يشرع مهرجان تسالونيك نوعاً ما، الباب أمام مهرجانات الخريف والشتاء. إنها العودة إلى الحياة السينمائية الجادة بعد العطلة الصيفية. إلا أن ارتفاع درجات الحرارة هذا العام على ضفاف الأدرياتيك جعل التظاهرة السينمائية التي تعقد دورتها الثالثة والستين بين 3 و13 نوفمبر (تشرين الثاني)، تبدو كما لو أنها تقام في عز الصيف، وكما لو كانت امتداداً لمواعيد السينما التي انعقدت في الأشهر الماضية. خصوصاً أن هناك الكثير من الأفلام التي اكتشفناها هذا الصيف وتُستعاد في تسالونيك كرمى عيون الجمهور الذي ينتظر هذا الحدث للاطلاع على كل مستجد ومثير، يأتي من جميع أصقاع الأرض. هذا الصيف الممتد والمتجدد الذي يربطه البعض بالتغييرات المناخية والاحتباس الحراري، لم يمنع المشاهدين، وهم من كافة الأعمار، من ارتياد الصالات التي امتلأت كالعادة. فالاهتمام بالمشاهدين هو الشعار الأهم هنا، والحجة التي تأسس عليها المهرجان في الستينيات، بعيداً من هواجس مثل السياحة والبهرجة. ولا بد أن نتذكّر في هذا الصدد دورة عام 2020 التي أُلغِيت بسبب جائحة كورونا، لكن الإدارة ودت تسجيل موقف من خلال تقديم افتتاح وهمي بلا جمهور.
أي أنّ، في الليلة التي كان من المفترض أن ينطلق فيها المهرجان، وفي تمام الساعة السابعة، تم إطفاء الأضواء وعرض فيلم "صبي الحوت". وهكذا أصبح تسالونيك أول تظاهرة تقرر توجيه تحية رمزية إلى المشاهدة السينمائية، في زمن كان غادر الرواد الصالات. اليوم، بعد عامين، وفيما عاد كل شيء إلى طبيعته، يسلك المشاهد اليوناني طريق الصالات بلا كمامات وإجراءات كانت صعّبت المشاهدة، وهو على قدر من السعادة أن العالم كله يأتي إليه من خلال الفن السابع. وهناك ما يجعل العودة إلى الصالة مستحقة: نحو 200 فيلم من كل أنحاء العالم، زبدة ما عُرض في المهرجانات الكبرى، بالإضافة إلى عدد من العروض الأولى، ضمن برمجة تتراوح بين خيارات نخبوية وجماهيرية. والمهرجان لا يقتصر على الأفلام، بل ثمة نشاطات موازية كثيرة وحفلات موسيقية وندوات وبرامج دعم للسينما المستقلة وواقع افتراضي وتحيات.
لماذا لا يُقام هذا الحدث السينمائي الأهم في اليونان في العاصمة أثينا بدلاً من تسالونيك، ثاني أكبر المدن في البلاد؟ الجواب المختصر هو أن تسالونيك بقعة جغرافية خاصة جداً تمتاز بخلفية ثقافية كوزموبوليتية. إنها قطعة من التاريخ والجغرافيا العالقة بين عالمين، ممّا يبرر انعقاد المهرجان فيها. هذا لا يعني أن أثينا ليست مدينة ذات شأن، لكن في تسالونيك ثمة ما يتعذّر وصفه بالكلمات. هناك إحساس يداهمك منذ اللحظة التي تضع فيها قدميك على أرضها. المدير السابق للمهرجان، الراحل ديمتري أيبيديس، كان يقول إنها مدينة تلمس فيها الغبطة. "لستُ متأكداً أن تنظيم مهرجان في العاصمة أمر بتلك الأهمية. إنها مدينة شاسعة، فيها عقلية أخرى، مشكلات أخرى. أفضّل تسالونيك. نحن هنا في ملتقى. ننتمي إلى منطقة البلقان. وثمة في هذه المدينة ارتباط بين ثقافات مختلفة. نحن على مرمى حجر من بلغاريا وصربيا. هذه مدينة جميلة، في حين أثينا مدينة قبيحة وقذرة، مدينة مرعبة. ألم تذهب إلى هناك؟ اذهب وشاهد بعينيك...".
تعدد الثقافات
هذه الروحية المنبثقة من تعدد الثقافات تجعلها "نموذجاً للتسامح"، كما يعتبرها كثر. "ملتقى ثقافات" هي أكثر توصيف يتم استخدامه في إطار الحديث عن المدينة التي تعطي هذه الوظيفة لمهرجانها الشهير. قبل سنوات، عندما قابلتُ أيبيديس كان متخوفاً من المستقبل ويقول إن مع كل ما يحصل في عالمنا الحالي من صعود للأصوليات وموجات التعصب، هذه الروحية ستحتضر ذات يوم. كيوناني، كانت تفاجئه هذه المدينة، فما بالك بالأجنبي الذي يمضي فيها أسبوعاً من الزمن ولا يعرف كيف يفرق بين ليلها ونهارها، بين أيام الأسبوع والويك إند. هذه مدينة تنزل في صباحها إلى الشارع فترى الناس وكأنهم في عطلة أو عيد. إنه شيء تصعب رؤيته في مدن يونانية أخرى. ولم يكن الوضع مختلفاً عندما كانت البلاد في أزمتها المالية الأشد في مطلع العقد الماضي. على رغم أن الناس كانوا يقفلون مصالحهم والعمّال يخسرون وظائفهم والديون إلى المصارف الأجنبية تتراكم، فكانت الحفلات والسهرات عامرة في مدينة ذات غالبية من الشباب.
افتتح المهرجان هذا العام بفيلم ستيفن سبيلبرغ المنتظر، "آل فايبلمان"، الذي يعود فيه المخرج الكبير إلى تفاصيل حياتية مستوحاة من سيرته الذاتية ومن طفولته التي تكشف قصّة غرامه بالسينما. الفيلم يسحق القلب، خصوصاً عندما يصوّر رغبة الفتى الطموح الذي يلعب دور سبيلبرغ شاباً في دخول صناعة الأفلام التي يبدي اهتماماً بها منذ نعومة أظفاره. ومنذ اللحظة التي يرافق والديه لمشاهدة فيلم "أعظم عرض في العالم" لسيسيل ب. دوميل، ومن اللافت أنه يعود يومها إلى البيت مندهشاً بالاختراع الفنّي الذي اكتشفه للتو، والذي غير مجرى حياته. بعد ذلك، يغدو الفيلم عرضاً مفعماً بالمشاعر لكلّ التحديات التي يواجهها ليصبح الفنان الذي نعرفه اليوم، صاحب الأعمال التي تخاطب الجماهير العريضة، وهي تحديات ذات أبعاد ثلاثة: عائلية (طلاق والديه سيكون مؤلماً) ومدرسية (يتعرض للاضطهاد على أساس يهوديته) ومهنية (يتعلّم كيف ينجو من سطوة والده ذي العقل العلمي). جمال الفيلم كامن في أنه ينتهي من حيث تبدأ مغامرة المخرج، فلا يقع في فخ الأسطرة الذاتية وتفخيم التجربة الشخصية، بل يأتينا بعمل شديد الحميمية عن الطموح، ينطلق من الذات ليصل إلى منطقة تلمس كل إنسان، وفي هذه تكمن كل موهبة مخرج يفتح علبة أسراره أخيراً وهو على مشارف الثمانين.
القريب والبعيد
المهرجان هو كلّ ما يحدث الآن وهنا، متصل بالعالم القريب والبعيد، ولكنه أيضاً التفاتة إلى الخلف وإلى كل ما صنع تاريخ السينما. نتيجة ذلك، كيف يمكن المرور بصمت على ذكرى مرور عقد كامل على رحيل تيو أنغلوبولوس، مخرج اليونان الأكبر؟ لذلك، بعد 52 سنة على مشاركته في المهرجان نفسه، عُرضت مساء الأحد الماضي نسخة مرممة لـ"إعادة تركيب"، باكورة أعماله التي صوّرها في ظروف صعبة، إذ كان عليه التكيف مع شح الإمكانات المتوافرة لديه. تجري أحداث الفيلم الفائز بجائزة فيبريسّي في برلين داخل قرية يونانية نائية أيام البطالة والفقر، حيث تقتل سيدة زوجها العائد لتوه من ألمانيا بمساعدة عشيقها. لا تظهر الجريمة على الشاشة أبداً. تحاول الشخصيات الرئيسية (القاضي والشرطة والصحافيون) إعادة بناء الحادثة وفهمها. الفيلم استوحاه المعلّم من حادثة حقيقية، لكنه ارتقى بمعناه وأبعاده إلى الميثولوجيا الإغريقية.
التزماً منه بصون تاريخ السينما، يوجه المهرجان في دورة هذا العام ثلاث تحيات (على شكل استعادات) لثلاثة سينمائيين: أولهم الصربي اليوغوسلافي ألكسندر بيتروفيتش (1929 - 1994) نكتشفه أو نعيد اكتشافه بسبعة أفلام تعرض له، من تلك التي أنجزها بين مطلع الستينيات ونهاية الثمانينيات. هذا مخرج غير معروف كثيراً على رغم أهميته، ينتمي إلى "الموجة السوداء" اليوغوسلافية التي ظهرت في الستينيات، وهو صاحب أعمال رُشِّحت لـ"الأوسكار"، في حين نال أشهر فيلم له "حتى إنني التقيتُ غجراً سعداء" (هكذا تُرجم عنوان الفيلم في فرنسا) جائزة لجنة التحكيم الخاصة في "كان" واعتُبر أهم فيلم يوغوسلافي على مر التاريخ. كانت له مواقف معادية للحرب والقومية والشيوعية، والأخيرة أضحت ذريعة لفصله من منصبه في أكاديمية الفيلم في بلغراد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المخرج بيتر ستريكلاند (49 سنة) الذي يحضر في تسالونيك بـ11 فيلماً هو ثاني الشخصيات السينمائية التي يلقي عليها المهرجان تحية خاصة. سينما هذا البريطاني تعبر عن العالم الغريب والخاص الذي يزجّنا به. وأبلغ مثال على هذه الغرابة هو فيلمه "في القماشة"، علماً أن "كاتالين فارغا" الفائز في برلين عام 2009 هو أشهر ما أنجزه. أما ثالث المكرمين غيابياً، فهو البريطاني بيتر بروك الذي رحل في تموز الماضي عن 97 سنة. خمسة أفلام تُعرض له، أشهرها "مهابهاراتا" (1989)، المقتبس من القصيدة الملحمية الهندية الكبرى التي تحمل العنوان نفسه (الأطول في تاريخ البشرية). يعد الفيلم رائعة سينمائية تعرض كفاءات بروك، من مشهديته إلى براعته السردية فالاقتصاد على مستوى الشعر. إنها محاولة للتأمل في التجربة الإنسانية المحيرة والمخيفة. العمل إنتاج ضخم أسهم في إعادة تعريف المسرح، وكما يقول الراوي في الفيلم: "إنه التاريخ الشعري للبشرية، إذا استمعتَ له بعناية، فستتحول في النهاية شخصاً آخر".