ليس هناك ما يدعو للدهشة من تصدر مصر قائمة الدول العربية الأكثر مديونية لصندوق النقد الدولي في ظل شهية مفتوحة للاقتراض الخارجي في السنوات العشر الأخيرة، حين بدأت القاهرة على استحياء الاقتراض في العام التالي لاندلاع ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011 في ظل حكم المجلس العسكري للبلاد، ثم ارتفعت شهيتها للاقتراض بكثافة بداية من عام 2015 مع التوسع في التنمية العقارية وضخ أموال لإعادة هيكلة البنية التحتية وبناء المدن وتهيئة شبكة الطرق، فضلاً عن بناء عاصمة إدارية جديدة للبلاد.
تشير أحدث بيانات صندوق النقد الدولي إلى أن القاهرة تأتي في المرتبة الأولى كأكثر مدين للصندوق من بين الدول العربية بنحو 17.25 مليار دولار قبل توقيع البرنامج الجديد الذي تصل قيمته إلى ثلاثة مليارات دولار، إضافة إلى ستة مليارات أخرى من شركاء تجاريين.
الديون الخارجية 157.8 مليار دولار
نتيجة التوسع في الاقتراض الخارجي بكل السبل، تارة من الصندوق والبنك الدوليين، وأخرى بالسندات الدولية بعملات أجنبية، ارتفع الدين الخارجي لمصر إلى نحو 157.8 مليار دولار في نهاية مارس (آذار) 2022 مقابل نحو 145.5 مليار دولار في نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2021، تمتلك الدول العربية منها نحو 25 في المئة، بينما يمتلك صندوق النقد الدولي نحو 15 في المئة، وتتوزع بقية الديون بين سندات دولية أو دول أخرى، في حين تنتظر مصر جدول سداد مزدحماً خلال الأعوام القليلة المقبلة، فبخلاف 26.4 مليار دولار ديون قصيرة الأجل يتعين سدادها خلال عامين، هناك ديون متوسطة وطويلة الأجل تتجاوز الـ72.4 مليار دولار خلال المتبقي من 2022 وحتى نهاية 2025.
وفقاً لجدول سداد الدين الخارجي متوسط وطويل الأجل يتعين على مصر سداد 8.57 مليار دولار خلال النصف الثاني من العام الحالي. وفي 2023 يجب سداد 9.33 مليار دولار في النصف الأول، و8.32 مليار دولار في النصف الثاني، وفي 2024 يجب سداد 10.9 مليار دولار في النصف الأول و13.3 مليار دولار في النصف الثاني، وخلال عام 2025 يتعين سداد 9.3 مليار دولار في النصف الأول و5.8 مليار دولار في النصف الثاني، أما في عام 2026 فيجب سداد 6.6 مليار دولار خلال النصف الأول من العام بخلاف 10.2 مليار دولار خلال النصف الثاني.
البداية بـ90 مليون فرانك
علاقة الاقتصاد المصري بالديون تمتد إلى قرنين من الزمان، فقبل مئتي عام لم يرحب محمد علي باشا (حاكم مصر في الفترة من 1805 حتى 1848) بالاستدانة من الخارج على رغم حاجته الماسة إلى الأموال، وقد رفض بعض القروض التي عرضت عليه من الممولين الأجانب، معوضاً ذلك بحزمة من الإجراءات التي ساعدت على تطوير موارد الدولة ليترك الخزانة المصرية ممتلئة بـ90 مليون فرانك عام 1838، بعد أن استلمها بحصيلة لا تزيد على أربعة مليارات فرنك في بداية توليه الحكم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى عكس توجهات والده، توسع محمد سعيد باشا الذي تولى حكم البلاد بداية من عام 1854 إلى 1863 لتعرف الدولة المصرية في عهده طريق الاقتراض الخارجي للمرة الأولى، حتى ترك الحكم والمصريين غارقين في ديون قدرها 11 مليون جنيه استرليني (12.75 مليون دولار أميركي)، ولم يوقف خلفه الخديوي إسماعيل عجلة الاقتراض، بل زاد من سرعتها لتصل مديونية القاهرة لدائني الخارج إلى 126 مليون جنيه استرليني (146 مليون دولار). ونتيجة للمديونية الضخمة أعلنت مصر إفلاسها للمرة الأولى في التاريخ، إذ لم تعد قادرة على الوفاء بالتزاماتها في نهاية عام 1876، وتم تعيين مراقبين أجانب في الحكومة المصرية لمراقبة إيراداتها ومصروفاتها لضمان سداد الديون، الأمر الذي أدى في النهاية إلى الاحتلال الإنجليزي لمصر عام 1882.
نجحت البلاد في الاستفادة القصوى من الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، ثم الثانية (1939-1945) بعد أن تعطلت إمدادات القطن الأميركي إلى دول أوروبا والعالم لتفسح الطريق أمام القطن المصري لتحقيق مكاسب طائلة بلغت 500 مليون جنيه (22 مليون دولار) تقريباً وتخفض ديونها إلى 26 مليون جنيه استرليني (30 مليون دولار)، بل إن القاهرة استطاعت في تلك الفترة مراكمة الديون على بريطانيا التي أصبحت مدينة للقاهرة بـ430 مليون جنيه استرليني (498 مليون دولار)، كما نجحت في تحويل ما تبقى من ديون خارجية إلى ديون داخلية بإصدار سندات اشتراها المصريون.
3 رؤساء و34 مليار دولار ديوناً
عقب نجاح ثورة يوليو (تموز) 1952 ثم تولي الرئيس جمال عبد الناصر حكم البلاد (من 1956 حتى عام 1970) لم تكن على مصر أية ديون أجنبية قبل أن تتراكم الديون من جديد مع تتابع الحروب التي خاضتها البلاد طوال فترة حكمه، بداية بحرب اليمن مروراً بحرب الخامس من يونيو (حزيران) 1967، ونهاية بحرب الاستنزاف التي انتهت عام 1970، ليرحل عبد الناصر والخزائن المصرية مدينة للعالم الخارجي بـ1.7 مليار دولار.
ولم يتوان خلفه السادات (1970-1981) عن الاستدانة نظراً إلى حاجته إلى التمويل الضخم لتسليح الجيش المصري لخوض حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، ولم يتوقف عن الاقتراض عقب انتهاء الحرب لتبنيه إعادة بناء الاقتصاد المصري المنهك نتيجة الحروب المتتالية، تاركاً حكم مصر بعد حادثة اغتياله عام 1981 مدينة بـ15 مليار دولار ديوناً أجنبية.
وعلى المنوال نفسه سار خلفه حسني مبارك (1981-2011) ليصل حجم الديون الخارجية بعد مرور الـ10 سنوات الأولى لحكمه من 15 إلى 52 مليار دولار، وتتوقف مصر عن سداد الالتزامات الخارجية وأعباء الديون قبل أن تندلع حرب الخليج الثانية (1990-1991)، عندما اجتاح الجيش العراقي الأراضي الكويتية، وهو ما كان بمثابة طوق النجاة لحكومة "مبارك"، فبعد أن تمكنت القوات البرية المصرية من إخراج القوات العراقية من أراضي الكويت تحركت الولايات المتحدة والدول الدائنة من أعضاء "نادي باريس" (تحالف مالي عالمي يضم 20 دولة) ودول الخليج لإسقاط نصف الديون الأجنبية عن مصر، وتراجع حجم الدين الخارجي إلى 27 مليار دولار.
في العقد الثاني من حكم مبارك نجحت الحكومات المتعاقبة في خفض المديونية الخارجية إلى 11 مليار دولار فقط عام 1999، قبل أن تعاود وتيرة الديون الارتفاع مجدداً مسجلة 18 مليار دولار عام 2004، ثم تنحى مبارك عن حكم البلاد في أعقاب ثورة يناير تاركاً ديوناً خارجية بلغت 34.8 مليار دولار عام 2011.
ولم تتجاوز الديون الخارجية على مصر حاجز 34.8 مليار دولار في الفترة التي قضاها المجلس العسكري في الحكم على مدار 18 شهراً، لكن الوضع تغير مع تولي الإخوان المسلمين الحكم عام 2012، إذ ارتفعت الديون الأجنبية من جديد من 34.4 مليار دولار قبل خلع الرئيس محمد مرسي بعد ثورة 30 يونيو 2013، تاركاً منصبه بديون أجنبية بلغت 43.2 مليار دولار، ثم زادت الديون في الفترة الانتقالية التي تولى مقاليد الحكم فيها رئيس المحكمة الدستورية المستشار عدلي منصور لتصل إلى 46.1 مليار دولار.
شهية مفتوحة للديون
مع تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي عام 2014 زادت شهية الاقتراض الخارجي لترتفع من 46.1 إلى 74 مليار دولار عام 2017، بزيادة قدرها 27.9 مليار دولار، قبل أن ترتفع إلى 157.8 مليار حتى نهاية مارس (آذار) الماضي، وبحصول مصر على قرض تسعة مليارات دولار سيرتفع إجمالي الديون الخارجية إلى 166 مليار دولار تقريباً، بخلاف الديون الداخلية التي نمت بنسبة 1324 في المئة على مدار العشرين عاماً الماضية.
هيكل الديون المصرية يتوزع بين ديون تصل إلى 52 مليار دولار من 20 مؤسسة إقليمية ودولية أبرزها صندوق النقد والبنك الدوليان، إضافة إلى 36 ملياراً من 22 دولة، و29 ملياراً إصدارات سندات في الأسواق الخارجية، و12 ملياراً من بنوك أجنبية وخليجية، إلى جانب 26 ملياراً ديون قصيرة الأجل من دول ومؤسسات إقليمية.
هل الوضع مقلق؟
مع اقتراب الديون المصرية من 158 مليار دولار، وهو الرقم المرشح للزيادة قبل انتهاء العام الحالي، تختلف وجهات النظر حول الخوف من تراكم الديون، ففي الوقت الذي ترى الحكومة المصرية أن القضية ليست في حجم الديون، بل في القدرة على السداد وفقاً لوزير المالية محمد معيط، الذي أكد في وقت سابق أن "سداد القاهرة الديون المستحقة دليل على قوة الاقتصاد".
في الجهة المقابلة، يتخوف محللون من الاستمرار في الاقتراض واستخدام الحصيلة في سداد ديون أخرى، مما يعني السقوط في دوامة الاستدانة، بينما تحذر مؤسسات التصنيف الدولية من مخاطر عدم السداد، ففي نهاية مايو (أيار) 2022 غيرت وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني نظرتها المستقبلية إلى القاهرة من مستقرة إلى سلبية، في الوقت الذي أبقت تصنيفها لمصر عند "B2" مع تزايد مخاطر تراجع قدرة الدولة السيادية على امتصاص الصدمات الخارجية في ضوء التراجع الملموس لاحتياطي النقد الأجنبي.
وقالت الوكالة إن "مصر تتطلع إلى سداد خدمة الدين الخارجي التي تتراوح بين 25 و30 مليار دولار على مدى السنوات الثلاث المقبلة"، مشيرة إلى أن "حجم الدين المصري كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي من المرجح أن يصل إلى 93.5 في المئة خلال العام المالي الحالي".
وتعني النظرة المستقبلية السلبية أن "موديز" من المرجح أن تخفض تصنيفها لمصر بدلاً من رفعه أو الإبقاء عليه مستقراً في تقييمات مقبلة للمرة الأولى منذ عام 2013، لكن في المقابل أكدت وكالة "ستاندرد أند بورز" الأميركية تصنيف مصر عند درجة "B/B"، مع نظرة مستقبلية مستقرة، الأسبوع الماضي.