عندما توجه الشعب الأميركي [إلى مراكز الاقتراع] للتصويت الأسبوع الفائت كانت الافتراضات على هذا الجانب من الأطلسي ميالة إلى تبني التشاؤم السائد في أوساط النخبة الديمقراطية هناك.
أولاً كان هناك توقع بأن الجمهوريين سيحققون مكاسب مهمة، كما هو الحال عادة مع الحزب المعارض في الانتخابات النصفية خلال الولاية الأولى للرئيس، وأيضاً لأن جو بايدن بدا أنه بالكاد قد حقق أي إنجاز يعتد به.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ثانياً كانت هناك افتراضات بأن شكل [تركيبة] الجمهوريين الظافرين من شأنها أن تؤدي إلى حرف سياسات الكونغرس الأميركي في اتجاه أكثر يمينية وانعزالية، وهو ما ستعتبره المملكة المتحدة، كما معظم حلفاء الولايات المتحدة، أمراً سيئاً.
وثالثاً كان من المتوقع أن توفر مكاسب الجمهوريين لدونالد ترمب منصة ينطلق منها إلى خوض الانتخابات الرئاسية في العام 2024، وبدا أن ترمب نفسه كان يعتقد أنها ستفعل، وتعهد [بتقديم] ما سماه "إعلاناً مهماً للغاية" في الأسبوع المقبل.
لم يكن من الصعب رؤية أن من الممكن لهذا كله أن يزيد تعقيد العلاقات الأميركية مع بقية أطراف العالم الغربي كافة.
كان لأي رئيس مؤيد بالكامل لعلاقات تعاون وثيقة عبر الأطلسي بين أميركا وأوروبا الغربية [فيما لو حدث أعلاه] أن يصبح على الفور عديم الفعالية مثل البطة العرجاء، وقد يؤدي أي تحول في الكونغرس نحو مزيد من الانعزالية إلى التشكيك في إمكان استمرار المساعدات العسكرية والاقتصادية التي تخصصها الولايات المتحدة لأوكرانيا، وهي تفوق كل ما قدمته المملكة المتحدة أو الاتحاد الأوروبي بقدر كبير للغاية، وعلاوة على ذلك قد تصل السياسة الأميركية إلى طريق مسدود، أو ربما تصبح غير مستقرة (والأغلب أن الاحتمالين سيتحققان) حتى موعد الانتخابات الرئاسية عام 2024، في وقت يكون فيه تحقيق وحدة غربية متينة أمراً منشوداً.
وفي حين أن مثل هذه الاعتبارات ستؤثر في السياسة الخارجية للولايات المتحدة بشكل عام، إلا أنها قد تؤثر في العلاقات مع المملكة المتحدة أكثر من معظم الدول الأخرى، ويعود ذلك جزئياً إلى أن المملكة المتحدة والولايات المتحدة كانتا من أكثر الدول المشجعة لأوكرانيا، مما يعني أن أي تراجع في الحماسة الأميركية يمكن أن يترك المملكة المتحدة [وحدها في الميدان وبالتالي] عرضة للخطر. لكن السبب في الواقع أكبر من هذا الاعتبار، فمنذ أعلن بوريس جونسون أنه "نفذ الـ ’بريكست‘ (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي)"، صارت للولايات المتحدة مكانة أبرز في آفاق سياسة المملكة المتحدة الخارجية مما كانت عليه من قبل، حتى مع هبوط مكانة الاتحاد الأوروبي في قائمة الأولويات البريطانية.
ربما كانت الحال المشوشة للسياسات التي اتبعناها في الشطر الأكبر من فصلي الصيف والخريف وراء عدم إثارة مزيد من التوجس بين البريطانيين من الأخطار التي قد تتعرض لها المملكة المتحدة جراء النتائج المتوقعة للانتخابات النصفية الأميركية، ومن الضروري أيضاً القول إن السياسة الخارجية للمملكة المتحدة كانت ولا تزال متقلبة مع "المراجعة المتكاملة" [ورقة قدمت لمراجعة السياسات الخارجية والدفاعية والأمنية والخاصة بالتنمية الدولية] التي أنتجت شعار "بريطانيا العالمية"، وقد أعيدت للمراجعة بعد غزو روسيا لأوكرانيا.
لكن في نهاية الأمر لم يحصل الأسوأ، فخلال ساعات من إغلاق صناديق الاقتراع كان من الواضح أن كل الافتراضات المطروحة قبل الانتخابات خاطئة إلى حد بعيد، فيما خلا [نصف] 50 في المئة من طموحات ترمب.
سنرى ما إذا كان سيذهب كما هو متوقع لإلقاء خطابه يوم الثلاثاء المقبل، وماذا سيضمنه إذا فعل.
إذاً لماذا كانت التوقعات خاطئة؟ وبعيداً مما يظهر وكأنه تزايد في إمكان ارتكاب منظمي استطلاعات الرأي للخطأ، كان أحد أسباب ذلك بالتأكيد مدى اليأس في شأن حال السياسة الأميركية الحالية أو الماضية، والتي يشترك فيها الليبراليون على جانبي الأطلسي.
لم يولّد ذلك فقط خطاباً مثيراً للقلق مفاده أن هذه انتخابات من شأنها أن تبني ديمقراطية الولايات المتحدة أو تكسرها، بل أنتج أيضاً ترقباً مذعوراً لعودة وشيكة من جانب ترمب، والحقيقة هي أن مناهضيه في كل مكان صدقوا أسوأ [نتيجة محتملة قد تتحقق بسبب] السياسة الأميركية والناخبين الأميركيين.
وكما لاحظ العديد من مناهضي ترمب أنفسهم في وقت لاحق (وتنفسوا الصعداء لذلك)، يبدو أن الناخبين الأميركيين كانوا أقل استعداداً للاقتناع [بما يقوله] ترمب مما كان متوقعاً، وأكثر ليبرالية (في شأن قضايا مختلفة بما في ذلك حقوق الاجهاض)، وشجع هذا بالتالي على تحقيق أفضل نتيجة للديمقراطيين في أية انتخابات نصفية منذ 20 عاماً، ولذلك فقد يكون الدرس الذي يمكن للمرء أن يستخلصه هو أنه يجب ألا يسقط الديمقراطية الأميركية من حسابه نهائياً، وكان هناك، لا بل لم يكن هناك على الاطلاق، أي خطر من عودة الحرب الأهلية الأميركية.
مرت هذه الانتخابات النصفية بسلام ومن دون تحد كبير، وتبدو الحروب الثقافية هذه الأيام بسيطة مقارنة مع الاضطرابات التي شهدتها ستينيات القرن الماضي، ومع الانتخابات التي تعادل طرفاها عام 2000 ومثلت تهديداً أكبر بكثير لنزاهة الانتخابات الأميركية من أحداث السادس من يناير (كانون الثاني) العام الماضي، والتي نتجت عملياً من فشل الأمن في مبنى "الكابيتول" أكثر من كونها ثمرة محاولة دبرها المهزوم ترمب للقيام بانقلاب.
وعلى أية حال فقد نجا الدستور على رغم كل ما حصل، لكن هناك درساً ثانياً يتمثل في أن مايبدو وكأنه فوز بأي معنى من المعاني يمكن أن يكون خادعاً، وقد تكون نتائج الانتخابات النصفية بمثابة الإثبات لسلامة الديمقراطية الأميركية، غير أنها قد لا تجعل العلاقات الأميركية - البريطانية تسير على نحو أكثر سلاسة مما لو جاءت عكس ذلك، وستظل المشكلات والتوترات قائمة حتى ولو كان بعضها مختلفاً عن تلك التي تم توقعها.
كانت هناك إشارات حتى قبل الانتخابات على أن كلفة دعم أوكرانيا ربما بدأت تثير التساؤلات في واشنطن، وليس فقط بين الجمهوريين الترمبيين (من أنصار ترمب)، فلقد بعث حوالى 30 عضواً ديمقراطياً في مجلس النواب الشهر الماضي برسالة إلى بايدن يدعونه فيها إلى إجراء محادثات مباشرة مع روسيا وإنهاء الحرب من طريق المفاوضات، وتم سحب الرسالة في وقت لاحق احتراماً [لوجوب المحافظة على] وحدة الحزب قبل الانتخابات، لكن هذا النوع من الآراء لم يذهب نهائياً.
وربما يتعرض بايدن لمزيد من الضغط من أجل إجراء تحول في سياسة أوكرانيا في حال فاز الجمهوريون، وتحديداً الترمبيون، بعدد أكبر من المقاعد بنتيجة الانتخابات، ولكن إذا بدأ أولئك الذين يدعون إلى عقد مفاوضات مع الروس بتوحيد صفوفهم، وإذا كانت الولايات المتحدة تستكشف فعلاً إمكان إجراء محادثات، كما تشير بعض الدلائل، فماذا سيحل بالمملكة المتحدة بصفتها أكثر المتحمسين الأوروبيين للنصر في أوكرانيا؟ ربما سيكون خيارها الوحيد حينها القيام بتحول سياسي محرج ومعه خيبة أمل للرئيس زيلينسكي في كييف.
ولم يتضح بعد إلى أي مدى سيكون الرئيس بايدن عبارة عن "بطة عرجاء" لا حول ولا قوة لها، ويعتمد ذلك بصورة جزئية على ما إذا كان الجمهوريون سيفوزون بالأغلبية في مجلس الشيوخ، غير أن أداء الديمقراطيين الذي كان أفضل من المتوقع يوفر لبايدن هامشاً للتنفس وقد ينقذه أيضاً من الضغط الداخلي [الآتي من محازبيه الديمقراطيين] خلال الوقت الراهن، في الأقل، من أجل الحفاظ على آماله المعلنة لترشيح نفسه لولاية ثانية.
ومع هذا فإن فكرة ترشحه الممكن ثانية تخلق شكوكاً جديدة، والنقطة الأولى التي يجب توضيحها هي أن علاقة المملكة المتحدة بالرئيس بايدن لم تكن خالية من المتاعب، فهو نظر إلى الاتحاد الأوروبي بصورة عامة على أنه اللاعب الرئيس في أوروبا التي كان يوماً بوسع المملكة المتحدة أن تلعب فيها دور الجسر [بين واشنطن] وبروكسل، وهو دور طويت الآن صفحته.
وكانت هناك ضغوط من جانب إدارة بايدن على لندن كيلا تفعل شيئاً يمكنه أن يعرض اتفاق السلام في إيرلندا الشمالية إلى الخطر، ولم يكن بايدن حليفاً مفيداً [للندن] في البيت الأبيض كما كانت المملكة المتحدة تأمل.
ثمة نقطة أخرى وهي أن هناك حالياً مزيداً من الخيارات لانتخابات عام 2024 مما كان يمكن أن يحصل لو أن الديمقراطيين تكبدوا خسائر فادحة، فبايدن يمكن أن يترشح مرة ثانية ويفوز، ويمكن لبايدن أن يترشح من جديد ويخسر أمام ترمب، كما يمكن لبايدن أن يقرر عدم الترشح مرة أخرى تاركاً الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام مرشح أصغر سناً وربما أكثر كاريزمية يمكنه أن يفوز.
أو ربما لايترشح ترمب، لأي سبب كان، وفي تلك الحال يمكن أن يكون هناك أيضاً وجه جمهموري جديد، والمرشح المفضل في الوقت الحالي هو رون دي سانتيس الذي يعتبر نسخة أكثر شباباً من ترمب وأقل إثارة للفرقة منه، وهناك كثير من المتغيرات التي يجب على أي حليف صغير، مثل المملكة المتحدة، التعامل معها خلال العامين المقبلين.
وأخيراً وليس آخراً، هناك ما يمكن أن يسمى "عامل ريشي"، باعتبار أن ريشي سوناك عاش في الولايات المتحدة وعمل فيها، فإنه قد يكون سباقاً إلى إقامة علاقات جيدة مع واشنطن، وقد قيل سلفاً إنه استطاع تأمين صفقة لتوريد إمدادت الغاز الطبيعي المسال هذا الشتاء خلال اجتماع عقد في إطار قمة "كوب-27" في مصر، ولكن قد يكون هناك أيضاً مجال لقليل من الحذر. فلا يقتصر الأمر على أن "أميركا سوناك"، أي الساحل الغربي للولايات المتحدة، مختلفة للغاية عن "أميركا بايدن" وهي الشمال الشرقي للبلاد، بل إن الروابط التي تجمع سوناك بالولايات المتحدة (بما في ذلك بيته على شاطئ كاليفورنيا وبطاقته الخضراء السابقة) قد أصبحت من المعوقات له خلال انتخابات زعامة حزب المحافظين.
ويتعين على رئيس الوزراء دائماً أن يأخذ في الاعتبار البعد المحلي في سياساته وكيفية فهم [ناخبيه] للولاء المنقسم [ازدواجية ولائه] وهذه مسألة ربما حري به أن يحسب حسابها.
© The Independent