ثمة نقاش علمي غير مألوف نسبيّاً، تجدّد في أواخر تشرين ثاني (نوفمبر) 2018 مع هبوط المركبة "إن سايت" التي صنعتها وكالة "ناسا"، على سطح المريخ. يتمحور ذلك النقاش حول فكرة "استنساخ" الظروف العامة للكوكب الأزرق على الكوكب الأحمر، ما يمكن الإشارة إليه باسم "أرْضَنَة المريخ" Terraforming Mars. وإضافة إلى علماء الفضاء، هناك أطراف اخرى مهتمة تماماً، مهما بدا ذلك غريباً للوهلة الأولى، بمسألة "استنساخ" الأرض على الكوكب الأحمر [لنقل أيضاً انه "استيطان المريخ"] من بينهم المستثمر التكنولوجي الشهير إيلون ماسك، صاحب شركة "سبايس إكس" Space X المختصة في اكتشاف الفضاء، وهي أيضاً أول شريكة لوكالة "ناسا" يأتي من القطاع الخاص.
يملك ماسك رؤية لاستيطان المريخ قوامها صنع صواريخ متطوّرة لاكتشاف الفضاء، والسيطرة على الطاقة النووية، وإرساء بنية تحتية للمواصلات الفضائية بهدف نقل ملايين من البشر للعيش على الكوكب الأحمر. وغالباً ما وُصِفَتْ تلك الرؤية بأنها طموحة جداً لكنها تثير تحديات تقنيّة جمّة. وكذلك جرت الإشارة دوماً إلى عقبات ضخمة تحول دون تحقيق تلك الرؤية، من بينها القوانين الصعبة للتحكم بكوكب بأكمله، والصعوبات المباشرة في "الأرْضَنَة" [كضرورة إسباغ الدفء على المريخ البارد كي يصلح لسكنى البشر]، والتعامل مع فيوض من الإشعاعات الفضائية القاسية وغيرها.
لم تفت تلك العقبات الكأداء في عضد إيلون ماسك، بل أنجز خطوة أولى صوب تحقيق رؤيته الطموحة في شباط (فبراير) 2018. إذ أطلق صاروخاً فضائيّاً ثقيلاً أولَّ سمّاه "فالكون" من صنع "إكس سبايس"، وحَمَّلَه سيارة ركاب مزدوجة المقاعد صنعتها شركته الاخرى "تيسلا موتورز"، لتكون أول سيارة للركاب توضع في مدار حول المريخ! وشكّل ذلك برهاناً قويّاً على تصاعد قدرة "سبايس إكس" في إطلاق صواريخ تستطيع نقل بعثات لاستكشاف الفضاء مستقبلاً ستتشارك فيها وكالات حكوميّة وخاصة.
بعد ستة شهور من تلك الخطوة، شرعت خطط استيطان المريخ في التحوّل إلى نوع من الفانتازيا العلميّة. إذ تبيّن أنّ هناك أشكالاً حيّة تعيش في أعماق الكوكب الأحمر، ما يجعل مسألة تحويل سطحه إلى نسخة عن الأرض، أمراً مستحيلاً.
وفي مطلع آب (أغسطس) 2018، ظهرت دلائل علمية على إمكان وجود أشكال حيّة على المريخ مع اكتشاف أول بحيرة تحوي ماءً مالحاً تحت سطح المريخ. وتنام البحيرة على عمق 1.5 كيلومتر تحت القطب الثلجي الجنوبي للكوكب الأحمر، ولا يقل قطرها عن عشرين كيلومتراً. جاءت تلك المعلومات من مسوحات بالرادار أنجزتها المركبة "مارس إكسبرس" التي أرسلتها "وكالة الفضاء الأوروبية" لاستطلاع تركيب المريخ. ويسود اعتقاد علمي بأن مياه تلك البحيرة مالحة، بل تحتوي على ماغنيزيوم وكالسيوم وملح الصوديوم بيركوليت؛ وتعمل تلك المكوّنات كلّها على منع الماء من التجمّد في موقعها الذي تسوده برودة قارصة إلى ما دون الصفر بقرابة 73.15 درجة مئوية. حملت تلك المعلومات إثارة علميّة كبرى بكونها دليلاً أولَّ مؤكّداً على اكتشاف ماءٍ سائل في المريخ، إضافة إلى ترجيح وجود بحيرات ماء عميقة اخرى في بواطن الكوكب الأحمر. ويعني ذلك إمكان وجود أشكال حيّة حاضراً على المريخ.
منذ بعض الوقت، نعرف أن الحياة ربما وُجِدَتْ على المريخ في الماضي. ثمة نُثَر من الدلائل تؤشّر إلى عيش أشكال من الحياة على المريخ قبل ما يراوح بين 3.8 و4 بلايين سنة. إذ قدمت بيانات من بعثات فضائيّة حديثة- تشمل المركبات "مارس غلوبال سيرفايور" و"أوديسيس" وأوبورتشونيتي" و"كيريوزيتي" و"مارس إكسبرس"- أدلة متراكمة عن جريان ماءٍ على سطح المريخ في جداول وبحيرات، وهي تحتوي على مياه درجة الأسيد فيها معقول تماماً وتتمتع بتركيبة تتوافق مع إمكان ظهور أشكال حيّة هناك، في أزمنة كانت الأرض فيها قيد التشكّل ككوكب سيّار.
وعلى نحوٍ ما قبل 3.8 بليون سنة، خسر المريخ الحقل المغناطيسي للجاذبية فيه، الذي كان من شأنه أن يحمي أشكال الحياة عليه، من الاشعاعات الفضائيّة القاسية. وكذلك أدى ذلك الى تفلّت الغلاف الجوي للمريخ وتبدده في الفضاء الخارجي، ما أفقده صلاحية العيش عليه.
وبينما حفزت تلك الاكتشافات أحلام الساعين للاستيطان المريخ، باعتبار أن وجود ماء تحت السطح يمكن استخدامها لدعم استحضار البشر إلى ذلك الكوكب، فإن الحقيقة بعيدة عن ذلك تماماً.
مع وجود أشكال حيّة على المريخ، يرتفع إمكان تلوّث البشر بها، ما يحتم عدم إرسالهم إلى هناك قبل التثبّت من كونها أشكالاً للحيّة تتطوّر بصورة طبيعية في ذلك الكوكب. وربما استغرق ذلك الأمر سنوات أو عقوداً. يتوجّب أيضاً إجراء حفريات في أعماق المريخ وتحليل العيّنات، سواء على الكوكب الأحمر أو على كوكبنا الأرضي لدى نقل العينات إليه، إضافة إلى معرفة ماهية المؤشّر البيولوجي المناسب للحسم في شأن مدى سلامة الأشكال الحيّة المريخية بالنسبة للبشر.
هناك أمر أكثر كوارثية من شأنه إطاحة فكرة "أرْضَنَة" المريخ كلياً إلى حقل الخيال العلمي. في أوقات سابقة، أشار ماسك إلى رغبته في "أرْضَنَة" المريخ ليكون أقرب إلى الظروف التي يعيشها البشر على الكوكب الأزرق، معرباً عن تفاؤله بإمكان "أن يتمشى شخص ما في مساحات مريخية مكشوفة، من دون أن يضطر إلى استخدام أي شيء". وتتمثّل أسهل طريقة لتحقيق ذلك في توليد غلاف جوي يكون محتوياً على "الغازات المسببة للاحتباس الحراري" [كما الحال على الأرض]، ما يؤدي إلى ارتفاع الحرارة والضغط الجوي معاً على الكوكب الأحمر. وآنذاك، اقترح ماسك قصف ثلوج في قطبي المريخ بقنابل حراريّة- نووية يكون من شأنها إحماؤها بسرعة مع خروج كميات كبيرة من غاز ثاني أوكسيد الكربون، الذي يعتبر من أبرز "غازات الاحتباس الحراري"، اذ يعتقد أن كميات منه محتبسة تحت القطبين المتجمدين للكوكب الأحمر.
وعلى نقيض ذلك، أثبتت دراسة نشرتها مجلة "نايتشر أسترونومي" المختصة بعلوم الفضاء، أن المريخ خسر معظم غلافه الجوي عبر بلايين السنوات الماضية، ما يعني استحالة تحويل ما تبقى من ذلك الغلاف إلى هواء يستطيع أن يتنفسه البشر، بواسطة ما تمتلكه الإنسانية حاضراً من علوم وتقنيات. هناك من يفكر في استخراج "غازات الاحتباس الحراري" من بواطن اخرى في أعماق المريخ، بافتراض وجودها أصلاً، لكن لا يوجد لدى البشر تقنيات ووسائل لتنفيذ ذلك الأمر... ليس بعد!
© The Independent