في 17 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، قرر الكونغرس في جلسة استماع حظر 75 مليون دولار إضافية من المعونة العسكرية لمصر، بعد حجب 130 مليون دولار في 15 سبتمبر (أيلول) الماضي بسبب موضوعات متعلقة بحقوق الإنسان واستمرار ملف المعتقلين، وبذلك يصل مجموع المبالغ المحجوبة نحو 205 ملايين دولار على الرغم من أن الخارجية الأميركية وعدت في وقت سابق بالإفراج عن 170 مليون دولار من إجمالي المساعدات البالغ قيمتها 300 مليون دولار.
وسبق أن اشترطت الإدارة الأميركية إطلاق سراح نحو 500 عنصر مصري، فيما أشارت وزارة الخارجية إلى أن مصر ستتلقى 95 مليون دولار أخرى بموجب استثناء قانوني يتعلق بتمويل مكافحة الإرهاب وأمن الحدود.
ويلزم القانون الأميركي وزارة الخارجية كل عام بضرورة تحديد ما إذا كانت الدولة المتلقية للمساعدات تلتزم بالمعايير الأميركية في مفهوم الديمقراطية والتعددية والليبرالية، وربط أي تطور في استمرار الحصول علي المساعدات بما تحصل عليه الدولة من شهادة أميركية مستمرة في لجان الكونغرس، وبخاصة في لجنة المخصصات بمجلس الشيوخ، ولجان المتابعة الأخرى.
منظومة محددة
في إطار تخصيص الولايات المتحدة نحو 1.3 مليار مساعدات عسكرية لمصر سنوياً فإن الالتزام الأميركي بهذا الأمر يأتي في إطار استحقاق كامل ومباشر ومستمر منذ معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية، وتوقيع الولايات المتحدة عليها في عهد الرئيس جيمي كارتر كوسيط وشريك، وهو ما أقر لاحقاً في إطار الوجود الأميركي اللافت في تشكيل وتمويل القوة متعددة الجنسيات الرابضة في سيناء لمراقبة الحدود المصرية- الإسرائيلية، ومن ثم فإن الولايات المتحدة لديها استحقاق مهم والتزام واقعي مرتبط بدورها في عملية السلام بين مصر وإسرائيل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويفسر استمرار هذا الوضع حتى الآن في إطار تواصل دعمها المباشر ومسعاها للحفاظ على أمن إسرائيل ووقوفها في مواجهة ما تتعرض له من مخاطر واردة من قطاع غزة، وتأكيدها طبيعة الدور المصري المهم والمباشر في إقرار التهدئة بين إسرائيل وقطاع غزة وعدم استمرار أي تهديدات حقيقية لأمن إسرائيل في إطار مخطط تسعى لإقراره، وهو الوصول إلى هدنة ممتدة وطويلة الأجل تعمل عليها القاهرة وتوفرها نتيجة لطبيعة علاقاتها بالفصائل الفلسطينية بخاصة "الجهاد" و"حماس"، وهو ما برز في المواجهتين الأخيرتين. وأكد طبيعة الدور المصري، وعدم وجود منافس حقيقي على الرغم من أدوار قطر والأمم المتحدة وأخيراً الجزائر.
نهج عدائي
في إطار هذه المعطيات، فإن ما جرى في الكونغرس في الفترة الأخيرة عبر حجب الـ75 مليون دولار يعكس استمرار النهج العدائي لمصر في الكونغرس وتواصل التصعيد معها مقارنة بالدول التي تحصل علي المساعدات مثل الأردن التي تتالت المساعدات لها، حيث حصلت على أكثر من 1.65 مليار دولار عام 2021 بما في ذلك 1.197 مليار دولار خصصها الكونغرس للأردن من خلال وكالة التنمية الدولية، و425 مليون دولار ضمن التمويل العسكري الخارجي لوزارة الخارجية.
وقع الأردن والولايات المتحدة مذكرة تفاهم تحصل عمان بمقتضاها على مساعدات مالية تصل إلى 10.15 مليار دولار من عام 2023 وحتى 2029، وهذا نموذج واضح للتعاملات الأميركية مع دولة في الإقليم، كما أن التعامل مع إسرائيل مختلف تماماً في إطار منظومة كاملة من المساعدات، مع التأكيد أن مصر وإسرائيل تشتركان في كونهما البلدين ذوي المدة الأطول في تلقي المساعدات الأميركية بمبالغ سنوية مرتفعة على الرغم من أن الدول العربية تتلقى مساعدات أميركية بما فيها دول مجلس التعاون الخليجي، التي خصص لها مجتمعة 19 مليوناً عام 2020، وكذلك لبنان والصومال واليمن والسودان وتونس وليبيا والمغرب وموريتانيا والبحرين والسلطة الفلسطينية والجزائر.
أهداف مباشرة
الرسالة إذن مقصودة ومستهدفة بالفعل، وما دار في الكونغرس يشير إلى استهداف مصر بخاصة مع استمرار التصعيد من قبل السيناتور باتريك ليهي رئيس لجنة المخصصات، الذي ما زال يتبنى موقفاً مناوئاً للدولة المصرية، ويحتاج بالتأكيد إلى آليات مختلفة في التعامل هو ومساعدوه سواء داخل اللجنة أو خارجها، حيث تتمتع اللجنة بسلطة قضائية على تشريعات الاتفاق بما في ذلك المساعدات المالية المقدمة لمصر، بخاصة مع الرفض التام لإمكانية تغيير القانون بسبب اعتبارات سياسية أخرى.
ومن المهم أن نشير إلى أن المساعدات المقدمة ليست لها شروط محددة، وتسير وفقاً للظروف والملابسات التي تدور حول القضايا السياسية المطروحة. وقد دخل رئيس اللجنة ليهي في تجاذب مستمر مع الخارجية الأميركية لإيجاد حل وعدم حجز المبلغ عن مصر، لكن الخارجية فشلت في حسم الأمر على الرغم من التأكيد أن الحال المصرية تختلف تماماً عن سائر الدول الأخرى في الإقليم باستثناء إسرائيل، وتصنف على أنها ترتبط بالاحتياجات الدفاعية المشروعة للمصالح الأميركية العليا، التي يجب أن يراعى فيها كثير من الضوابط السياسية والاستراتيجية المهمة.
موقف الكونغرس
في ظل ما يجري يمكن التأكيد على وجود موقفين داخل الإدارة الأميركية يتعامل مع الحال المصرية وحالات الدول العربية الأخرى التي تحصل على المساعدات.
الأول تيار الإدارة الأميركية ويضم عدداً من المستشارين المناوئين للسياسة المصرية الحالية، الذين يبدون بعض التحفظات على نهجها، ومع ذلك يسلمون بدور مصر المحوري وحاجة الولايات المتحدة إليه، وأنه لا يجب التعامل الحدي مع مصر واللجوء إلى الضغط من أعلى عبر اقتطاع أو حجب بعض المساعدات مع مراقبة ما يجري من التزامات مصرية في ملف حقوق الإنسان.
الثاني موقف الكونغرس الذي يتفهم طبيعة الدور المصري بصورته الكاملة، ولديه بعض التحفظات في التعامل المصري مع ملف حقوق الإنسان، وهو ما يمكن تفسيره بتعدد قنوات التعامل داخل الإدارة وتشعب لجان الكونغرس ومجلس الشيوخ ووجود رؤى عدة قد تكون أحياناً متضاربة بخاصة أن الرئيس جو بايدن لا يستمع فقط لهذه اللجان وتوصياتها بل ويعود في مواقفه إلى منظمات حقوق الإنسان والجماعات الحقوقية أيضاً.
ويرى عدد كبير من الخبراء المعنيين بالشرق الأوسط في إدارة بايدن وأغلبهم عمل مع إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما أن مصر دولة مهمة ولا تزال حليفاً لأميركا ومن ثم فإن استمرار دعمها اقتصادياً مهم، ويؤكد هؤلاء أن دورها في مكافحة الإرهاب هو الأهم في المنطقة، ويساعد هذا الدور على الاستقرار وإحداث التوازن الغائب حماية لأمن إسرائيل، وهو ما برز في وقف إطلاق النار بغزة بعد ثلاثة أيام من المواجهة الأخيرة بين إسرائيل وحركة "الجهاد".
أوراق القاهرة
تملك القاهرة كثيراً من الأوراق في تعاملها مع الإدارة الأميركية، وهو ما دفع الخارجية المصرية للرد الفوري على قرار الإدارة الأميركية بحجب الـ75 مليون دولار، وهو رقم هزيل لكنه يكشف بعمق عن وجود تيار مناوئ يدفع بالعلاقات المصرية الأميركية إلى سيناريوهات أخرى، حيث اتخذت الخارجية قراراً بدعم السعودية في موقفها للحد من إنتاج "أوبك" للنفط وهو القرار التي تحفظت عليه واشنطن، واعتبرته موجهاً لها وللسياسة الراهنة للإدارة الأميركية في مواجهة روسيا.
ومع احتمال التصعيد الأميركي من داخل لجان الكونغرس فإن القاهرة قد تتجه إلى روسيا والصين، وهو ما حذر من تبعاته تيار داعم لمصر في الكونغرس على الرغم من كل ما يجري وفي إطار الدعوة للحفاظ على الشركاء في المنطقة، وعدم خسارة مزيد من الحلفاء في ظل رصد التحول الإماراتي اللافت إلى روسيا وزيارة الشيخ محمد بن زايد موسكو والتوتر الجاري بين واشنطن والرياض، الأمر الذي سيمثل إشكالية كبيرة للسياسة الأميركية في المرحلة الراهنة، في ظل استمرار الأزمة الدولية الراهنة والتصعيد الروسي الذي قد يؤدي لمزيد من التوتر في العالم.
دعم مصر
في مقابل السيناتور باتريك ليهي وعدائه لمصر يقف بعض النواب مثل السيناتور الجمهوري تيد كروز وآخرون، وهم من مؤيدي استمرار المساعدات الأميركية لمصر ويتهمون سياسة الرئيس جو بايدن حيال قطع المساعدات بالتحول من عدم الاتساق إلى الإضرار عمداً بالمصالح الأمنية للولايات المتحدة.
هذا نموذج حقيقي قائم في الدوائر الأميركية يتسم بالرشد والعقلانية ويعمل في اتجاهات إيجابية قد تخدم المصالح المشتركة وتحافظ على طبيعة العلاقات بين القاهرة وواشنطن، لأن البديل قد يضر بالمصالح الأميركية بالفعل في حال اتجاه مصر لإجراءات وتدابير ليست فقط متعلقة بالتعامل مع إسرائيل أو الفصائل الفلسطينية، وإنما بالإقليم والاتجاه إلى توطيد علاقاتها مع روسيا.
ولا يزال ماثلاً في الذاكرة الأميركية كيف تعاملت القاهرة برشاد ووضوح عندما اتجهت للدخول في مناورات وتدريبات مشتركة مع روسيا، وعندما اتجهت لبناء دائرة شرق المتوسط بكل تفاعلاتها المعقدة، وكيف نسقت مع الجانب الإسرائيلي بصورة مباشرة عندما فتحت الولايات المتحدة ملف تصفية القوات المتعددة الجنسيات في سيناء، كما لم تنس الإدارة الأميركية الموقف المصري من إحباط الترتيبات الأمنية الأميركية في الشرق الأوسط بدءاً من فكرة "الناتو" العربي الشرق أوسطي، مروراً بمشروع الدرع الصاروخية، الذي أعلنته الولايات المتحدة قبل زيارة الرئيس جو بايدن إلى الرياض وغيرها.
الخلاصات الأخيرة
سيؤدي التصعيد الأميركي أياً كان شكله وتأثيره المحدود في منظومة المساعدات الأميركية لمصر إلى مزيد من التوتر اللافت، الذي يمكن أن يكون مدخلاً لتحركات مصرية في المقابل ستزعج الإدارة الأميركية، بخاصة أن أي نتائج لانتخابات التجديد النصفي للكونغرس ستنعكس على السياسات الأميركية ليس تجاه روسيا والصين فقط وإنما تجاه منطقة الشرق الأوسط بكل ملفاتها المعقدة، وهو ما تتفهمه أصوات داعمة داخل الكونغرس، وتؤكد طبيعة وخصوصية العلاقات بين القاهرة وواشنطن، التي ستظل قائمة على مستويات الشراكة السياسية والاستراتيجية.