طرحت السنوات الماضية تحدياً أخلاقياً لبلدان وسط أفريقيا، بعد انسحاب الغطاء الدولي وقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة وتشكيل القوة العسكرية الإقليمية المكونة من دول مجموعة شرق أفريقيا، وكشفت عن عدم مقدرتها على مفاجأة روح الحروب الأهلية التي ظلت ترزح تحت أنقاضها. ولم يفلح توقيع عدد من اتفاقيات السلام والمصالحة في كل الأحوال، إذ إن السائد كان هو النكوص عنها والعودة إلى العنف مرة أخرى. وإن كانت نجحت إلى حد ما في رواندا، منذ انتهاء الإبادة الجماعية في عام 1994، فإنها فشلت في غيرها مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية التي شهدت حربين أهليتين الأولى من 1993 إلى 1996 متأثرة بالإبادة الجماعية في رواندا، والثانية من 1997 إلى 1999. وعلى رغم انتهاء الحرب الأهلية هناك، فإنها خلفت أكثر من 100 حركة متمردة، برزت منها ثلاث هي "تحالف القوى الديمقراطية لتحرير الكونغو" و"التجمع من أجل الديمقراطية الكونغولية" و"المؤتمر الوطني للدفاع عن الشعب"، ونتجت عن تحالفها حركة "23 مارس (آذار)" التي تعرف باسم "الجيش الثوري الكونغولي".
تقدمت حركة "23 مارس" المعروفة اختصاراً باسم "أم 23" إلى شرق البلاد، ونشرت قواتها في مقاطعة كيفو. ومن عاصمة المقاطعة غوما التي تعد من أكبر مدن الجمهورية، استولت الحركة على مساحات شاسعة من الأراضي وأججت التوتر على طول بحيرة كيفو في المنطقة. وشنت هجماتها على القوات الأمنية بالقرب من القاعدة العسكرية رومانجابو التي تشكل لها رمزية تاريخية إذ كانت المقر الرئيس للمتمردين بعد استيلائهم عليها خلال موجة التمرد في عامي 2012 و2013.
وقود النزاعات
أثر التهجير القسري من جهة والنزوح من جهة أخرى، وهما ظاهرتان نتجتا عن الإبادة الإثنية في رواندا وبوروندي، في الوضع في الكونغو الديمقراطية منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي، تداخلت الإثنيات وصراعها على حيازة الأراضي، مما أثار نزعات على رغم توقف الحرب رسمياً، وأصبحت الإثنيات وقود هذه النزاعات تستخدمها الحركات المتمردة من أجل التقسيم الديموغرافي الذي تتصوره، بحسب تركز الثروات المعدنية في مناطق معينة ومنها شمال كيفو الغنية بالذهب والنفط والقصدير والكوبالت. ولم يسد رصيد الثروات المعدنية الهائلة عوز البلاد المصنفة من أكثر البلاد فقراً في العالم بسبب هذه النزاعات، إضافة إلى الاضطراب السياسي وتفشي الفساد. وتنشط الجماعات المتمردة إضافة إلى شبكات وثيقة الصلة بالجيش الكونغولي في نشاط تجارة وتهريب الذهب إلى دول الجوار.
تكونت حركة "23 مارس" من "اتحاد الوطنيين الكونغوليين"، وهي جماعة سياسية بميليشيا تابعة لها سيطرت على منطقة شمال شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، أسسها توماس لوبانغا في عام 2001، ثم تزعمها بوسكو نتاغاندا، وفي الفترة من 2002 إلى 2005، قالت تقارير "مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان" إن قوات هذه الجماعة ارتكبت كثيراً من الانتهاكات ضد قوات حفظ السلام ومعارضين سياسيين. تمكنت حركة "23 مارس" التي تهيمن عليها إثنية التوتسي، وأسستها عام 2006 من الفوز بثلاثة مقاعد في الانتخابات العامة لذلك العام، إلا أن خلافاتها مع الحكومة لم تنته. وبعد توقيع اتفاق سلام في 23 مارس 2009 اتخذت الحركة من تاريخ الاتفاقية اسماً لها، وكان الاتفاق ينص على دمج الحركة في الجيش الكونغولي، ولكن الحركة ركزت وجودها في مناطق النفط والذهب، ونشبت الخلافات بينها وبين الجيش مرة أخرى، واتهمت كينشاسا بعدم احترام الاتفاق حول تسريح مقاتليها وإعادة دمجهم. وعلى أثرها اتهمت الحكومة الجنرال بوسكو نتاغاندا زعيم الحركة بقيادة تمرد ضدها وزعزعة استقرار البلاد. مما دفع بجنوده المدمجين في الجيش الكونغولي إلى قيادة انقلاب مدعوم من رواندا، وشن هجمات عدة ضد القوات الحكومية من منطقة روتشورو وبوناغانا على الحدود مع أوغندا في يونيو (حزيران) 2012.
خلافات الجوار
بعد عودة حركة "23 مارس" في أواخر عام 2021 إلى حمل السلاح، وتمكنها من اجتياح القوات الكونغولية المدعومة من الأمم المتحدة، نشبت خلافات بين الكونغو الديمقراطية ورواندا. وتنامت الخلافات في عام 2022، فدعا الرئيس الكونغولي فيليكس تشيسكيدي مواطني بلاده إلى التجنيد ضد "العدوان الرواندي" في إقليم روتشورو. وقال تشيسكيدي إن رواندا وضعت نصب عينيها "مصادرة معادننا". وكان قد طرد السفير الرواندي فنسنت كاريغا، وقطعت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، متهماً رواندا بتنفيذ طموحات توسعية برعاية قوى عظمى مثل الولايات المتحدة وبريطانيا. واستند تشيسكيدي إلى ما ورد في تقرير لخبراء الأمم المتحدة بأن لقطات بطائرة مسيرة، كشفت عن وجود أفراد يرتدون زي الجيش الرواندي في معسكرات حركة "23 مارس". ورفضت رواندا هذا الاتهام، وقالت إن طائرة مقاتلة كونغولية انتهكت المجال الجوي الرواندي، عندما هبطت لفترة وجيزة في مطار روبافو غرب رواندا على الحدود الكونغولية، كما وجهت اتهاماً لكينشاسا بالتواطؤ مع "حركة تمرد الهوتو" المتمركزة في الكونغو.
وأوردت الحكومة الكونغولية في بيانها أن "الدعم الأجنبي قد يكون مسؤولاً عن حصول مقاتلي حركة 23 مارس على إمدادات ثابتة من الذخيرة والقدرة على إطلاق قذائف الهاون لساعات عدة متتالية". ولكن حركة "23 مارس" ظلت ترفض تقارير "مفوضية حقوق الإنسان"، ونفت قتلها 29 مدنياً في روفومو شرق الكونغو الديمقراطية، بل اتهمت جماعة مسلحة من الهوتو "القوات الديمقراطية لتحرير رواندا" وهي جماعة متمردة على الحكومة الرواندية تنشط في الكونغو، ومتحالفة مع جماعة مسلحة كونغولية من إثنية الهوتو وهي"نياتورا" بتنفيذ العملية.
تأثير الحراك
بعد إنعاش تجمع دول شرق أفريقيا لتوسيع وتعميق التعاون في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وإقامة كتلة اقتصادية إقليمية كبيرة ذات تأثير اقتصادي في المنطقة، فتحت الكونغو الديمقراطية شرقها لأسواق جديدة ومستثمرين من كينيا وتنزانيا وجنوب السودان. هذا الوضع التكاملي الذي خطط لربط مدينة غوما في شرق الكونغو الديمقراطية بالعاصمة الأوغندية كمبالا، سيتجاوز الجارة رواندا ويحد من هيمنتها على طريق التجارة الذي كان يربط كينشاسا بشرق أفريقيا. لذا قامت رواندا بإغلاق معبر جاتونا الحدودي منذ عام 2019، مما عطل التجارة الرسمية للدولة، وفاقم نشاط التهريب عبر منافذ أخرى.
إلى جانب العاصمة كينشاسا، هناك مدينتان كبيرتان هما لبومباشي ومبوجي مايي تنشطان في التعدين وتصدير خام النفط وغيره خصوصاً إلى الصين، التي تستحوذ على نحو 50 في المئة من البضائع المصدرة من جمهورية الكونغو الديمقراطية.
وإضافة إلى تأثير حراك الجماعات المتمردة على الوضع السياسي والاقتصادي والتصدير عبر دول الجوار، فإن الخلافات بين رؤساء هذه الدول ألقت بظلالها أيضاً على مجمل الأوضاع. فبينما يوجد تقارب ملحوظ بين الرئيسين الكونغولي فيليكس تشيسكيدي، والأوغندي يوري موسيفيني، فإن هناك عدم توافق ملحوظ بين الرئيسين الأوغندي والرواندي على رغم علاقتهما السابقة كرفيقي سلاح في حقبة الثمانينيات، إلا أن اتهاماتهما المتبادلة بشأن دعمهما الجماعات المنشقة في بلديهما باعدت بينهما، مما أثر من ناحية أخرى على علاقة كاغامي بتشيسكيدي.
مع ذلك، يصر الرئيس الكونغولي على المسار العسكري، إذ فرض حالة حصار في منطقة إيتوري وكيفو الشمالية، ووضع المقاطعتين تحت السيطرة العسكرية، ودعا القوات الأوغندية والبوروندية إلى العمل معه، بعد تفجير المتمردين في يومي 24 و25 مايو (أيار).
تداعيات وشيكة
تعيد أحداث شرق الكونغو الديمقراطية إلى واجهة العلاقات الإقليمية الخلافات وحالة عدم الاستقرار خصوصاً في منطقة وسط أفريقيا، ويترتب عليها تداعيات عدة. أولاً، إذا ما واصلت القوات الكونغولية حصار الحركة عسكرياً، فسينتج عنه آثار أمنية وخيمة خصوصاً أن تنظيم "داعش" بدأ يوجه هجمات متفرقة في شرق الكونغو، مما ينذر بإمكانية حدوث تحالف بين حركة "23 مارس" والتنظيم الذي يلوح بسعيه لفرض سيطرته على الإقليم، بعد الانسحاب الدولي وتناقص عدد قوات حفظ السلام، واختلاف الدول الأفريقية حول عدد القوات البديلة. وما يرجح هذا الاحتمال هو أن الحركة بدأت تبني أفكار راديكالية، ولديها استعداد لتشكيل تحالف مع تنظيمات متشددة، خصوصاً إذا ما وفرت لها الدعم اللازم لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية. بينما يستفيد "داعش" من التمدد والتوغل داخل الأراضي الكونغولية لتعزيز وجوده في وسط أفريقيا ليلتحم مع قواته في منطقة الساحل وتعويض الخسائر بعد هزيمته في مناطق أخرى، ويطيل بقاءه باستنزاف مزيد من الثروات، ويعرقل جهود مكافحة الإرهاب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ثانياً، فضلاً عن العلاقات غير المستقرة بين الدول الثلاث، فإن التنافس بين أوغندا ورواندا في الكونغو الديمقراطية، قد يمتد أثره ليخلق كل طرف تحالفاً جديداً مع بقية دول الجوار، مدفوعاً بانعدام الثقة. فقد شنت الكونغو الديمقراطية وأوغندا معاً العملية العسكرية المشتركة لتعقب "القوات الديمقراطية المتحالفة" وهي حركة أوغندية إسلامية مسلحة من المتمردين المنتسبين إلى تنظيم "داعش"، إلى داخل الحدود الكونغولية وتعاون الجيش الكونغولي مع القوات الأوغندية لمحاربة الجماعة. احتجت رواندا على هذا التعاون بأن تدخل أوغندا يتعدى على مجال اهتمامها في شرق الكونغو.
ثالثاً، مع إصرار حركة "23 مارس" على وجودها في شرق الكونغو متمركزة حول الموارد المعدنية ومستقوية بإثنية التوتسي، وفي ظل استنجاد الحكومة الكونغولية بحركات متمردة على الحكومة الرواندية تنتمي للهوتو، فإن من شأن هذا تعزيز الحركات السياسية العسكرية في الإقليم. وقد يمتد نمطها متجاوزاً الدول الثلاث، ويلتحم مع حركات سياسية عسكرية موجودة بالفعل وأخرى في طور النشوء.
تفعيل الآلية
تفتقر الكونغو إلى الاندماج الوطني بسبب تقسيم البلاد على أساس إثني ومناطقي جعل من وضع بعض الإثنيات والمناطق البعيدة عن العاصمة كينشاسا والمدن الكبيرة، عنواناً للتهميش السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ومع حالة الاستياء الشعبي من النظام الحاكم نتيجة للأوضاع الاقتصادية المتردية، وحملات الاعتقالات لعائلات أفراد في الحركة، وكبح حرية التعبير ربما يؤجج مشاعر الغضب لدى المواطنين العاديين. وسيضعهم ذلك أمام أحد خيارين إما النزوح إلى مناطق أخرى أو الاستجابة للانضمام للحركة المتمردة، خصوصاً أنها تغري الشباب العاطلين عن العمل بالمال. وربما تفرز واقعاً جديداً هو أن تهدد إجراء الانتخابات الرئاسية العام المقبل، أو أن تدخل منافسة شرسة مع الحزب الحاكم، خصوصاً مع الدعم الشعبي في إقليم كيفو.
ومع احتمال تصاعد التوترات بين هذه الدول فإنها ستجر منطقة البحيرات العظمى إلى حالة من عدم الاستقرار، خصوصاً بعد فقدان حافز الاستمرار في العلاقات مع وجود الاختلافات، وهو العنصر الاقتصادي والتجارة الثنائية واتفاقيات التصدير. مع ذلك تتعامل القوى الدولية مع الحركات المتمردة في أفريقيا باعتبارها مهدداً أمنياً فحسب من دون النظر في العوامل الإثنية والاجتماعية، والتي تشكل أساس هذه التناحرات، مما يستدعي تفعيل "آلية الرقابة الإقليمية للسلام والأمن والتعاون لجمهورية الكونغو الديمقراطية والمنطقة"، وهي الآلية المتفق عليها مسبقاً لتكون مسؤولة عن مكافحة الجماعات المسلحة والتحقيق في الانتهاكات التي تحدث في الإقليم.