لن تمر نهاية عهد الرئيس اللبناني ميشال عون بهدوء. مقدمات الفوضى الدستورية والسياسية دلت إليها المواقف الصادرة عنه وعن صهره رئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل، وفي ردود الفعل عليها، في الأيام القليلة الأخيرة.
الرئيس يهيئ للانتقال إلى المعارضة
وتشير هذه المواقف إلى أن عون سينتقل بعد ساعات من الرئاسة إلى موقع المعارض والمشاكس مع فرقاء وازنين سياسياً، في ظل شغور في الرئاسة لعجر البرلمان عن انتخاب بديل، مستخدماً هو وباسيل حججاً يعتبرانها دستورية، وعنوانها أن حكومة تصريف الأعمال برئاسة نجيب ميقاتي غير شرعية، لا تصلح لتسلم صلاحيات الرئاسة. وينسب باسيل الفراغ الرئاسي إلى "إرادة واضحة لدى ميقاتي وبدعم من (رئيس البرلمان نبيه) بري والخارج وبعض المرجعيات الأخرى بحصول الفراغ الحكومي، ووضع اليد على المقام الأول في الجمهورية اللبنانية أي الرئاسة"، كما جاء في تصريح له بعد لقائه البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي، الخميس 27 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، في خطوة تهدف إلى استنفار مسيحي يشمل الكنيسة حول المعركة التي ينوي عون خوضها.
وينتقل لبنان إلى الشغور بعد ولاية رئاسية لست سنوات، اتسمت الأسابيع والأشهر القليلة الأخيرة منها بنزاع سياسي حول ملفات كثيرة، أبرزها استعصاء تشكيل حكومة جديدة منذ بدء البرلمان الجديد ولايته في 21 مايو (أيار) الماضي. ورفض رئيس الحكومة المستقيلة بحكم الدستور، ميقاتي تلبية مطالب عون وباسيل في تأليف الحكومة الأخيرة في العهد، وفي اتخاذ بعض القرارات التي أرادها الفريق الحاكم قبل مغادرة كرسي الرئاسة. واقتصر الاتفاق والتفاهم بين الرئيس عون ورئاستي البرلمان والحكومة في الأشهر الماضية فقط على الموقف في مفاوضات ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، التي انتهت إلى توقيع الاتفاق عليها برعاية أميركية في 27 أكتوبر.
الترسيم خضع للمزايدة
ومع ذلك، فحتى التوصل إلى الاتفاق وسط الإجماع على أنه مصلحة وطنية عليا، الذي اعتبرته معظم العواصم الدولية تاريخياً، خضع للمزايدات الداخلية حول الجهة التي لعبت الدور الرئيس في التوصل إليه، فاعتبر عون الترسيم "هديتي إلى اللبنانيين قبل مغادرتي". وأوحت الحملات الإعلامية احتفالاً بالاتفاق أنه لولا عون لما تم إنجاز الترسيم، متجاهلاً دور رئيس البرلمان بري في التوصل إلى "اتفاق الإطار" مع الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين، الذي جرى التفاوض على أساسه، بعد 10 سنوات من الأخذ والرد.
وجاءت الحملة الإعلامية حول إنجاز الترسيم مع إسرائيل في سياق التنافر والتناحر المرافق لعملية انتقال السلطة، وإعادة تكوينها بمغادرة عون الرئاسة بعد ظهر الأحد 30 أكتوبر، وسط مهرجان حزبي وحشد شعبي، تحت شعار "مكملين معك" (سنبقى معك). فما كان يتوخاه عون وباسيل من وراء شروطهما على ميقاتي في تأليف الحكومة هو أن تكون لهما "حصة الأسد" فيها أثناء توليها الصلاحيات الرئاسية بعد الفراغ، لمواصلة ممارسة نفوذهما، ومن أجل التأثير في اختيار الرئيس البديل، وضمان أن يأتي غير معاد للتيار الوطني الحر.
الحملة على انتفاضة 17 تشرين
فالرئيس عون يغادر في ظل مواقف خصومه التي حملته مسؤولية التدهور المأساوي للأوضاع المالية الاقتصادية في البلد، امتدت على مدى السنوات الثلاث الأخيرة من ولايته، منذ ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 حين بدأت الأزمة المالية تظهر معالمها، بدءاً بارتفاع سعر صرف الدولار من 1500 ليرة لبنانية وصولاً إلى بلوغه سعر 40 ألف ليرة في الأسبوعين اللذين يسبقان انتهاء عهده، (انخفض إلى حدود 36 ألف ليرة قبل 10 أيام وقيل إن الأمر كان مقصوداً من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لتسجيل تأثير مغادرة الرئيس إيجاباً على سعر العملة الوطنية). ولم يفت عون أن يشن حملة على الانتفاضة الشبابية الشعبية التي حصلت عام 2019 والاتهامات التي وجهت إلى عهده وفريقه، فقال في حديث لقناة "المنار" التابعة لـ"حزب الله"، إن تحرك "17 تشرين" كان موجهاً ضده لأنه رغم استقالة الحكومة لم تهدأ الاحتجاجات. وأضاف "تم نعتي بأمور لا تنطبق علي، همنا كان تحسين الوضع، ولم تؤذ تصرفاتي فرداً أو جماعة، إلا أنني تأذيت من الحرية التي تركتها للمواطنين لأن ليس الكل يفهم معنى الحرية التي يستفيد منها البعض للكذب والشتيمة واختلاق الأخبار".
هجوم على ميقاتي... والعودة لمرسوم استقالة الحكومة
وكثف الرئيس عون أحاديثه الصحافية فأدلى بخمسة منها في ثلاثة أيام، هاجم فيها خصومه، في معرض عرض "إنجازاته"، وفي رده على تحميله مسؤولية ما أصاب البلد، ممهداً الطريق للمعركة السياسية التي سيطلقها بعد مغادرته القصر.
واتهم عون، ميقاتي بأنه "لا إرادة لديه في تشكيل الحكومة، لأن طريقة التشكيل وكأنها بالوصاية، أمر غير مقبول، وفي آخر لقاء بيننا قلت له كما تأخذ رأي بقية الأحزاب خلال التأليف، يجب أيضاً الأخذ باقتراح التيار الوطني الحر لوزارات معينة، فهو المعني بذلك وليس الرئيس المكلف، فذهب ولم يعد... ربما ذهب في جولة باليخت". وعن تسلم حكومة تصريف الأعمال صلاحيات رئيس الجمهورية كاملة، الذي هو موضوع خلاف دستوري، تحدث الرئيس عون عن "شروط نصها الدستور، فحكومة لا تملك الثقة (من مجلس النواب الجديد) لا تستطيع أن تحكم. فهي تصرف أعمال ولكن لا يمكن لها أن تمارس الحكم إلا عندما تنال الثقة. وأنا على كل حال على وشك التوقيع على مرسوم قبول استقالة الحكومة، لأنه لا يمكن تقبل بذلك". والإجراء الأخير جاء مناقضاً لموقف سابق صدر عن الرئاسة، إزاء التسريبات التي نشرت في الشهرين الماضيين حول نيته إصدار هذا المرسوم، فتسبب بسجال دستوري حول صلاحية الحكومة المعتبرة مستقيلة في تسلم صلاحيات الرئاسة.
واكتفى ميقاتي باعتبار كلام عون تحريفاً للمعطيات حول تأليف الحكومة، معتبراً أنه "أحياناً تخون كبارنا الذاكرة فتختلط الوقائع بالتمنيات والحقائق بالأوهام".
نقيض موقف صدر قبل 5 أيام
وإزاء غلبة الاجتهادات الدستورية بأن إصدار هذا المرسوم من قبل عون هو "لزوم ما لا يلزم"، ولا يلغي صفتها بتصريف الأعمال طالما لم تتشكل الحكومة الجديدة، ولا يمنعها من تسلم صلاحيات الرئاسة، رأى بعض مستشاري القصر الرئاسي ضرورة نفي التسريبات حول نيته ذلك، فأصدر المكتب الإعلامي في الرئاسة في 23 أكتوبر بياناً وصف ما تتناقله وسائل إعلامية بـ"المعلومات المغلوطة عن عزم رئيس الجمهورية توقيع مرسوم قبول استقالة الحكومة". ووصف هذه المعلومات بأنها مختلَقة بنيت عليها تحليلات. ونفى البيان "نفياً قاطعاً هذه المعلومات، التي لا أساس لها من الصحة جملة وتفصيلاً وتندرج في إطار التشويش المتعمد والإساءة الممنهجة لموقع الرئاسة والرئيس". واعتبر أن الإعلام "ضحية أكاذيب وأضاليل تكثر في هذه المواسم السياسية".
فما الذي دفع عون إلى العودة عن نفي نيته إصدار مرسوم استقالة الحكومة؟ أفادت المعلومات أن باسيل غضب لصدور هذا البيان الأخير، وتوجه إلى القصر الرئاسي حيث علا الصراخ بينه وبين المدير العام للرئاسة أنطوان شقير ومستشارين آخرين حول صدور النفي، ولم تعلق دوائر القصر على هذه المعطيات. لكن عون قال إنه "ليس هناك من نص دستوري يشترط صدور قبول استقالة الحكومة بالتزامن مع صدور مرسوم تشكيل الحكومة (كما كانت تجري العادة)، بل إن المسألة متعلقة بالأعراف، ويمكن خرق العرف".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
انتقاد بري والحريري وجنبلاط
انتقد عون في أحاديثه الصحافية والتلفزيونية نية رئيس البرلمان نبيه بري الدعوة إلى عقد اجتماع حواري بين رؤساء الكتل النيابية للتوصل إلى توافق على رئيس جديد للجمهورية، بعد دعوته إلى أربع جلسات للبرلمان ضمن المهلة الدستورية عجز النواب خلالها عن انتخاب الرئيس. وقال عون "ليس للرئيس بري حق القيام بحوار بل له حق إطلاق التشاور بين الفئات، حتى لو كان ذلك في نهاية الولاية، إذ إنه لا يختصر موقع رئيس الجمهورية". وتوقع أن يفشل هذا الحوار. وامتنعت أوساط بري بداية عن الرد على ما ساقه عون ضده، على الرغم من أنه صرح بأنه لن يدعو إلى الحوار قبل تاريخ انتهاء الولاية الرئاسية، ومع أنه كان تلقى موافقة من باسيل على حضور اجتماع الحوار وتشاور مع رؤساء الكتل النيابية بشأن نيته الدعوة إلى الحوار حول التوافق على إنهاء الشغور الرئاسي. وعن علاقته ببري قال عون، "لقد طبقت الدستور والقوانين، وأترك للرأي العام المقارنة بعدها من الذي لا يحترم فصل السلطات ويوقف قوانين"، ملمحاً بذلك إلى اتهامات سابقة لبري بأنه كان يجمد مشاريع القوانين التي تحال إلى البرلمان لدراستها، أو يوقف القوانين التي يتم إقرارها عبر وزارة المالية (التي كان يتولاها من يسميهم بري لتلك الحقيبة الوزارية).
لكن "حركة أمل" التي يرأسها بري عادت فأصدرت بياناً شديد اللهجة وصف هجوم وعون وباسيل (من منبر البطريركية المارونية) على رئيس البرلمان، بأنه "تطاول وتجن" متهماً إياهما بتعطيل تأليف الحكومة. واعتبرت حركة "أمل" أن "من نكد الدهر أن تصبح الدعوة إلى الحوار جريمة والنعق في أبواق الشرذمة والتفرقة والفراغ فضيلة".
وحين سُئل عون عن سبب سقوط التسوية التي كان عقدها مع زعيم تيار "المستقبل" رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، الذي اختلف معه على تشكيل حكومة جديدة بعد تكليفه بتأليفها لمدة 11 شهراً، نفى أن تكون التسوية سقطت فرأى أن الحريري حُرم من ترؤس الحكومة، في حين أنه لم يوافق رئيس الحكومة السابق وبري على طلبه إقالة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. وعزا التباين مع الحريري إلى أسباب خارجية. وهو الأمر الذي اعتبرته مصادر سياسية إنكاراً للتباعد الذي نشأ معه وإعلان زعيم "تيار المستقبل" سقوط التسوية الرئاسية واتهامه باسيل بمصادرة القرار الرئاسي، وتجاهلاً لاتهام عون الحريري بالكذب وإفشاله التشكيلات الحكومية التي كان يقدمها الأخير إليه خلال 20 اجتماعاً عقدها معه لهذه الغاية... ومن باب الحديث عن الحريري عاد عون فقال عن بري، إنه أبلغه بأنه لن يدع الحريري يحكم، "لأنه غشه. ربما لم يرد أن يقول لي إنه لن يدعني أحكم، فقالها عن الحريري".
أما عن جنبلاط فقال عون إنه "يحب التنقل، فعندما يكون معك عليك انتظار مغادرته لك، وعندما يكون مع غيرك عليك انتظار مجيئه، هذا طبعه وأنا لا ألومه، وقد مررنا في مراحل صداقة".
ولم يفت عون أن يهاجم الإعلام لأنه "كاذب" ثم أن ينتقد القضاء محملاً إياه مسؤولية عدم ملاحقة الفاسدين، ومبرئاً وزراء ومسؤولي "التيار الوطني الحر" من هذه التهمة. ومع كلامه عن التمايز مع "حزب الله" في ما يخص بناء الدولة ومكافحة الفساد، برر استمرار احتفاظه بسلاحه وسأل "أي عمل إرهابي قام به حزب الله؟".
التحضير للمعارضة
وبقوله إنه سيبقى "مدافعاً عن لبنان" على الرغم من أنه وجد أن هذا الدفاع بات صعباً وهو في مركز الحكم، يرفع عون شعاراً للمعارضة التي يهيئ لها عند خروجه من الرئاسة، بدءاً من اليوم الأول، بحجة رفضه تولي حكومة تصريف الأعمال برئاسة ميقاتي صلاحيات الرئاسة. ومهد باسيل لذلك بما أعلنه إثر زيارته البطريرك الراعي، بإثارته مسألة "وضع اليد على المقام الأول"، أي الرئاسة، وبطلبه إلى الوزراء الحاليين الذين يدينون بالولاء لفريقه وعددهم تسعة، بالامتناع عن حضور أي اجتماع للحكومة يدعو إليه ميقاتي، وحتى أي اجتماع وزاري وإبلاغ رئيس الحكومة بذلك فوافقه خمسة منهم. وأكدت مصادر رئاسة الحكومة أن هؤلاء الخمسة أبلغوا ميقاتي بقرارهم، فيما امتنع أربعة آخرون وواصلوا عملهم الوزاري، بينهم وزير الخارجية عبدالله بوحبيب الذي انتقل إلى الجزائر لحضور الاجتماعات التحضيرية لوزراء الخارجية العرب قبل انعقاد القمة العربية في 2 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
مطلب باسيل من نصر الله ونصيحة الراعي
وفيما سربت أوساط "التيار الحر" خبراً بأن "حزب الله" أبلغ ميقاتي تضامن الوزيرين اللذين يمثلانه مع وزراء "التيار" نفت مصادر رئيس الحكومة ذلك، مشيرة إلى أن قياديين من "الحزب" اجتمعوا إليه قبل يومين ولم يبلغوه بشيء من هذا القبيل. لكن باسيل استبق تسريب هذا الخبر بتوزيع خبر لقائه قبل أيام مع الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله، للبحث في مرحلة ما بعد الفراغ الرئاسي طالباً دعمه في الموقف التصعيدي الذي ينويه ضد ميقاتي وبري، وبتنسيق الموقف من الضغوط الخارجية من أجل تسريع انتخاب رئيس للجمهورية لإنهاء الشغور. وأفادت مصادر مطلعة بأن باسيل أراد أخذ ضمانات من نصر الله بألا يتم التوافق على اسم رئيس الجمهورية المقبل من دون موافقته والرئيس عون على من يقع الخيار عليه.
أما المصادر المطلعة على موقف البطريرك الراعي فأفادت بأن الأخير نصح باسيل بإعطاء الأولوية لانتخاب رئيس للجمهورية سريعاً بدلاً من خوض معركة مع بري وميقاتي حول الحكومة.
إلى ذلك، أفادت قناة "الجديد" بأن باسيل، استدعى عدداً من الوزراء إلى غداء في مقر "التيار الوطني الحر" في "ميرنا الشالوحي" (منطقة جبل لبنان)، وطلب منهم مقاطعة مجلس الوزراء، لكن أربعة وزراء فقط أبدوا تجاوباً معه وسيبلغون رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي قرارهم.