ارتأت الدورة الحادية والأربعون من منتدى أصيلة الدولي أن تفتح نقاشاً موسعاً حول راهن الشعر العربي، عبر ندوة كبرى عاشت المدينة فعاليتها على مدار يومين. كان عنوان الندوة: "الشعر العربي في مشهد ثقافي متحول"، وشارك فيها مجموعة من النقاد والشعراء من بلدان عربية مختلفة: محمد الأشعري (المغرب)، صلاح فضل (مصر)، خالد بلقاسم (المغرب)، شوقي بزيع (لبنان)، كريم رضي (البحرين)، حميد سعيد (العراق)، إكرام عبدي (المغرب)، حسن طلب (مصر)، ربيعة جلطي (الجزائر)، المهدي أخريف (المغرب)، زهير أبو شايب (الأردن)، مباركة البراء (موريتانيا)، سلطان العميمي (الإمارات)، عبد المنعم رمضان (مصر) وغيرهم. وقد دعي إلى الندوة أيضاً رئيس بيت الشعر بالمغرب ومديرا دار الشعر بكل من مراكش وتطوان، فضلاً عن أسماء أخرى من حقل الترجمة والنشر والبحث والإعلام.
في جلسة الافتتاح التي أدارها الناقد شرف الدين ماجدولين ، تحدث محمد بنعيسى رئيس منتدى أصيلة عن الحاجة إلى الشعر في لحظتنا العربية الراهنة. مذكراً بأبرز الأسماء العربية التي قرأت الشعر في أصيلة، المدينة التاريخية المطلة على المحيط الأطلسي. فتح بنعيسى سؤالاً كبيراً حول مسار الشعر العربي في سياق ما يعرفه عالمنا من تحولات، ودعا إلى ضرورة الانتباه إلى الأجيال الجديدة التي تتفاعل مع الإبداع بآليات مختلفة.
عاد الشاعر المغربي محمد الأشعري إلى لحظة انطلاق الشعر العربي من تطلع جماعي إلى التحرّر، وإلى ما بذلته أجيال متعاقبة من الشعراء للحفاظ على هذه الروح التقدمية في الكتابة. وربط تحول الكتابة الشعرية بتحول القارئ أيضاً، الذي كان يتلقى اليقينيات في كتابة الأسلاف، بينما صار مصبّاً للشك الذي رافق الكتابة الحديثة. فوظيفة الشاعر اليوم -بحسب الأشعري- هي أن يظل عنصر تشويش على اليقينيات.
أكد الأشعري أن الشعر العربي الحديث "بنى رؤيته على مجهود فكري وجمالي، يستند إلى تعدد الرؤى والتجارب، والانفتاح على حقول إبداعية أخرى، وعلى شعريات مختلفة، وبهذا المجهود استدعت القصيدة العربية الحديثة إلى أبنائها أصداء لغات أخرى، كما استدعت جماليات مرتبطة بالتشكيل والسينما وفنون أخرى". أكد الأشعري أن الأوساط الشعرية لم تعد تتضايق، كما كان، من إنتاج أشكال جديدة، بل صار الخوف، كل الخوف، من الانحسار.
استعاد الناقد المصري صلاح فضل لحظة تأسيس جائزة بلند الحيدري للشعراء الشباب التي يقدمها منتدى أصيلة بشكل دوري، مؤكداً أن الشعر لم ينحسر في عالمنا العربي، بل صار ينبثق من مواطن وأقطار كاد يندثر فيها. وثمّن ما يكتب في بلدان المغرب العربي، التي كان الشعر قد خفت فيها خلال المرحلة الكولونيالية. "أوهمنا الناشرون أن دواوين الشعر لا تباع"، هذا ما قاله فضل، متوقفاً عند محمود درويش ونزار قباني بوصفهما نموذجين لانتشار الشعر وتداوله. عاد الناقد المصري إلى التحولات التي عرفها الشعر خلال القرن العشرين (الرومانسية، الشعر الحر وقصيدة النثر) وقال: "كثير على لغة واحدة أن تمر بثلاث ثورات شعرية في فترة قصيرة".
حال المنفى
في مداخلته أكد الشاعر اللبناني شوقي بزيع أن الشعر هو لسان حال المنفى، ذلك أن الشاعر غير متصالح على الدوام، لا مع ذاته، ولا مع محيطها الخارجي، داعياً الشعراء إلى الكتابة من داخل النص، من دون انتظار أوامر خارجية، تفرضها في الغالب دوافع إيديولوجية، حاولت على مر التاريخ أن تخضع الشعر لسلطانها، سواء تعلق الأمر بالماركسية أو القومية أو الأصوليات الدينية. توقف بزيع عند التأثير السلبي للوسائط الحديثة (فيسبوك، تويتر، المدونات...) أو ما سماه "الغثاء الهائل"، الذي نتفاجأ فيه من حين إلى آخر بالتماعات جميلة، لكن تخفيها الوفرة والركام. أشار الشاعر اللبناني إلى أن تحول الواقع يفرض بالضرورة تحول الكتابة الشعرية وتطورها. وانطلق من مقولة محمود درويش: "الشعر الجيد يخدم المقاومة، والشعر الرديء يخدم العدو" ليؤكد أن الإبداع يستمد قوته من قيمته الفنية أولاً، لا من قضاياه. توقف عند الفكرة المتداولة (نحن نعيش زمن الرواية) قائلاً: "صحيح هو زمن الرواية، ونحن نستمتع بقراءتها، لكنه أيضاً زمن الشعر بامتياز، بدليل أن منسوب الشاعرية في العالم مرتفع، وممتد في كل الفنون".
في الجلسة الثانية أسهب الشاعر البحريني قاسم حدّاد في الحديث عن مفهوم "التحوّل" في شقيه الشكلي والتّيمي، متأسفاً لكون "كلّ ما يحيط بالواقع العربي لا يسمح بتحول إيجابي للمشهد الثقافي. الفعل الجوهري للتحول في حاجة إلى وضع حر وديمقراطي يتيح للثقافة أن تحقّق نفسها"، مؤكداً أن الثقافة هي المؤشر الحقيقي إلى كل جهة تتخذ الديمقراطية شعاراً لها. الشعر بحسب حداد هو أكثر الفنون التعبيرية وجوداً في خط المجابهة والنقد، وبالتالي فصعوبات تحقق الديمقراطية تخلق صعوبات موازية على مستوى حضور الشعر وتأثيره. تساءل الشاعر البحريني عن قيمة الشعر والإبداع داخل مجتمعات تبدو لها الثقافة عدواً، غير أنه أشاد بما صارت تتيحه وسائط التواصل الحديثة من حرية لم تكن متاحة من قبل.
جعل الشاعر والمترجم المغربي المهدي أخريف من كلمته امتداداً لمخرجات الندوة السابقة، محاولاً تقييم راهن الشعر العربي، لافتاً الانتباه إلى ما صار يعرفه من وفرة، ومن قدرة على التداول والانتشار عبر مسالك تقنية جديدة، راصداً هيمنة النثر في النصوص الشعرية المعاصرة. غير أنه استطرد: "لا قيمة لكلّ ما يكتب ما لم تكن فيه بصمة تدل على تفرّد التجربة وتميزها". وتوقف عند عدد من الأسماء الأساسية في قصيدة النثر التي جعلت للكتابة الشعرية إيقاعها الشخصي الخاص. فتح أخريف سؤالاً حول "خطر" يهدّد الشعر، هو هجرة عدد كبير من الشعراء إلى أرض الرواية.
الشاعرة والناقدة الجزائرية ربيعة جلطي افتتحت كلمتها بالتذكير بأن يوم الندوة يصادف ذكرى استقلال الجزائر، وأكدّت أن سؤال حضور الشعر وتأثيره يصعب إعداد أجوبة جاهزة له، فهو سؤال لا يمكن أمامه إلا توليد أسئلة أخرى جديدة، وإن مهمة الشاعر اليوم هي مواصلة طرح المزيد من الأسئلة. ثم قامت بتفكيك شعار الندوة، متسائلة عما إذا كان ذلك يعني أن الشعر العربي ثابت فيما المشهد الثقافي متحول. طرحت جلطي إشكالية اللغة، وما يعرفه الشاعر العربي من مفارقة بين اللغة التي يكتب بها واللغة التي يعيش بها، عكس الكاتب اللاتيني أو الأوروبي الذي يخاطب الناس بلغة حياتهم، لا لغة الدراسة. لاحظت جلطي أن شاعر اليوم قد جُرّد من كل وظائفه، متمنية ألا يحرم من عنصرين أساسين هما: الحرية والحُلم.
تناولت بقية المداخلات الصعوبات التي يعانيها الشعر اليوم بين أجناس إبداعية أخرى من جهة، وبين عوامل خارجية يفرضها التحول الاقتصادي والاجتماعي. كما طرحت إشكالية التراث الشعري وطبيعة التعامل معه، وتأثيرات الثقافات الأخرى في القصيدة العربية. غير أن المداخلات كانت مكثفة جداً، فقد حرص منسقو الندوة في مختلف فقراتها على ألا تتجاوز المدة المتاحة لكل متدخل عشر دقائق، مما جعل معظم المداخلات تومئ وتشير وتختصر، في حين كانت طبيعة الموضوع تقتضي التعمق أكثر في البحث والنقاش.