ذات ليلة كانت الكاتبة كارسون ماكالرز تستمع إلى زوجها ريفز، وهو جندي سابق في الجيش الأميركي، يروي لها حكايات عايشها أو رويت له حول الحياة العسكرية في معسكر فورت بينينغ بولاية جورجيا الجنوبية الأميركية، حيث أمضى خدمته العسكرية. وستقول كارسون لاحقاً إنها ستنسى بسرعة عديداً من تلك الحكايات باستثناء اثنتين لا تعرف أبداً كيف علقتا في ذاكرتها، وإن كانت تعرف لماذا. وعلى الأقل حتى ذات يوم من عام 1939 حين قادتها ظروف ما إلى التجوال في مباني مركز عسكري آخر في المنطقة نفسها.
وهناك أمام مشهد الجنود الشبان الرائحين والغادين أفاقت ذاكرتها على هاتين الحكايتين المتعلقتين بجندي شاب متلصص قبض عليه في فورت براج، إذ تسلل ذات ليلة إلى مهجع مخصص للضباط المتزوجين يسمح لهم فيه باستقبال زوجاتهم، وراح يتلصص على حميمية ضابط وزوجته، دون أن يدرك هو نفسه أول الأمر ما إذا كان من يجتذبه الزوج أو الزوجة. وستؤكد الكاتبة هنا أنه ليس لهاتين الحكايتين أي علاقة مباشرة بروايتها، لكنها استلهمت المناخ لرسم لوحة خلفية لأحداث "انعكاسات في عين ذهبية"، روايتها التي لئن كانت لا تصل في شهرتها إلى عملها الأشهر "القلب صياد وحيد"، فإنها على الأقل وجدت طريقها إلى الاقتباس السينمائي وليس في هوليوود وحدها، بل في بلدان عديدة أخرى، وأحياناً من دون أن يشير المقتبسون إلى أنها من كتابة كارسون ماكالرز.
أما في هوليوود فإن الفيلم الذي يحمل العنوان نفسه أضفى على الرواية هالة لافتة، ربما لأن كان من بطولة إليزابيث تايلور ومارلون براندو وكان الاثنان في أوج شهرتهما حينها، ونشرت الرواية قبل الفيلم بما لا يقل عن عقدين، أي في عام 1939 مسلسلة قبل أن تنشر مجموعة في كتاب بعد ذلك بعام وتلاقي نقداً قاسياً، إذ قورنت بأعمال ناجحة أخرى للكاتبة، وربما نتج ذلك النقد عن سوء فهم للرواية.
اندماج
في أحاديثها اللاحقة عن روايتها هذه، والتي كتبتها خلال إقامتها في نورث كارولاينا لفترة. تقول الكاتبة إنها "خلال الكتابة كنت أعيش في حالة اندماج مع شخصيات الرواية على عادتي إذ دائماً أكون منغمسة في تلك الشخصيات إلى درجة أشعر معها أن دوافعها هي دوافعي. فمثلاً عندما أكتب عن شخصية لص أصبح بدوري لصة، وحين أكتب عن مدرسة أصبح مدرسة. وهنا مثلاً عندما كتبت عن شخصية الكابتن بندرتون، كنت أشعر أنني أصبحت على شاكلته رجلاً مثلياً. وأعرف أنني في هذا أسير على خطى الشاعر اللاتيني تيرينس الذي قال (لا يوجد إنسان غريب عني)".
تدور أحداث الرواية في قاعدة عسكرية بولاية جورجيا الأميركية. ومن حول المجند الشاب إلجي ويليامز الذي يعيش نوعاً من حالة انطوائية وتبدو شخصيته محاطة بالخفايا مليئة بالأسرار والرغبات الغامضة. وهو لانطوائيته لم يغضبه أنه بعد أن خدم في القاعدة سنتين ها هو مكلف الآن بأعمال غير متعبة يؤديها في الفناء الخلفي لمنزل النقيب بيندرتون. وإذ يحدث له ذات يوم أن يشاهد زوجة النقيب عارية يصبح مهووساً بها، غير أن الحقيقة التي لن يلبث أن يدركها ويليامز إنما هي أنه من خلال انجذابه إلى الزوجة ليونورا كان في الواقع منجذباً إلى النقيب نفسه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن هنا تدور الصراعات في داخله من حول هويته الجنسية الخاصة التي يكشف عنها له ذلك الانجذاب. وهنا بالتحديد تقوم لعبة مرايا بين الكاتبة وبطلها هذا، هي التي لم تكف طوال حياتها القصيرة عن التساؤل حول هويتها الجنسية الخاصة بها، مستخدمة أبطال رواياتها وسيلة لذلك، بالتالي لن يستغرب أحد إن كانت كارسون استخدمت هذه المرة واحدة من أجرأ رواياتها على أي حال وشاباً من عمرها لتطرح من خلالهما سؤال هويتها. ولا ننسى هنا أن كارسون ماكالرز إنما كانت في كل رواياتها تكاد لا تتحدث إلا عن ذاتها وإن كانت بطريقة مواربة على الدوام، وغالباً عن طريق شخصيات ذكورية.
سؤال محير
والحقيقة أن هذا السؤال شغل بال هذه الكاتبة الجنوبية التي جايلت جنوبيين كبيرين آخرين في عالم الأدب كان هاجس الهوية الجنسية هاجسهما أيضاً (تنيسي ويليامز وترومان كابوتي) إلى حد أنهما طرحا السؤال، ودائماً من خلال أبطالهما وعلاقتهما بأولئك الأبطال. أما بالنسبة إلى كارسون التي بالكاد يعرف الناظر إلى صورتها، كما بالكاد يعرف قارئ أدبها، ما إذا كانت أنثى أو ذكراً. وتبدأ حكايتها على أي حال منذ ولادتها، حيث لم يكن صدفة أن يطلق عليها اسم كارسون الذي سيتبين لها لاحقاً أنه آتٍ من تحريف بسيط لكلمة "غارسون" الفرنسية التي تعني "صبي".
ومن الواضح أن اكتشاف تلك الصبية التي شغفت بالفن منذ سنواتها المبكرة لمعنى اسمها، سيلعب دوراً كبيراً في حياتها، لا سيما أنها آثرت منذ وقت مبكر أن تقص شعرها قصة "رجالية" وأن تلعب مع الصبيان مرتدية ملابسهم. وهي من ناحية ثانية ستعترف لاحقاً أنها إنما صورت نفسها دائماً في رواياتها عبر كل الشخصيات المعقدة وذات الإشكالية، بل إنها كانت ترى نفسها منعكسة في شخصيتين من واقع حياتها على الأقل، أولهما الشاب ريفز كاكالرز الذي سيصبح زوجها لاحقاً، والثانية صديقتها المبدعة آن ماري شوارتزبارخ التي كانت، وظلت دائماً أقرب صديقاتها إلى ذاتها إلى درجة أنها أهدت إليها روايتها "انعكاسات في عين ذهبية" حين نشرتها.
وكانت كارسون تقول دائماً إنها تعرف تماماً أنها، في الحياة العامة، الأنا/ الآخر لزوجها من ناحية ولآن ماري من ناحية ثانية.
أبعد من البعد الذاتي
غير أنه سيكون من عدم الإنصاف في حق الرواية وكاتبتها أن نفترض أن أهميتها تقوم في ذلك البعد الذاتي. فـ"انعكاسات في عين ذهبية"، والتي يرى عدد من كبار مؤرخي أدب الجنوب الأميركي أنها متميزة بجرأة نادرة، لكونها واحدة من أربع روايات "جنوبية" تناولت وحدها موضوع المثلية الجنسية على مثل ذلك الوضوح وصدرت خلال النصف الأول من القرن الـ20. وكتاب الروايات الأخرى هم غور فيدال ودجونا بارنز وترومان كابوتي، لكن لئن كانت رواية كارسون ماكالرز قد أثارت صخباً سلبياً كبيراً لولاية جورجيا من ناحية، وللكاتبة نفسها من ناحية أخرى، فإنما كان ذلك لسببين مختلفين. فمن الناحية الأولى لم يكن صعباً على متابعي الحياة العسكرية والحياة العامة في جورجيا أن يتكهنوا بهوية الشخصيات التي تختفي خلف الأسماء المستعارة في الرواية، مما أثار فضيحة اجتماعية هائلة، ومن الناحية الثانية أغضبت الرواية وتعاطف كاتبتها مع الأفارقة الأميركيين فيها، غلاة المتطرفين البيض، وعلى رأسهم رجال عصابات "كو كلاكس كلان" الذين أخذوا يرعدون ويزبدون ويطلقون التهديد. وبخاصة أن كثراً من الناس تمكنوا بالفعل ولا سيما بعد نشر الرواية في عام 1941 من التكهن بالأشخاص الحقيقيين الذين استلهمتهم الكاتبة، وكان ذلك في زمن بدأت أميركا تستعد فيه لخوض الحرب العالمية الثانية ضد قوات المحور، مما جعل سمعة الجنود وصحتهم النفسية على المحك وجعل الأمر لا يستقيم مع الكتابة عن "فضائح جنسية تطاول حياة أولئك الشبان".
وهكذا، ساد بعض الذعر الأوساط العائلية والاجتماعية في كولومبوس، وفي جورجيا عموماً كما في فورت بينينغ، حيث تكهن الناس بمصدر قصة ماكالرز وإلى كونها "امرأة وقحة" جوبهت وفقاً للمؤلف الباحث، مايكل برونسكي، بالاتهام بأنها "تتناول بشكل يفتقر إلى الحياء موضوعات المثلية الجنسية والسادية والتلصص والفيتشية".
أما بالنسبة إلى موقع "انعكاسات في عين ذهبية" في سياق نتاج هذه الكاتبة، فإنها تبدو الأجرأ والأكثر واقعية بين روايات عرفت كيف تشغل مكانة مشاكسة ومميزة في أدب الجنوب الأميركي. وإلى جانب "القلب صيد وحيد" اشتهرت كارسون ماكالرز أيضاً بـ"أنشودة المقهى الحزين" و"الساعة البلا عقارب" و"فرانكي آدمز"، ومعظمها تحول إلى أفلام سينمائية خلال العقود التالية لظهورها.