أطلت الخلافات داخل هيئة الانتخابات التونسية برأسها مجدداً قبل أيام من إجراء الاستحقاق التشريعي المبكر وسط انتقادات لاذعة تواجهها الهيئة بشأن خياراتها والإجراءات التي أقرتها لإنجاح الانتخابات المقرر تنظيمها في 17 ديسمبر (كانون الأول) المقبل.
وبعد عام على إطاحة الرئيس قيس سعيد، بالبرلمان المنحل والحكومة السابقة برئاسة هشام المشيشي وكذلك هيئة الانتخابات بتركيبتها السابقة، لا تزال الهيئة الحالية في مرمى اتهامات المعارضة بأنها "هيئة الرئيس"، لكن دائرة خصومها اتسعت لتشمل حتى أحزاب مؤيدة لسعيّد.
وسبق لـ"حركة الشعب" (قومية، ناصرية) المؤيدة للرئيس التونسي، أن انتقدت هيئة الانتخابات معتبرةً أنها تتحمل مسؤولية الصعوبات التي واجهها المرشحون بخاصة في الخارج.
وكانت منظمة "مراقبون"، غير الحكومية، قد انتقدت أيضاً الثلاثاء 15 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، هيئة الانتخابات قائلةً في بيان إن "مظاهر القصور والارتباك تعددت على المشرفين والمتدخلين المباشرين في العملية الانتخابية بخاصة الهيئة المشرفة على الانتخابات".
انقسامات داخلية
كما ساهمت الاتهامات التي وجهها رئيس "هيئة الانتخابات"، فاروق بوعسكر، إلى عضو الهيئة المُقال، سامي بن سلامة، بشن حملة "انتقامية" ضد الهيئة، في إعادة الخلافات داخل الهيئة إلى الواجهة بقوة.
ولفت بوعسكر في تصريحات نقلتها عنه وسائل إعلام محلية إلى أن "هذا الشخص يقوم بعملية انتقام يومية من هيئة الانتخابات وهناك قضايا عدة منشورة ضده".
واعتبر بوعسكر أن الانتقادات الموجهة لـ"هيئة الانتخابات"، صادرة عن "شخصيات معروفة بانتماءاتها السياسية أوّلت وروّجت لأكاذيب ومغالطات ولكن للأسف في تونس اختلط الحابل بالنابل"، مشدداً على أن أي قرار تنشره الهيئة إلا ويجابَه بموجة شرسة من الاتهامات ذات الخلفية السياسية الواضحة.
وجاءت تصريحات بوعسكر في أعقاب دعوات أطلقها بن سلامة، الذي يزعم أنه ما زال عضواً في الهيئة، إلى حل مجلس الهيئة من قبل الرئيس سعيد الذي لزم الصمت تجاه الخلافات داخل هيئة الانتخابات على رغم أنها باتت سلاحاً جديداً بيد معارضيه.
ويأتي ذلك في وقت تستعد تونس لانتخابات برلمانية مبكرة، هي المحطة الثانية من خريطة طريق أطلقها سعيد في ديسمبر 2021، بعد استفتاء شعبي على الدستور في يوليو (تموز) الماضي واجه مقاطعة واسعة من القوى السياسية.
وقالت الصحافية التونسية جيهان علوان، إنه "لا يمكن الحديث عن حملة ممنهجة ضد الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، بل أن الهيئة تقود حملة ضد نفسها ومن واجهات مختلفة منذ الاستفتاء من خلال العديد من النقاط أهمها التصريحات المتضاربة لأعضائها والخطأ الجسيم الذي ارتُكب عند الإعلان عن الاستفتاء، ما جعل عدداً كبيراً من التونسيين يشكك في صحة النتائج".
وتابعت علوان أن "الانقسامات الداخلية في الهيئة أيضاً ساهمت في إظهار العديد من مَواطن ضعفها من الداخل، علاوةً على الجدل الواسع الذي تسببت به المراسيم والقرارات التي نشرتها أخيراً في علاقة بطريقة احتساب نتائج الاستفتاء بعد 4 أشهر على إجرائه وأيضاً قواعد الانتخابات التشريعية بعد انتهاء آجال تقديم الترشحات ما يفتح باب الطعون في مختلف المحطات التي أشرفت عليها هذه الهيئة".
وشددت على أنه "لا يمكن الحديث عن حملة ممنهجة ضد الهيئة لأن المسار الانتخابي أصلاً يأتي في ظرف يتسم بالانقسام السياسي في تونس وهو ظرف استثنائي، الانقسامات السياسية التي تعرفها تونس اليوم لم تشهدها الساحة في العشر سنوات الأخيرة بين مَن يطالب بإسقاط مسار 25 يوليو وبين مَن يدعمونه، بالتالي كان متوقعاً أن تكون الهيئة في مرمى الاتهامات بخاصة من قبل الأحزاب المعارضة التي ترفض المسار برمته وتعتبر الهيئة منصّبة من الرئيس".
واستنتجت علوان أن "الهيئة اليوم في الواقع نجدها في مرمى اتهامات حتى الأحزاب المؤيدة لمسار 25 يوليو والتي شاركت بترشحات للانتخابات التشريعية المقبلة بخاصة، وتتمحور اتهامات هذه الأحزاب حول الخروقات التي شهدتها عملية جمع التزكيات وغيرها".
وكان سعيد قد عدّل القانون الانتخابي في وقت سابق في إطار مساعيه لإعادة تشكيل المشهد السياسي، وأصبح القانون الجديد ينص على ضرورة أن يجمع المرشح 400 تزكية بالتناصف بين النساء والرجال في خطوة واجهت انتقادات حادة.
وتقاطع غالبية القوى السياسية في تونس الانتخابات المقرر تنظيمها في ديسمبر المقبل، وسبق للرئيس سعيد أن وجه اتهامات لأطراف لم يسمها بمحاولة "الاندساس" في الاستحقاق المرتقب، في إشارة إلى أن شخصيات من المعارضة دخلت بالفعل السباق من دون أن تكشف عن انتمائها السياسي.
ودعا سعيد الأحد الماضي، أجهزة الدولة إلى النظر في بعض المرشحين للانتخابات قائلاً في كلمة بمناسبة "يوم الشجرة"، إن "على الدولة ومؤسساتها النظر في عدد من الترشحات التي تم التقدم بها من طرف عدد من الملاحقين من قبل العدالة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
توقعات بمشاركة ضعيفة
الانقسامات التي طغت على عمل "هيئة الانتخابات" منذ أشهر وإعلان قوى سياسية بارزة مقاطعة الاستحقاق النيابي أثار تساؤلات جدية حول نسب المشاركة وتحدي كسر عزوف التونسيين عن التوجه إلى صناديق الاقتراع بخاصة بعد تسجيل نسبة مشاركة ضعيفة في الاستفتاء على الدستور.
وسجل الاستفتاء مشاركة 27.5 في المئة فقط من الناخبين، وافق 94 في المئة منهم على الدستور الجديد الذي دخل حيّز التنفيذ في وقت سابق، وهو دستور أعاد تونس إلى نظام الحكم الرئاسي بعد عشر سنوات من اعتماد نظام شبه برلماني يقول منتقدوه إنه كرس بشكل كبير حالة من التشرذم السياسي.
وقال عضو هيئة الانتخابات السابق، زكي الرحموني إن "الهيئة الحالية عديمة الكفاءة والمسار الانتخابي مهدد اليوم بسبب الأخطاء التي يتم ارتكابها ومَن ينبّه الهيئة يتم وضعه في دائرة المعادين لها، وهذه الهيئة بصدد الإضرار بالمسار الانتخابي".
وأردف الرحموني أن "هناك مؤشرات على أن المشاركة ستكون ضعيفة، من بينها انعدام المنافسة في بعض الدوائر، لذلك وجدنا مرشحاً وحيداً في بعض الدوائر الانتخابية، والانتخابات غير تعددية ومن الحكمة أن يقوم الرئيس سعيد بوقفة تأمل ويراجع المسار الحالي برمته".
وخلُص إلى أن "هناك ثمناً سياسياً سيُدفَع بسبب هيئة الانتخابات والخروقات التي يعرفها المسار الحالي، ولا يوجد مؤشر على أن الرئيس سعيد سيتراجع باعتبار أن له حساباته الخاصة ومنعزل عن الواقع السياسي على رغم أنه إلى الآن لسنا ضده بل بالعكس بودنا أن ينجح لكنه بصدد التسجيل في مرماه".
ويقود الرئيس سعيد منذ يوليو (تموز) عام 2021 أغلب الصلاحيات الدستورية في البلاد، بعدما أطاح بالبرلمان الذي هيمنت عليه حركة النهضة، الذراع السياسية لتنظيم "الإخوان المسلمين" في تونس، والحكومة السابقة برئاسة هشام المشيشي.
ويواجه سعيد انتقادات متصاعدة من قبل خصومه بمحاولة التأسيس لـ "ديكتاتورية جديدة" وهي تُهم ينفيها الرجل الذي يَعِد بحماية الحقوق والحريات التي تُعتبر المكسب النادر من انتفاضة الرابع عشر من يناير (كانون الثاني) 2011.
وعلى رغم وعوده فإن سعيد بدا وكأنه يتجه إلى المزيد من العزلة عن بقية النخب السياسية حيث باتت أحزاب موالية توجه انتقادات له وللحكومة التي شكلها بقيادة رئيسة الوزراء، نجلاء بودن، وتجابه تحديات اقتصادية وسياسية واجتماعية في بلد شهد ركوداً اقتصادياً منذ عام 2011 بسبب تعطل سلاسل الإنتاج إثر احتجاجات عشوائية لعاطلين من العمل وغيرها.
وستشهد الأيام المقبلة على الأرجح تصاعد السجالات بشأن الانتخابات بخاصة بعد الدعوات الأخيرة إلى تأجيلها لا سيما وأنها صدرت عن الاتحاد العام التونسي للشغل، المركزية النقابية ذات الثقل الشعبي والتاريخي القوي في البلاد.