كانت ظاهرة الابتهاج الذي عبر عنه كثيرون في لحظة الإعلان عن مجلس القيادة الرئاسي، والقول إنه يشكل علامة فارقة في تاريخ الحرب اليمنية مبالغاً فيها، ولم يكن الأمر متعلقاً بحقائق يمكن الاعتماد عليها، بل لأن دولتي التحالف الرئيستين باركتا الإعلان فظن هؤلاء أن انفراجاً سريعاً صار في الأفق، بما يؤسس لاستدامة الهدنة التي أعلن الرئيس عبدربه منصور هادي الاستجابة لها في الثاني من أبريل (نيسان) 2022 (قبل خمسة أيام من ابتعاده من المشهد كلية).
التأمل في المشهد الذي كنت حاضراً فيه عند الإعلان رسمياً عن قيام "المجلس" والكيانات الثلاثة المرافقة، أوضح أن الأمر تم تدبيره وإخراجه إلى العلن على عجل برغبة إقليمية ودولية كانت مصرة على التخلص من الرئيس هادي، وترى فيه معرقلاً لأي إصلاحات سياسية ومالية وإدارية تسهم في فتح أبواب الحل ووقف الحرب، وأقول هذا لأن النقاشات التي دارت داخل لجنة "المحور السياسي" في المشاورات اليمنية برعاية "مجلس التعاون لدول الخليج العربية"، التي جرت في الرياض من الثالث حتى السابع أبريل 2022، تركزت على حيوية إصلاح مؤسسة الرئاسة ووضعت بعض الخيارات، لكنها لم تصل إلى حد التفكير في إخراج هادي من المشهد نهائياً.
ولكن القوى الحزبية وبعض الشخصيات اليمنية وافقت فجر السابع من أبريل 2022 على ضرورة إقصاء هادي، واستبداله بمجلس من ثمانية أعضاء واقتنع الرجل، حسب الإعلان الذي قرأ مقدمته بنفسه، وقرر فيه التنازل عن صلاحياته الدستورية دونما رجعة.
وبعد مرور أكثر من سبعة أشهر أضحى من المؤكد صعوبة أن تجد التركيبة حظاً في النجاح، لأنها ضمت مجموعة من الذين يجاهدون لتحقيق أهداف متناقضة ولا يجمعها إلا الخصومة مع الحوثيين، وهذا وإن كان هدفاً مشروعاً لهم، لكنه لا يكفي للسير بأعمال "المجلس" نحو تحقيق أهداف وطنية جامعة.
في الوقت الذي يتزايد حال الارتباك الذي يعصف بصفوف "المجلس"، وعدم قدرته على انتظام انعقاد جلساته، وغموض طريقة عمله ومهمات الأعضاء وكيفية اتخاذ القرارات، وعدم التوصل إلى إقرار لائحة لتسيير أعماله بصورة طبيعية، يواصل الحوثيون في صنعاء اتخاذ إجراءات أقل ما يمكن أن أصفها به أنها انتهاك متعمد لحقوق الناس وخصوصيتهم، وتعسف في استخدام السلطة لفرض أسلوب حياة لم يألفه اليمنيون، وتجعل من توجيهات قائدهم عبدالملك الحوثي ما يتجاوز كل النصوص الدستورية وقوانين الخدمة المدنية والوظيفة العامة، ويصبح معها كل عامل في الدولة مشتبه في سلوكياته ونزاهته ما لم يلتزم (مدونة السلوك الوظيفي وأخلاقيات العمل في وحدات الخدمة العامة) ثم توقيع كل موظف على استلامها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صحيح أن عدداً من الدول تستخدم "المدونة" لضبط أخلاقيات العمل والالتزام بسلوكيات الوظيفة العامة، فالسعودية والأردن وغيرهما من الدول العربية أصدرت بها قوانين معلنة، لكن الاعتراض على "المدونة" ينصب في إحدى جزئياته على المرجعيات التي استندت إليها، ومنها على سبيل المثال غموض الصفة الرسمية لقائد جماعة الحوثيين عبدالملك الحوثي، فهو في نظر الغالبية العظمى من المواطنين مجرد قائد حزبي لجماعة منظمة قفزت إلى الحكم بغير السبل الدستورية وضداً للإجماع الشعبي، لكنه بأي حال من الأحوال ليس مرجعية قانونية للعمل الحكومي، ولا يجوز أن تكون له أي سلطة خارجة عن نصوص في الدستور وقوانين البلد، وعلى رغم الإصرار على أنه قائد لما يطلق عليه أنصاره بـ "ثورة 21 سبتمبر" (أيلول)، فإن ذلك لا يجوز ولا يقبل في إطار عمل مؤسسات الدولة القائمة.
إن إصرار جماعة أنصار الله الحوثية على فرض أفكارها على المجتمع، وجعل قناعاتها مسيرة له، قد يكون ممكناً الآن لأنها تحكم بقوة الأمر الواقع وليس برضا الناس عنها وعن أساليب إداراتها للرقعة الجغرافية الخاضعة لها، لكنه أمر يجب أن تفهم قياداتها أن ديمومته غير ممكنة لأنه لا يحظى بالقبول عند المواطنين، كما أنه مناقض لحركة التاريخ والطبيعة وسيكون من السذاجة السياسية تصور أن التحولات المتعسفة التي تجريها في طرق إدارة البلاد وفرض رؤاها الخاصة، ستمنحها مشروعية الحكم الذي وصلت إليه بالقوة فقط.
قبل أيام، أرسل لي صديق من صنعاء صورة تعميم حول "ضوابط" الرحلات المدرسية، وكان واضحاً أن الذي صاغ التوجيه وضع نصوصه بطريقة تجعل من الرحلة يوماً كئيباً، إذ نص في إحدى فقراته على "عدم فتح الأغاني في الباص أو بعد النزول منه، وعدم التحدث والضحك بصوت عال، والالتزام بالحشمة بما يليق بهويتنا الإيمانية"... تذكرت وأنا أطالع التعميم رواية جورج أورويل 1984، وكيف يفرض نظام نفسه رقيباً صارماً على أخلاق الناس وسلوكهم، بينما الدافع الحقيقي هو استلاب حرياتهم وفرض نمط من الحياة الاجتماعية لم يعهده المواطن، ومنع التنوع الفكري والفني وحجب كل صوت معارض أو حتى ناقد.
سيبقى اليمنيون حيارى بين نموذجين، أحدهما يمارس القوة لتمرير مشروعه والآخر عاجز عن جذب الناس إليه، والمشترك الوحيد بينهما هو عدم اقتناع الناس بأي منهما، وابتعادهما عن هموم المواطنين وعدم قدرتهما على تلبية احتياجات الناس، وفي ظل وضع كهذا يصبح من غير الأخلاقي ومن غير الوطني عدم الدعوة إلى ابتكار مسارات مختلفة، تبحث في حقوق الناس وكيفية تلبيتها، ومن المؤسف حقاً أن هذا الأمر هو أبعد ما يمكن من اهتمامات الطرفين، اللذين يتباريان في الحشد الإعلامي مدفوع الأجر.