كانت "نينا"، المرأة الأوكرانية الأربعينية التي تتحدث الروسية، قارئة بالغة الشغف لأعمال أنطون تشيخوف، الأمر الذي تطور ليسفر عن تنبؤ أو مجموعة تنبؤات في حياتها الشقية المضطربة. فهل تنبأت هي بتفاصيل معاناتها في القرن الـ21 من خلال قراءتها قصص تشيخوف، وتقمصها عوالمه، أم أن الأديب الروسي المحنك (1860-1904) هو الذي رسم لها قبل 100 عام دراما تحطمها ومحطات ذبولها وتلاشيها، في وطنها القاسي وفي غربتها الأشد قسوة؟!
على لسان "نينا"، كساردة وحيدة، تأتي جميع أحداث رواية "قارئة تشيخوف" للكاتبة جوليا كورساليني، وعلى رغم ذلك فإنها رواية متعددة الأصوات والمستويات، تجمع بين الخبرة المباشرة والتثقف المعرفي، وتمزج الحياتي والتاريخي، والواقعي والتخييلي، وتنطلق من المحنة الفردية والعائلية إلى أزمات المجتمع وشقاء الإنسان بوجه عام. وهذا ما أكسب الرواية قيمتها الفنية والفكرية، إذ حصلت الرواية بنسختها الإيطالية الأصلية على جوائز دولية عدة، منها: جائزة "مونديلو" الأدبية، وجائزة "لي أزيني"، وجائزة "برغامو" القومية للسرد الروائي. وقد صدرت الرواية حديثاً بالعربية في أكثر من 200 صفحة (دار صفصافة، القاهرة، 2022)، وترجمتها عن الإيطالية مروة عبدالمنعم طنطاوي، أستاذة الأدب الإيطالي بجامعة عين شمس.
دوائر الشقاء
تمثل شخصية "نينا" مركزاً لدوائر الشقاء في الرواية، وهو شقاء يتماس على طول الخط مع أدبيات تشيخوف، المنشغل في كتاباته بمعاناة الإنسان، والمنخرط في مقولات عن "فقدان البشر اللانهائي والتوقعات المخيبة للآمال"، بحد ما تنظر "نينا" إلى أعماله التي تعكس حياتها، أو ترى نفسها وهي تتحرك خطوة خطوة في مؤلفاته "لقد كنت قارئة شغوفة لتشيخوف، كل هذا يبدو وكأنني قد تنبأت به دائماً!".
تتقصى الرواية حياة "نينا" وتطورات علاقتها بأسرتها، وبصديقها "جوليو دي فيليتشي" أستاذ اللغة الروسية وأدبها، الذي التقت به في إيطاليا، وأتاح لها عملاً جامعياً موقتاً قبل أن ترجع إلى موطنها أوكرانيا. وقد كانت "نينا" تعيش حياة مستقرة نسبياً في كييف مع زوجها وابنتهما "كاتيا"، إلى أن أصيب زوجها بداء لا يرجى شفاؤه، فدفعها الفقر إلى ترك زوجها المريض العاجز والسفر بمفردها إلى إيطاليا لرعاية سيدة عجوز والتنقل بين أعمال منزلية وأشغال صغيرة لا تليق بتعليمها الجامعي وثقافتها وإلمامها باللغات والآداب، وذلك أملاً في تدبير نفقات ابنتها التي تدرس الطب وتتطلع إلى الزواج من خطيبها، غير ميسور الحال بدوره.
وخلال عام واحد قضته "نينا" في إيطاليا (بين 2003 و2004)، تمكنت من جني بعض المال المطلوب، لكنها حصدت خسارات أعمق، صنعت شقاءها الأبدي، منها: تمزق الأسرة ووفاة الزوج وسخط ابنتها إذ لم تحضر الأم لحظة وفاة زوجها لالتزامها بمهمات العمل ولم تتفهم الابنة التضحية، وكذلك شعورها الدائم بالضياع والاغتراب وتبديد طاقتها في ما لا يجدي ولا يرضي روحها المتطلعة للحرية والأمل والإبداع، على رغم الجليد القارس من حولها، وقيود الواقع، والالتزامات المادية الخانقة.
الرهانان الخاسران
وفي خضم هذه الانكسارات والارتباكات كلها، لا تجد "نينا" غير رهانين لمحاولة التمرد على حياتها التي تبدو مثل "حكاية مملة" (عنوان إحدى روايات "تشيخوف"). الرهان الأول هو "جوليو دي فيليتشي" أستاذ اللغة الروسية وأدبها، الذي التقت به في معهد الدراسات السلافية بإيطاليا، وساعدها في تدبير عمل موقت لها للتدريس في الجامعة، على خلفية إجادتها اللغات وتبحرها في دراسة الأدب الروسي، خصوصاً "تشيخوف". أما الرهان الثاني، فهو "تشيخوف" نفسه، الذي حاولت "نينا" التماهي معه، ومع عوالمه وشخصياته ومقولاته، أملاً في كسر معقولية الواقع بشيء من الجنون، والسباحة في خيالات وأحلام تنجي من كابوسية اللحظة المعيشة وعقلانية قوانينها الصارمة "كانت طبيعة شغفي بقصص أنطون تشيخوف تميل خاصة إلى قراءة فوضوية وعاطفية".
وقد انتهى الرهانان اللذان لجأت إليهما "نينا" إلى الخسارات أيضاً، على رغم أنهما ("جوليو دي فيليتشي" و"تشيخوف") قد مكناها من العمل في معهد اللغات والثقافة الروسية بمدينة كييف، بعد عودتها من إيطاليا إلى أوكرانيا، إلى جانب فضلهما عليها في توفير فرصة التدريس الجامعي الموقت التي حصلت عليها في إيطاليا.
لقد فشل الرهان على "جوليو دي فيليتشي"، لأن علاقتهما أخذت مساراً غامضاً، فالأستاذ الجامعي المتغطرس لا ينظر إليها بندية وحميمية، وإنما يراها امرأة ضحلة وسطحية مقارنة بقدراته هو، ولا يتمكن من التخلص من التعالي في تعامله معها، حتى في الأوقات العاطفية التي قربتهما بعد وفاة زوجها، الأمر الذي جعله في نهاية الأمر تمثال ثلج أضيف إلى الرياح الجليدية التي تعصف بها ليل نهار "لم يعد لدي أمل ولا رغبة في أن أجد في الأستاذ الأكاديمي الذي يجلس أمامي، تلك الإنسانية المريضة المنحرفة التي قد جذبتني وفي فترة وجيزة خدعتني. فبمجرد أن ينبذ أحد منا يستغل لجميع ذلك، ويتآمرون لدفعنا دائماً إلى أسفل، نحو القاع، بين المهمشين".
أما الرهان على "تشيخوف"، فإنه قاد إلى نتيجة عكسية، إذ لم ينتشلها من الحقيقة المؤسفة بقدر ما كان يؤكد لها في كل لحظة حقيقة مصيرها المأسوي المحتوم. لم تجد "نينا" في فضاءات "تشيخوف" مهرباً إلى أحلام أو حتى آمال خارج قبضة يد الواقع الذي يحكمها بأغلاله وسخافاته. لقد استغرقت في قراءة "تشيخوف" في أكثر أوقات حياتها هدوءاً، لكن أعماله صارت تصف أوقات حياتها العصيبة كلها، وكأنها كتبت لتتنبأ بما يجري لها من نكبات مكتوبة هي الأخرى، ولا فكاك منها.
لقد صارت بطلة رواية "قارئة تشيخوف" كإنسان آلي ينفذ تعليمات "تشيخوف"، وتتلاشى إرادته أمام أي اختيار. ولذلك، حينما دعيت إلى مؤتمر حول "أنطون تشيخوف" في إيطاليا، بعد رحيلها عنها بثماني سنوات، لم تجد بعد سفرها إلى المؤتمر ما تقوله عن "تشيخوف" في المحاضرة، فهربت منها من دون أن تعتذر للحضور حتى، ليأسها من فكرة تعدد الاحتمالات في الحياة البشرية "عن أي شيء كنت سأتحدث في الورقة البحثية؟ لا شيء!".
أصوات ومستويات
تبدو رواية "قارئة تشيخوف" متنوعة الأصوات والمستويات على رغم أن "نينا" هي الراوية الوحيدة، لكن ما تحكيه من سرديات وما تخوضه وتستدعيه من حوارات يكشف عن الأبعاد النفسية والداخلية لبقية الشخصيات، ويبرز التطورات والتغيرات التي تحدث لها، وتنامي الصراعات. من ذلك مثلاً، تداعيات علاقة الأم "نينا" بابنتها "كاتيا" التي "هناك حساسية يقظة بداخلها، حادة مؤلمة غريبة، ورغبة عاطفية متعطشة". فهي علاقة جافة، ذات طابع مدرسي صارم يفتقر إلى الحنان، مع سيادة فكرة الواجبات والمسؤوليات. ومثلما لا تلاحظ الأم حاجة ابنتها إلى مزيد من الدفء، فإن الابنة لا تقدر بالشكل اللائق مدى التضحيات التي تبذلها الأم من أجلها ومن أجل الأسرة، بالتالي تتسع الهوة بينهما بالتدريج، حتى تصل إلى ذروة الجفاء عند وفاة الأب في غير وجود الأم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كذلك بمعزل عن تصورات "نينا" بشأن شخصية "جوليو دي فيليتشي" أستاذ اللغة الروسية كمتعجرف ومتسلط وأناني، فإن الرواية تفسح المجال للكشف عن جوانب من حياته تفسر وتبرر تصرفاته، منها تخلي زوجته عنه في محنة مرضه، وانفرادها بابنهما منذ سنوات طويلة، وعدم رغبته في التورط في علاقة دائمة في ظل ظروفه الصحية المتدهورة، واستغراقه المهووس في دراساته وأبحاثه، الذي كاد يعزله عن العالم.
ولم تقف الرواية عند حد تقديم أزمة "نينا" الفردية بطبيعة الحال، وأسرتها الصغيرة، لكنها تطرقت إلى أزمات المجتمعات الأوروبية الممزقة والفقيرة، وترصدت الأحوال البائسة للنازحين إلى إيطاليا من أوكرانيا ودول أوروبا الشرقية، وأوضاعهم المالية والصحية السيئة، وغير القانونية أحياناً، وطبيعة الأعمال المتدنية التي يمتهنونها كالخدمة في المنازل والمتاجر، وغيرها من تفاصيل مآسي المهجرين واللاجئين والمهمشين واللاهثين شهوراً وسنوات خلف استخراج تصريح الإقامة.
وإلى جانب ما قدمته الرواية من قراءة الواقع قراءة مباشرة من خلال التجارب والخبرات الحياتية، فإنها حفرت مسارات معرفية وتاريخية وتخييلية بالغوص في أدبيات "تشيخوف" واستدعاء كثير من قصصه ورواياته وشخصياته ومقولاته، والتماهي معها، بل وابتعاثه هو من جديد وإعاده هضمه، وصولاً إلى تعميم فكرة الضياع الإنساني، وشقاء البشر بوجه عام. وكأنما هذه القصص التي كتبها تشيخوف "تعيد بناء الإحساس بمصير مشترك"، بحد تعبير "نينا"، التي قالت أيضاً في موضع آخر إنها شديدة الولع "بإنسانية تشيخوف وانشغاله بمعاناة الإنسان".