مع تراجع إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا جراء العقوبات الغربية المفروضة على موسكو على خلفية حربها في أوكرانيا، تتصاعد حدة الصراع بين الفريقين المتنافسين على ثروات الغاز في شرق البحر المتوسط، الأول تمثله مصر والدول الأعضاء في منتدى غاز شرق المتوسط ومقره القاهرة، والأخير تمثله تركيا التي صعدت تحركاتها المناوئة لخصومها في تلك المنطقة وعلى رأسهم اليونان.
وبينما ترأس مصر حالياً منظمة الدول المصدرة للغاز (تضم 19 دولة من أربع قارات وتستحوذ على نسبة 72 في المئة من صادرات الغاز عالمياً منذ إنشائها عام 2001)، تطالب القاهرة الاتحاد الأوروبي بالإسراع في تمويل مشروعات التعاون بين الدول الأعضاء في منتدى غاز شرق المتوسط من أجل توفير الإمدادات الضرورية إلى القارة العجوز، فيما تقف اعتبارات سياسية وبيئية أمام تحقيق حلم الازدهار المنتظر من الاحتياطات الضخمة المكتشفة في تلك المنطقة، في وقت تعاني منه تلك البلدان ضغوطاً اقتصادية صعبة تضاعفت خلال العامين الماضيين بسبب تداعيات الوباء والحرب.
تنافس محموم في شرق المتوسط
على رغم التهدئة الملحوظة للتوتر وتوقف المناوشات اللفظية بين أنقرة والقاهرة لا يزال ملف الغاز عائقاً أمام مزيد من خطوات التقارب الذي دشنتها أنقرة أخيراً تجاه محيطها الإقليمي، فقد فتح انخفاض إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا شهية المصدرين الجدد للغاز في شرق المتوسط لتعويض الغياب الروسي عن بعض الأسواق الأوروبية نتيجة للعقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على الكرملين بسبب حربه ضد أوكرانيا أواخر فبراير (شباط) الماضي.
وقال أحمد قنديل، مدير برنامج دراسات الطاقة بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية بالقاهرة، إن "الحرب في أوكرانيا سرعت تغيير تحالفات وصراعات الغاز في شرق البحر المتوسط، فقد أدى الارتفاع الكبير في أسعار الغاز العالمية نتيجة العقوبات ضد موسكو وتراجع حصة الواردات الروسية إلى أوروبا من 40 إلى 10 في المئة تقريباً خلال الوقت الحالي إلى بحث أوروبا عن بدائل، فجاء الاتفاق الثلاثي بين الاتحاد الأوروبي ومصر وإسرائيل، ثم الاتفاق اللبناني الإسرائيلي بوساطة أميركية، فضلاً عن العمل على اتفاق لترسيم الحدود البحرية بين مصر وإسرائيل والسلطة الفلسطينية".
وأضاف "الأطراف الثلاثة أعضاء في منتدى غاز شرق المتوسط وهو ما مثل اعترافاً إسرائيلياً للمرة الأولى بحقوق الفلسطينيين في التنقيب عن الغاز والثروات المعدنية، وينظر إليه كنجاح للقاهرة في وضع الطرفين معاً تحت مظلة المنتدى الذي تأسس بمبادرة مصرية".
لكن هذا المنحى التعاوني لم يتغلب بعد على مثابرة تركيا لاقتناص فرصة التعطش الأوروبي للطاقة، إذ أعادت أنقرة توقيع مذكرة تفاهم جديدة مع حكومة طرابلس الليبية المنتهية ولايتها برئاسة عبدالحميد الدبيبة أوائل أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، عدها رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح غير قانونية وغير ملزمة، لأن ولاية حكومة الدبيبة منتهية قانوناً".
ويعتقد قنديل، أن "الأطراف المتضررة من التعاون الذي تقوده مصر في شرق المتوسط، ليس في استطاعتهم تعطيله"، موضحاً أن "حركة حماس كسلطة أمر واقع في غزة، وكذلك حزب الله في لبنان، أصبحا في وضع حرج لا يسمح لهما بتعطيل اتفاقات الغاز التي تمثل الملاذ الأخير لتحسين الأوضاع المعيشية للفلسطينيين واللبنانيين، ولذا لم يعترض "الحزب" على الاتفاق اللبناني، وروسيا تنظر إلى الاتفاقات الأخيرة على أنها تقلل من عودتها لموقعها على رأس مصدري الغاز بعد انتهاء الأزمة الأوكرانية، لكن ما يعوضه التصدير من بلدان شرق المتوسط لا يزال نسبة ضئيلة مقارنة مع الحصة الروسية، كما أن موسكو لديها حقوق تنقيب في سوريا وشريك بنسبة في حقل ظهر المصري، بينما لا تزال تركيا تناكف تلك الاتفاقات سياسياً من خلال الاتفاق مع حكومة الدبيبة، لكن هذا الاتفاق تأثيره محدود في التعاون المتنامي القائم شرق المتوسط".
الغاز المصري إلى لبنان أخيراً
وقعت مصر ولبنان وسوريا في يونيو (حزيران) الماضي اتفاقاً لنقل 650 مليون متر مكعب من الغاز المصري سنوياً إلى لبنان عبر سوريا، وانتظرت الصفقة نحو العام للحصول على موافقة أميركية باستثناء القاهرة من العقوبات المالية التي فرضها قانون قيصر الأميركي على سوريا.
وكشفت مصادر مطلعة من الأعضاء في منتدى غاز شرق المتوسط أن الخطوة المقبلة للمنتدى ستكون انضمام لبنان وسوريا إلى عضوية المنتدى الذي تحول إلى منظمة إقليمية دائمة في عام 2020، بخاصة بعد الاتفاق الأخير لتصدير الغاز المصري إلى لبنان عبر سوريا والأردن العضو في المنظمة.
ويرى قنديل أن "القاهرة تسعى إلى مساعدة سوريا ولبنان اقتصادياً، وسعت في الأشهر الأخيرة إلى تصدير الغاز إلى لبنان من طريق سوريا، بعد استثنائها من العقوبات الأميركية المفروضة على دمشق بموجب قانون قيصر، كما لعبت واشنطن الدور الرئيس في التوصل إلى الاتفاق اللبناني الإسرائيلي، وساعدت تلك الخطوات على تأطير التعاون المصري اللبناني السوري، ومصر جاهزة من الناحية الفنية لإمداد سوريا ولبنان بالغاز، كما سترحب بانضمامهما للمنتدى، لكن هذه الخطوة ربما تتعثر أمام اعتبارات سياسية تتعلق بعدم اعتراف بيروت ودمشق بإسرائيل، والحل يكمن في الانضمام للمنتدى مع التحفظ على الاعتراف بإسرائيل، فالمنتدى له طبيعة اقتصادية وفنية خالصة وليس منبراً سياسياً، وسيوفر للأعضاء الجدد فرصاً لازدهار صناعة الغاز ونقل التكنولوجيا والخبرات الفنية، وهو لا يشترط في عضويته الاعتراف بإسرائيل، وربما يدفع الاتجاه التعاوني الذي يوفره المنتدى إلى خطوات نحو السلام أو على الأقل الاستفادة من بعض حقول الغاز المكتشفة منذ عام 2000 قبالة سواحل لبنان وفلسطين وسوريا غير المستغلة حتى الآن.
الغاز مقابل الاستثمارات
لا تزال الكميات المستخرجة فعلياً من الغاز في بلدان منتدى شرق المتوسط عاجزة عن تلبية الاحتياجات الأوروبية المتزايدة من الطاقة، لكن الاحتياطات الضخمة من موارد الهيدروكربون ترشح تلك الدول إلى لعب دور أكبر في المستقبل القريب إذا توفرت الاستثمارات الضرورية لاستغلال حقول الغاز الواعدة في المنطقة، لعل ذلك ما دفع وزير البترول والثروة المعدنية المصري طارق الملا للقول، إن إمدادات الغاز في شرق المتوسط كافية لسد حاجة أوروبا إذا تحققت الاستثمارات اللازمة لزيادة إنتاج الغاز، وذلك على هامش مشاركته في اجتماع لمنتدى شرق المتوسط للغاز استضافته العاصمة القبرصية نيقوسيا منتصف أكتوبر الحالي، ووصف الملا احتياطات الغاز في شرق المتوسط بأنها "طوق نجاة" أوروبا من أزمة الطاقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بدوره يذهب محمود قاسم، الباحث في برنامج الأمن والدفاع في المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية بالقاهرة، والمتخصص بشؤون الطاقة، إن "منطقة شرق المتوسط تعج أحد البدائل المستقبلية المهمة لدول أوروبا في ظل رغبتها لتقليص أو إنهاء الاعتماد المفرط على الغاز الطبيعي الروسي، ما يعني أن دول أوروبا تنظر للاستثمار في شرق المتوسط باعتباره رهاناً رابحاً، الأمر الذي يمكن الوقوف عليه من خلال التحركات الأخيرة التي أعقبت الحرب، وفي مقدمها توقيع الاتفاق الثلاثي بين مصر وإسرائيل والاتحاد الأوروبي لنقل الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا".
ورجح قاسم أن "تدفع دول أوروبا تجاه ضخ مزيد من الاستثمارات وتشجيع الشركات العاملة في مجال التنقيب ومزيد من العمل في ظل الاحتياطات الهائلة للمنطقة، التي يمكن أن تلعب دوراً مؤثراً في رحلة البحث الأوروبي عن بديل للغاز الروسي، لكن يظل التحدي الأبرز هو عدم وجود خطوط أنابيب لنقل الغاز من الدول المنتجة شرق المتوسط لأوروبا، حيث ينقل الغاز عبر تسييله في محطات الإسالة المصرية ومن ثم نقله إلى أوروبا، الأمر الذي يحد بشكل ما (على رغم أهميته) من صادرات غاز المتوسط إلى أوروبا، من هنا يمكن أن تتجه مصر إلى توسيع محطات الإسالة بهدف ضخ مزيد من الغاز إلى دول أوروبا".
تركيا تعرقل التعاون
ويعتقد قاسم أن اتفاق تركيا مع حكومة الدبيبة في ما يتعلق بالتنقيب عن الغاز الطبيعي، تم توقيعه في الثالث من أكتوبر الجاري، يمكن أن يعيد منطقة شرق المتوسط إلى مربع الاستقطاب وصراع المحاور الذي هدأت ملامحه خلال العامين الماضيين بخاصة في ظل التوترات الأخيرة بين اليونان وتركيا".
وأضاف "من ناحية أخرى تشكلت ملامح إيجابية لمعالجة نزاع بحري امتد لسنوات بين لبنان وإسرائيل عبر التوافق المعلن بين الجانبين بشأن ترسيم الحدود البحرية في ما بينهما، وينظر إليه باعتباره تحولاً نوعياً في طبيعة العلاقة بينهما نظراً للمحاذير التي فرضتها العلاقات التاريخية بين البلدين على أي مساع للتقارب".
واعتبر الباحث أن "التحرك التركي الأخير مدفوعاً بجملة من التغيرات التي تشهدها الساحة الدولية وتحديداً الحرب الروسية الأوكرانية، حيث ترى تركيا أن حاجة الدول الأوروبية للطاقة في ظل المأزق الذي تعيشه على خلفية وقف إمدادات الطاقة الروسية قد لا يجعلها تعارض التحركات التركية في شرق المتوسط، كما أنها تراهن على الانشغال الدولي في الحرب الممتدة منذ نحو ثمانية أشهر، من هنا يبدو أن سياسة تركيا تستهدف فرض أمر واقع، إلا أن الأمر قد لا يتم بهذه السهولة في ظل المعارضة المصرية واليونانية والقبرصية لأي تفاهمات بين تركيا وحكومة الدبيبة، بخاصة أنها تتنافي مع القانون الدولي للبحار".
كما تعمل تركيا عبر تفاعلاتها في شرق المتوسط على توظيف أزمة الطاقة في إعادة إحياء مشروعها الرامي للعب دور مركزي في نقل الغاز الطبيعي لدول أوروبا، بخاصة في ظل التقارب الروسي التركي في هذا الصدد بعدما اقترح الرئيس الروسي أن تصبح تركيا مركزاً لنقل الغاز الروسي لأوروبا، يضاف لذلك رغبة تركيا في النفاذ لشرق المتوسط عبر البوابة الليبية بهدف السيطرة أو على الأقل ممارسة دور في عملية نقل الغاز المحتملة من أفريقيا إلى أوروبا عبر ليبيا، على غرار خط الأنابيب المقترح لنقل الغاز من نيجيريا إلى أوروبا مروراً بليبيا.
الغاز قبلة إنعاش للاقتصاد المصري
وبعد يومين من تنظيم الحكومة المصرية فعاليات "المؤتمر الاقتصادي - مصر 2022" التي استهدفت وضع خريطة طريق من أجل "التعافي من الأزمة الاقتصادية"، والتي دعا الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي خلالها إلى "إجراءات حادة وواضحة لمعالجة المشكلات التي تواجه الاقتصاد كافة" مؤكدا أنه "كان واضحاً عمق الأزمة التي تعاني منها مصر وتتطلب إجراءات حادة لعلاج الاختلالات على مدار الـ 50 عاماً الماضية".
واستضافت مصر يوم الثلاثاء الاجتماع الوزاري الـ24 لمنتدى الدول المصدرة للغاز الطبيعي في العالم، حيث أكد الرئيس المصري "أهمية ودور هذا المحفل الحيوي للتعاون في مجال الطاقة إقليمياً ودولياً، بخاصة أنه يضم في عضويته كبرى الدول المصدرة للغاز عالمياً، وآخذاً في الاعتبار تأثر قطاع الطاقة حالياً جراء الظروف العالمية، وهو ما يتيح للمنتدى بأعضائه فرصة الاضطلاع بدور أكبر في المشهد الحالي لتأمين إمدادات الطاقة على المستوى العالمي"، بالنظر إلى الإمكانات والموارد والقدرات المتوفرة لدى الدول الأعضاء، التي تؤهلها للإسهام في تحقيق استقرار أسواق الطاقة.
ودعا السيسي إلى تكثيف الجهود والتعاون المشترك في المحافل كافة لتحقيق أقصى استغلال للغاز الطبيعي لضمان تحقيق انتقال عادل للطاقة واستفادة جميع الدول من مصادرها الطبيعية، معرباً عن التطلع لمشاركة أعضاء المنتدى كافة في قمة المناخ العالمية "كوب 27"، التي تستضيفها مصر خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل في مدينة شرم الشيخ، لتسليط الضوء على أهمية الغاز الطبيعي وقدرته على تحقيق التوازن المطلوب بين الوصول للتنمية والرخاء للشعوب والحفاظ على البيئة.
وخلال اجتماع المنتدى الذي عقد برئاسة مصر ومشاركة الجزائر وقطر وروسيا وإيران وغينيا الاستوائية، وترينداد وتوباغو، وفنزويلا ونيجيريا وبوليفيا كأعضاء في المنتدى، وكل من الإمارات والعراق وماليزيا وأذربيجان وأنغولا وموزمبيق كمراقبين، أكد طارق الملا وزير البترول المصري أهمية انعقاد المنتدى في دورته الحالية تحت الرئاسة الدورية المصرية "في وقت تتجسد فيه الأهمية البالغة للطاقة عالمياً وتحديات تأمين إمداداتها، بما يؤكد ضرورة التعاون الإقليمي والدولي في هذا المجال لتحقيق التنمية والازدهار والوفاء بمتطلبات الشعوب"، بحسب بيان صادر عن الرئاسة المصرية.