قطاع الماء والكهرباء بمدينة الدار البيضاء، فيما توصل بنك "مصرف المغرب" التابع للمجموعة الفرنسية "كريدي أغريكول" إلى الاتفاق على صفقة بيع مع مجموعة "هولماركوم" المغربية، الأمر الذي يثير التخوف على تأثير ذلك القرار على الاقتصاد المغربي.
بحسب إحصاءات رسمية فرنسية، زادت الواردات الفرنسية من المغرب بنسبة 70.5 في المئة وصادراتها إليه بنسبة 18.3 في المئة بين عامي 2012 و2019، وأصبحت باريس تحتل المرتبة الثانية في قائمة موردي الرباط، إذ تبلغ حصتها في السوق 12.2 في المئة، خلف إسبانيا التي تحظى بنسبة 15.6 في المئة.
كما تحافظ فرنسا على صدارة قائمة المستثمرين الأجانب في المغرب وبالخصوص في قطاع الخدمات الذي وصلت حصة فرنسا فيه إلى 35 في المئة، أي ما يعادل 10.8 مليار يورو من مجموع الاستثمارات الأجنبية المباشرة في المملكة خلال عام 2019.
وكذلك يوجد المغرب في صدارة وجهات الاستثمارات الفرنسية بالقارة الأفريقية بما يفوق 950 فرعاً للشركات الفرنسية في المغرب.
من جانبه يخفف الخبير الاقتصادي محمد جدري من التخوف من قرار فرنسا بنقل بعض شركاتها من المغرب على اقتصاد الرباط، موضحاً أن الخاسر من جراء تلك الخطوة هو باريس.
وقال إن "ما ستخسره فرنسا مستقبلاً، حتى بعد عودة العلاقات بين البلدين إلى طبيعتها، يتعلق أساساً بضعف تنافسية المقاولات الفرنسية أمام المقاولات المغربية أو مقاولات الشركاء القدماء - الجدد كإسبانيا وألمانيا وأميركا والصين وإسرائيل وغيرها".
وأضاف جدري أن "المثال الصارخ الذي يعبر عن هذا الضعف التنافسي للمقاولات الفرنسية التي كانت تعتمد على نفوذها السياسي والدبلوماسي بالمغرب من أجل الفوز بعديد من الصفقات العمومية الكبرى، هو فوز مجموعة مغربية أمام مجموعة فرنسية بصفقة إنشاء ميناء الداخلة الأطلسي، التي تصل إلى 10 مليارات درهم، وتمتد إلى أكثر من ثماني سنوات من الإنجاز".
فيما أوضح الباحث هشام معتضد أن القيادة المغربية أصبحت مقتنعة جداً بضرورة تنويع الشركات على ضوء الاتفاق الثلاثي، خصوصاً أن الساحة الدولية ومحور القوى أصبح في تذبذب، لاسيما في ظل ترقب العالم لمرحلة مقبلة تحمل كثيراً من التساؤلات الجيوستراتيجية المتعلقة بالخريطة السياسية الدولية المفتوحة على جميع الاحتمالات.
وأكد معتضد أن الخيار السياسي المغربي بتنويع شركائه أزعج فرنسا ويدفعها إلى استعمال الورقة الاقتصادية والتجارية لمحاولة الضغط على الرباط، مما سيؤثر جزئياً وظرفياً في الاقتصاد المغربي، لكنه خلص إلى أنه "على المستويين المتوسط والبعيد سيكون الرابح الأكبر بكل تأكيد الدولة المغربية والمجتمع المغربي، خصوصاً وأن هناك رغبة سياسية حقيقية وانخراطاً مجتمعياً واعياً بالقطع مع الإطار الكلاسيكي المتجاوز الذي تريد الإبقاء عليه فرنسا في علاقتها مع المغرب".