المواطن البريطاني العادي ليس مهموماً بحضور بلاده قمة المناخ في شرم الشيخ المصرية من عدمه، وهو ليس غارقاً حتى أذنيه في التكهن حول أسباب الشد والجذب وتمثيل بريطانيا في "كوب-27"، فلديه ما يغرق أذنيه فيه من معضلات كبرى تشغل حياته عوضاً عن لغط ساسة بلاده في "كوب-27".
وحين تفوت نصف الأسر البريطانية وجبة طعام يومياً بسبب ارتفاع كلفة المعيشة وأسعار الغذاء التي أدت إلى تجاوز التضخم نسبة الـ 10 في المئة خلال سبتمبر (أيلول) الماضي بحسب استطلاع رأي أجراه معهد "هويتش" المتخصص في المعلومات الاستهلاكية، وحين تلجأ أعداد متزايدة تقدر بالملايين للحصول على جانب من حاجاتها عبر بنوك الطعام للمرة الأولى في حياتها، وحين تخفض وكالة التصنيفات الائتمانية (موديز) توقعاتها للاقتصاد البريطاني إلى "سلبية"، بدلاً من "مستقرة" بسبب عدم الاستقرار السياسي وارتفاع معدلات التضخم، فإن حجم الاهتمام الشعبي الباقي للتفكير في الموقف البريطاني الذي يبدو غريباً تجاه "كوب-27" يكون متناهي الصغر.
الاهتمام متناهي الصغر من المواطنين بما يجري في كواليس "دوانينغ ستريت" وأروقة "قصر باكنغهام" في شأن "كوب-27" لا يعني أن ما يجري ليس مؤثراً، بل العكس هو الصحيح، فصحيح أن الجدل والتكهنات التي دارت حول نصيحة رئيسة وزراء بريطانيا السابقة ليز تراس للملك تشارلز الثالث بعدم حضور قمة المناخ التي ستنعقد في مصر بعد أيام تبدو وكأنها تاريخ، إلا أنها ليست كذلك، فتراس التي لم تمض سوى 45 يوماً في منصبها أصبحت رئيسة وزراء سابقة وخليفها ريشي سوناك لم ينتهج نهجاً مخالفاً بل مطابقاً، وهو ما نجمت عنه حرب سياسية وبيئية شعواء عليه.
نصيحة صارمة
يؤكد مراقبون أن الملك تشارلز الثالث الذي تشكل قضايا البيئة والمناخ جانباً كبيراً من اهتماماته الشخصية وأنشطته وقت كان "أمير ويلز" حرم من المشاركة التي كان يتطلع إليها في "كوب-27" في شرم الشيخ، وهي المشاركة التي قال إنه سيلقي فيها خطاباً يعرف المهتمون بقضايا البيئة أن من شأنه أن يكون ملهماً ومؤثراً، لكن وفاة والدته الملكة إليزابيث الثانية في التاسع من سبتمبر (أيلول) الماضي جعل تشارلز ملكاً خاضعاً للعرف الذي يقضي بخضوع جميع الزيارات الرسمية الخارجية لأعضاء العائلة الملكية، وعلى رأسها الملكة أو الملكة، لنصيحة الحكومة.
نصيحة تراس تداولها الجميع باعتبارها إما توجيهاً أو تحذيراً حكومياً بريطانياً للملك بعدم الذهاب، واللافت أن الجميع فسر النصيحة حينئذ على هواه، فالجماعات والمنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان التي تكثف من حملاتها المناهضة لمصر وما تسميه سجلها في حقوق الإنسان، والمستفيدة من توجه أنظار العالم لمصر في مناسبة "كوب-27" قررت أن تتعامل مع النصيحة باعتبارها اعتراضاً بريطانياً على سجل مصر الحقوقي، وجماعات أخرى من أنصار حق الإنسان في التظاهر روجت للنصيحة على أنها اعتراض بريطاني على ما سمته بـ "تضييق الحكومة المصرية على الراغبين في حضور القمة بغرض التظاهر"، وأعضاء ومتعاطفون وأذرع إعلامية وأنظمة داعمة لجماعة "الإخوان المسلمين" تعاملت مع النصيحة بفرحة غامرة وأنها دليل دامغ على عدم رضا بريطانيا على إقصاء فصيل سياسي باعتبار الجماعة "إرهابية".
أهواء وأيديولوجيات
وبعيداً من الأهواء والأيديولوجيات وبراح التفسيرات، فالمؤشرات حينها لم تحتمل أكثر من كون التوقيت السياسي بالغ الحساسية لتراس التي أمضت أيامها الـ 45 في مواجهات ودفاعات أكثر من اتخاذ سياسات واتباع إجراءات، وذلك بسبب أفكارها الاقتصادية التي أثارت قدراً هائلاً من المشكلات ونتج منها مزيد من الاضطرابات.
حكومة تراس كانت على يقين بأنها عاجزة عن الوفاء بالتزاماتها في ملفات تغير المناخ، ووزراؤها جاهروا غير مرة بشكوكهم في قدرة الحكومة على تحقيق هدف "صفر" بقدوم عام 2050، وعلى رغم أن تراس كانت أكثر إيماناً بقضايا المناخ والبيئة من سلفها بوريس جونسون، إلا أن الأمر الواقع والأوضاع الاقتصادية القاتمة والخانقة وتغير قائمة الأولويات جعلت من حضورها "كوب-27" أو مشاركة الملك تشارلز الثالث وقتها شكلاً من أشكال الالتزام غير القابل للتحقق.
تحقيق المكاسب
تحقيق المكاسب السياسية يأتي أحياناً على حساب تحقيق المكاسب البيئية، وكثيراً ما يتخذ من البيئة والمناخ وقضاياهما وسيلة للفوز في الانتخابات أو تشويه السُمع أو كسب أرضية حالية من أجل مصالح ومكاسب مستقبلية، ووصول ريشي سوناك إلى منصب رئيس الوزراء قبل أيام جعل الأقلية التي لا تزال محافظة على اهتماماتها بالبيئة والمناخ في بريطانيا، إما تستشعر قدراً بسيطاً من التفاؤل حول قدرته على إصلاح القليل مما فعلته تراس من أضرار في هذا الملف، أو تهرع إلى محاولة إحراجه بمعاودة رفع الأصوات المطالبة بتحركات بريطانية رسمية أوفر في هذا الشأن.
لكن في الشأن السياسي يهيمن مبدأ الغايات المبررة للوسائل، لا سيما في الأوضاع بالغة الصعوبة والتعقيد.
وفي "كوب-26" الذي انعقد في مدينة غلاسكو البريطانية العام الماضي، وقف سوناك أمام الكاميرات وهو يحمل حقيبة خضراء متعهداً بأن تصبح لندن "أول مدينة مالية ذات انبعاثات صفر" في العالم، وهو التعهد الذي قوبل وقتها بكثير من التشكك من قبل خبراء البيئة والمناخ.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في "كوب-26" كان سوناك وزيراً للخزانة، وكان من الطبيعي والمتوقع سياسياً أن يصرح وزير خزانة الدولة المضيفة لقمة المناخ رقم (26) أن بريطانيا تعلم أن العالم واجه كارثة مزدوجة بسبب كورونا وتغير المناخ، إضافة إلى الإلزام بتأمين 100 مليار دولار أميركي للدول النامية لتمويل قضايا المناخ.
قضايا المناخ المتفاقمة والآخذة في التأزم لم تتغير للأفضل، لكن التغيرات الكبرى والمتسارعة والمتفاقمة في قضايا بريطانيا الداخلية قلبت المشهد رأساً على عقب بين كوبي (26) و(27).
سوناك لن يحضر
محاولات بعضهم الاستباقية وربما التي بذلت بهدف إحراج سوناك لتلميع صورته في ما يتعلق بالبيئة والمناخ، وكونه أكثر اهتماماً ووعياً بها مقارنة بكل من حليفيه تراس وجونسون، تبددت في هواء الأوضاع الاقتصادية والسياسية الضاغطة، كما أن مسيرته السياسية المعروفة والخالية من الولع بقضايا البيئة أو الاهتمام الشغوف بإنقاذ الأرض من تغير المناخ والرهان على أنه "أفضل نسبياً ممن سبقاه" لم تغيرا من النتيجة، إذ لن يحضر سوناك "كوب-27".
والخميس الماضي حسم "دوانينغ ستريت" شك الأمل بيقين عدم الحضور، وأكد بيان رسمي أن سوناك لن يحضر، وقالت متحدثة باسم زعيم حزب المحافظين إن غياب رئيس الوزراء سببه "التزامات ملحة"، لا سيما في ما يتعلق بعرض الموازنة البريطانية يوم الـ 17 من نوفمبر (تشرين الثاني) والمعروف بـ "بيان الخريف"، حيث تفاصيل خفوضات الإنفاق والتوقعات المالية المتوسطة الأجل التي ستسعى فيه وزارة المالية إلى سد عجز في الموازنة يصل إلى 40 مليار جنيه إسترليني (46.28 مليار دولار)، وهو الحدث الجلل المنتظر، لا سيما في ظل أشهر من التقلبات العنيفة والعاصفة.
وفي اليوم التالي للقرار الذي أثار موجة غضب سياسي من معارضي حزب المحافظين الحاكم وجماعات وجموع المهتمين بقضايا البيئة والمناخ، قال سوناك في حوار تلفزيوني "أنا ملتزم شخصياً وبشكل كبير بقضايا البيئة، لكن أعتقد أنه من الصواب في الوقت الحالي أن أركز كذلك على التحديات المالية الملحة التي يواجهها الاقتصاد في الداخل، وهذا ما يتوقعه الناس مني".
الناس في بريطانيا هذه الأيام بين أغلبية صامتة بيئياً غارقة اقتصادياً، وأقلية زاعقة بيئياً وغارقة أيضاً اقتصادياً، وليس هذا فقط، بل إن مخاوف تلوح بين الحين والآخر في الأفق حول احتمالات مصادمات بين الفريقين بسبب تناقض الأولويات وتوقيتها، وقبل ساعات قليلة أوقف عدد من قادة السيارات مركباتهم في شوارع جانبية في وسط لندن وتوجهوا إلى متظاهرين من أجل البيئة يسمون أنفسهم "فقط أوقفوا النفط"، وأزاحوهم من على الطرق الحيوية التي أغلقوها بالجلوس أرضاً ومنع السيارات من المرور، والمتظاهرون البيئيون ينتهجون هذا النهج في وسط أيام الأسبوع على مدى أسابيع من أجل الضغط على الحكومة البريطانية لوقف إصدار تراخيص الحفر لمزيد من الوقود الأحفوري وإنتاجه، وعلى رغم عدم حدوث مصادمات بين قادة السيارات والمتظاهرين ومحاولة القادة إقناع المتظاهرين بأن عليهم التوجه إلى "وستمنستر" لتوصيل مطالبهم إلى النواب بديلاً عن تعطيل وإلحاق الضرر بالمواطنين، فإن تواتر التظاهرات وتأثيراتها السلبية المتصاعدة على المواطنين العاديين يعظم من احتمالات الصدام.
احتلوا البرلمان
وقبل أيام أعلنت "غرين بيس" أو "السلام الأخضر"، وهي شبكة المهتمين والناشطين في مجالات البيئة والهجرة، أن 30 من أعضائها "احتلوا" البرلمان البريطاني ليبلغوا سوناك بأن الفوضى السياسية تكلف أرواحاً"، وأشارت إلى أن ما يقرب من ربع سكان بريطانيا يواجهون فقراً في حاجاتهم من الوقود في وقت تجني شركات الوقود الأحفوري أرباحاً قياسية، ويفشل سياسيون في الحكم الواحد تلو الآخر، وبالطبع تبقى "احتلال البرلمان" عبارة ثورية رمزية تشير إلى نجاح بعضهم في التسلل إلى الداخل،
ويتداول فيديو على منصات التواصل الاجتماعي لمراسل تلفزيوني يحاور نائبتين عن حزب المحافظين في داخل مقر البرلمان، وفجأة يدخل عشرات الأشخاص في حركة غريبة ومفاجئة لكن منظمة، ويفترشون الأرض وهم متشابكو الأيدي ويبتسمون للكاميرات، في حين ركض أو هرب الموجودون خوفاً من أن ينتج من هذا أعمال عنف، والتقطت الكاميرات التلفزيونية ما جرى على الهواء مباشرة قبل أن يتدخل شرطي ويسد عدسة الكاميرا بيده.
أما الصدام السياسي فهو من نصيب المعارضة، وتحديداً كل من حزب العمال وحزب الخضر، المكلف بملف التغير المناخي في حزب العمال المعارض، إذ وصف ميليباند عدم حضور سوناك قمة المناخ في شرم الشيخ بـ "الخطأ الكبير"، وقال في تصريحات تلفزيونية إن "هذه ليست قيادة، وعدم المشاركة تخل عن القيادة"، مضيفاً أن على بريطانيا أن تعمل بقوة وبسرعة من أجل الطاقة النظيفة، وحتى تفي بالتزاماتها المتعلقة بالمناخ وأمن الطاقة والوظائف.
ويشار إلى أن زعيم حزب العمال البريطاني كير ستارمر كان دعا إلى إجراء انتخابات عامة بعد إعلان تراس استقالتها من رئاسة حزب المحافظين، وهو المطلب نفسه الذي رددته بقية أحزاب المعارضة مثل الديمقراطيين الأحرار والوطني الاسكتلندي والخضر، ويشار أيضاً إلى أن عضو البرلمان عن حزب الخضر كارولين لوكاس وصفت قرار سوناك بعدم المشاركة في "كوب-27" بأنه "طريقة مهينة لإنهاء الرئاسة البريطانية لمؤتمر الأطراف في قمة المناخ".
وتعود الكرة مجدداً إلى الملعب الملكي، إذ قالت متحدثة باسم رئاسة الحكومة البريطانية الجمعة الماضية أنه "بما يتماشى مع الممارسات المتبعة، التمست المشورة الحكومية، واتفق بالإجماع على أن هذه ليست المناسبة الأفضل للملك تشارلز للذهاب إلى هناك شخصياً"، وفي الوقت نفسه عبر المبعوث الأميركي الخاص للمناخ جون كيري عن أمله في أن وجود الملك تشارلز في "كوب-27" بالغ الأهمية، ومن شأنه أن "يحدث الفرق المطلوب لأنه يتمتع بالصدقية اللازمة"،
والصدقية الوحيدة التي تبددت تماماً في أجواء "كوب-27" المرتقب هي صدقية علاقة تذبذب الحضور الرسمي البريطاني بالملف الحقوقي المصري والسماح للمتظاهرين والمنتمين لمجتمع "الميم" بالحضور من عدمه، والطريف والغريب أن رئيس الوزراء البريطاني السابق المثير للجدل بوريس جونسون أعلن نيته حضور القمة في شرم الشيخ، وذلك "لإظهار تضامنه مع المعركة المناهضة لأزمة المناخ"، وهو ما فسره بعضهم في ضوء النكاية في سوناك، في حين اعتبره آخرون "مجرد واحد من قرارات جونسون العجيبة".