بإعلانه مقاضاة الرئيس التونسي قيس سعيد ووزير الداخلية توفيق شرف الدين بسبب ما وصفها بـ"الانتهاكات" في حق أنصاره، يكون الحزب "الدستوري الحر" المعارض في تونس بقيادة عبير موسي قد دخل مرحلة جديدة من المواجهة مع السلطات.
تتوعد موسي وحزبها بمزيد من الضغط في الشارع ضد المسار الذي يقوده سعيد منذ أكثر من سنة من أجل إعادة تشكيل المشهد السياسي، وهو ما يثير تساؤلات جدية حول مستقبل المواجهة بين الطرفين، بخاصة أنهما يحظيان بشعبية قوية وفق استطلاعات الرأي المحلية.
مواصلة النضال
قاد الحزب "الدستوري الحر" يوم 15 أكتوبر (تشرين الأول) الذي يصادف في كل عام ذكرى جلاء آخر القوات الفرنسية من تونس، حراكاً احتجاجياً على سياسات سعيد وحكومته، قبل أن تدخل رئيسته موسي في إضراب عن الطعام أمام مقر وزارة الداخلية. ونقلت موسي إلى المستشفى للعلاج قبل أن تندد بما وصفتها بـ"انتهاكات" الشرطة ضد أنصارها، معلنة عزمها مقاضاة الرئيس التونسي ووزير الداخلية بسبب ذلك.
وقالت النائبة في البرلمان المنحل عن "الدستوري الحر" سميرة السايحي إن "الحزب سيواصل نضالاته الميدانية في مختلف المجالات، بخاصة في ظل انهيار قطاع التربية وتدهور المنظومة الصحية والتراجع عن حقوق المرأة وعدم شفافية السلطة القائمة في التعامل مع الشعب، لا سيما بعدم نشر الاتفاقية مع صندوق النقد الدولي".
وأضافت السايحي لـ"اندبندنت عربية" أن "تحركاتنا ونضالاتنا مستمرة، وسننظم يوم 5 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل وقفة احتجاجية أمام الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري (هيئة دستورية مكلفة تعديل المشهد السمعي البصري في تونس) لحماية البلاد من الانزلاقات التي تعيشها، وذلك بعد أن تقدمنا بشكاوى قضائية ضد قيس سعيد ووزير الداخلية وعدد من القيادات الأمنية نظراً إلى الجرائم الخطرة التي ارتكبت في حق الحزب ورئيسته ومناضليه". وأبرزت أن "الاحتجاجات الأخيرة شهدت لأول مرة ممارسة السلطة القائمة حالياً العنف والتعذيب ضد الحزب (الدستوري الحر) ورئيسته".
وكان الحزب "الدستوري الحر" المعارض قد دعم منذ البداية الإجراءات التي اتخذها سعيد في 25 يوليو (تموز) 2021، وأطاح من خلالها الخصم الرئيس للحزب، وهو "حركة النهضة الإسلامية"، لكنه تراجع في ما بعد ووجه انتقادات حادة إلى الرئيس.
نضالات "وهمية"
شهدت الأيام الماضية سجالات عنيفة بين الحزب "الدستوري الحر" ومعسكر السلطة وصل إلى حد إطلاق نشطاء سياسيين موالين لسعيد اتهامات تجاه الحزب بتوزيع الأموال من أجل حشد المتظاهرين في الاحتجاجات الأخيرة التي دعا إليها. وجاءت هذه الاتهامات عقب إعلان وزارة الداخلية حجز أموال لدى عدد من المحتجين في التظاهرات التي نظمت يوم 15 أكتوبر الحالي.
وينهل الحزب "الدستوري الحر" من إرث الحزب الدستوري الذي حكم البلاد بعد الاستقلال عن فرنسا في 1956، ويعد بالقضاء على "حركة النهضة" وجماعة "الإخوان" عموماً. واتهمت القيادية في حركة الشعب (قومية ناصرية)، ليلى الحداد، الحزب "الدستوري الحر" بتوزيع الأموال على المحتجين من أجل التحرك ضد السلطات في مؤشر جلي إلى حجم الهوة بين الطرفين.
من جهته، قال رئيس حزب "التحالف من أجل تونس" الموالي لسعيد سرحان الناصري إن "ما يقوم به الحزب (الدستوري الحر) واتهاماته بوجود انتهاكات لحقوق الإنسان أو لأنصاره هي مجرد نضالات وهمية لا أكثر".
وأضاف الناصري لـ"اندبندنت عربية" أن "هذا غير صحيح، وخير دليل على ذلك هو أن كل الأحزاب المناهضة لمسار 25 يوليو تخرج إلى الشوارع وتحتج بكل حرية، وهذا حقهم المكفول دستورياً".
وكانت موسي قد صعدت بشكل لافت من نبرتها مع الرئيس سعيد، حيث قالت في مؤتمر صحافي إن حزبها لن يعترف بالبرلمان المقبل وهو ما يجعل العلاقة بين الطرفين تصل إلى انسداد غير مسبوق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال الناصري إنه "كان على الحزب (الدستوري الحر) أن يشارك في الانتخابات البرلمانية باعتباره يرى في نفسه القوة الشعبية الأولى، لكنه اختار المقاطعة، وهذا موقف نحترمه".
واستدرك بالقول "لكن (الدستوري الحر) كان سيواجه صدمة كبرى في الانتخابات، لذلك اختار عدم المشاركة، باختصار الحزب اختار مقاطعة الانتخابات حفظاً لماء وجهه باعتبار أنه لم يعد له نفس الشعبية والزخم الانتخابي".
وأشار إلى أنه "مع ذلك هناك أشخاص محسوبون على الحزب ترشحوا للانتخابات في بعض الدوائر الانتخابية على رغم أنه يزعم مقاطعة هذه الانتخابات شأنه شأن بقية الأحزاب السياسية المقاطعة لهذا الاستحقاق".
ومنذ أن أفرزت الانتخابات البرلمانية في عام 2019 هيمنة "حركة النهضة" على البرلمان المنحل، تصدر الحزب "الدستوري الحر" استطلاعات الرأي في نيات التصويت للانتخابات البرلمانية، وذلك بعد أن شن حملة واسعة على "النهضة"، لكنه اختار مقاطعة الانتخابات التي من المقرر إجراؤها في 17 ديسمبر (كانون الأول) المقبل.
قطيعة تامة
إعلان الحزب "الدستوري الحر" مقاضاة سعيد ووزير الداخلية بعد أشهر من التلاسن بين الطرفين يثير تساؤلات حول مستقبل العلاقة بينهما، بخاصة أن لهما الخصم السياسي نفسه، وهو "حركة النهضة".
ويرفض الحزب "الدستوري الحر" التحالف مع بقية مكونات المعارضة التي يتهمها بـ"التواطؤ مع "حركة النهضة" وجماعات الإسلام السياسي، حيث يعتبر الحزب المنظومة التي تشكلت بعد الثورة "إفرازاً من إفرازات ربيع الخراب العربي" في إحالة إلى الربيع العربي الذي كانت تونس مهده بعد اندلاع انتفاضة أطاحت الرئيس الراحل زين العابدين بن علي.
في المقابل، لا يجد الرئيس سعيد حرجاً في الإعلان عن رفضه جميع النخب السياسية التي قادت البلاد إلى "فشل اقتصادي ذريع"، بحسب رأيه، علاوة عن رفضه الظهور في الإعلام المحلي، وكذلك شبه القطيعة بينه وبين النقابات وفي مقدمتها الاتحاد العام التونسي للشغل، النقابة التي لها ثقل شعبي وتاريخي قوي، حيث ينضوي تحت لوائها ما لا يقل عن مليون عامل.
المحلل السياسي محمد بوعود يقول إن "العلاقة بين سعيد وموسي تتجه نحو قطيعة تامة. وفي اعتقادي فإن دور الحزب (الدستوري الحر) ورئيسته سيتمثل في المعارضة السلبية التي لا تشارك في العملية السياسية، بل تعارض من خارجها".
وأضاف بوعود لـ"اندبندنت عربية" أن "الحوار أو النقاش بينهما لم يمتد يوماً من الأيام منذ 25 يوليو 2021، حيث أعلنت موسي مساندتها هذا الحراك الذي أبعد خصومها التقليديين، أي (حركة النهضة) عن السلطة، لكنها كانت تعتقد أن ذلك سيضعها شريكاً في هذه العملية، في حين أن قيس سعيد يضع كل الأحزاب في نفس الخانة ويعتبرهم فاسدين وضيعوا البلاد، بالتالي بالنسبة إليه فإن موسي لا تختلف في شيء عن راشد الغنوشي رئيس (حركة النهضة)".
المواجهة بين سعيد وموسي ستكون قوية على ما يبدو، فالأول يسعى حالياً إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي، ويقود السلطة التنفيذية بمفرده في ظل نظام رئاسي، فيما تحافظ الثانية عن قاعدة شعبية مهمة نجحت في اكتسابها خلال المعارك التي خاضتها مع "النهضة".
واعتبر بوعود أن "الصدام في المرحلة القادمة سيكون ثنائياً بين الطرفين، فهي ترفض التحالف مع مكونات المعارضة، وهو يرفض أيضاً الحديث مع كل الأطراف، بالتالي الصدام الثنائي سيفرز مواجهة بين شخصية تمتلك مداً شعبياً وثقلاً جماهيرياً قادراً على تحريك الشارع، فيما يمتلك الطرف المقابل أجهزة الدولة بما يمكنه من سن قوانين كما يريد وإصدار القرارات وغيرها، وهو ما يجعل مسارات المواجهة مجهولة بشكل كبير".
ونجح قيس سعيد في 25 يوليو (تموز) 2021، الذي يصادف عيد الجمهورية في تونس، في إطاحة البرلمان السابق والحكومة معاً بعد أن فعل المادة 80 التي تنص على حالة الاستثناء، لكن سعيه إلى إعادة هندسة المشهد السياسي يواجه ضغوطاً داخلية قوية بعد اتساع جبهة المناوئين له.
وعلى رغم ذلك لم يبعث الرئيس سعيد بأي مؤشر عن تراجع محتمل، فيما يواصل "الدستوري الحر" انتقاد سياساته وحكومته، بخاصة الاتفاق الذي من المقرر أن توقعه تونس في وقت لاحق مع صندوق النقد الدولي للحصول على تمويل جديد قدره 1.9 مليار دولار.