باهتمام وترقب كبيرين وسط أجواء لا تخلو من الترقب والحذر، يتابع الشارع السوداني مآلات الاتفاق الإطاري المعلن عنه بين المكون العسكري والمجلس المركزي لـ "الحرية والتغيير" نهاية الأسبوع الماضي، بوصفه خطوة أولى يؤمل في أن تقود في نهاية مرحلته الثانية إلى اتفاق نهائي بتوافق واسع ينهي الأزمة السياسية المستفحلة وتبعاتها من أزمات أخرى أمنية واقتصادية، ظلت البلاد ترزح تحت وطأتها منذ أكثر من عام.
حراك ولقاءات
وفي ظل تقاطع المواقف وتباينها واستمرار التظاهرات المطالبة بإسقاط الانقلاب وعودة الحكم المدني، تشهد الساحة السياسية حراكاً كثيفاً يطرح مختلف الرؤى ويوحد الاستقطاب بين تياري الرفض والقبول لمسودة دستور الانتقالي، محور الاتفاق بين العسكريين و"الحرية والتغيير" كأرضية مشتركة لانطلاق العملية السياسية.
وكشفت مصادر مقربة لـ "اندبندنت عربية" عن أن الأيام القليلة المقبلة ستشهد تجدد اللقاءات المباشرة بين المكون العسكري والمجلس المركزي للحرية والتغيير، لاستكمال توقيع الاتفاق الإطاري الذي يعتبر حتى الآن بمثابة إعلان حسن نيات من جانب تحالف "الحرية والتغيير"، وتأميناً منه على الملاحظات التي قدمها العسكريون على مسودة مشروع دستور نقابة المحامين، فيما انطلقت بالفعل مشاورات "الحرية والتغيير" مع أكبر عدد من قوى الانتفاضة وأجسامها وقوى الانتقال الديمقراطي، بحثاً عن أوسع صيغة للتوافق حول الاتفاق الإطاري.
وصبيحة إعلان الاتفاق نشطت الآلية الثلاثية في مشاوراتها لتوسيع قاعدة التوافق، واجتمعت الجمعة، 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، مع جبهة الانتفاضة لاستعراض ملاحظاتها في شأن وثيقة الدستور المطروحة.
وأوضح مصدر قيادي في "الجبهة الثورية" أن الجبهة تقدمت بملاحظات عدة على المسودة تتمحور حول البنود الخاصة بمراجعة اتفاق السلام وبعض الجوانب المرتبطة بالعدالة الانتقالية.
توقيع وشيك
ويغطي الاتفاق التمهيدي المنتظر توقيعه في غضون الأيام المقبلة 80 في المئة من قضايا الانتقال المطروحة، بينما تبقت القضايا الأصعب الأكثر تعقيداً المتمثلة في العدالة الانتقالية وإصلاح الأجهزة العسكرية والأمنية وإزالة تمكين النظام السائد في انتظار توافق قوى الانتفاضة وأصحاب المصلحة.
وكشف المجلس المركزي لـ "الحرية والتغيير" أن الاتفاق الإطاري يشكل بداية عملية سياسية تفضي إلى إنهاء الانقلاب واستكمال أهداف انتفاضة ديسمبر (كانون الأول) عبر مرحلتين، أولاهما الاتفاق المبني على التفاهمات التي تمت بينه والمكون العسكري وأطراف قوى الانتقال الديمقراطي، وستكون الخطوة التالية بتوقيع الاتفاق النهائي بمشاركة جماهيرية واسعة من قوى الانتفاضة.
وشدد المجلس المركزي خلال مؤتمر صحافي عقده في دار "حزب الأمة القومي" نهاية الأسبوع على "ضرورة أن تلبي السياسية طموحات وتضحيات الشعب المهدورة بالعودة للمسار الديمقراطي وإنهاء الانقلاب".
تسليم المدنيين
وأعلن المجلس بأن الاتفاق الإطاري يؤكد مدنية هياكل السلطة بالكامل، وأن مجلس الأمن والدفاع المشار إليه في الاتفاق سيكون برئاسة رئيس مجلس الوزراء المدني، لافتاً إلى أن "قضية العدالة الانتقالية لا يمكن تحقيقها من دون أصحاب المصلحة من قوى الانتفاضة وأسر الضحايا".
وحول ما جاء في الاتفاق حول مراجعة "اتفاق جوبا لسلام السودان"، أوضح تحالف التغيير أن الاتفاق يواجه معضلات عدة، لذلك تم الإبقاء عليه مع إجراء بعض التعديلات بموافقة الأطراف الموقعة.
وقال القيادي في التحالف ورئيس "الحركة الشعبية / شمال" (التيار الثوري) ياسر عرمان، إن هناك فرصة تلوح في الأفق لإنهاء الوضع القائم وإن العملية السياسية الآن ممكنة بوجود وثيقة متوافق عليها.
وتوقع الأمين العام لحزب الأمة القومي وعضو لجنة التفاوض عن "الحرية والتغيير" الواثق البرير أن يتم الاتفاق النهائي بين المدنيين والعسكريين في فترة لا تتجاوز ثلاثة أسابيع، وأن يتم تسليم السلطة إلى المدنيين نهاية العام الحالي.
الجانب الآخر
وفي الجانب الآخر وعلى رغم موافقة المكون العسكري مع الملاحظات والقبول الدولي الذي حظيت به مسودة الدستور الانتقالي المقترح من اللجنة التسييرية لنقابة المحامين، إلا أنه لا تزال هناك بعض الأحزاب والتكتلات السياسية الرافضة والمناهضة لمسودة مشروع دستور المحامين بصورته الراهنة، بعضها في أقصى اليسار مثل "الحزب الشيوعي" وأخرى من الوسط مثل "الحزب الاتحادي الديمقراطي" الذي تبرأ من توقيع الحسن محمد عثمان الميرغني على وثيقة دستور المحامين، وكلف زعيمه محمد عثمان الميرغني ابنه الآخر جعفر الصادق الميرغني الذي يقف في الضفة الأخرى مع رافضي الدستور المقترح، نائباً له.
وأصدر الحزب بياناً أكد فيه دعمه للقوات المسلحة ورفض الإساءة إليها بوصفها الضامن لوحدة البلاد واستقرارها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولفت الميرغني إلى أن القرارات المتعجلة والسعي إلى إنضاج الحلول قبل أوانها قد يسببان أضرراً كبيرة، محذراً من أي "مبادرات قد تؤدي إلى تعقيد المشهد السوداني وتقوده إلى الاتجاه الخاطئ وتجريب المجرب"، مطالباً الوسطاء الدوليين بالعمل على دعم الحوار السوداني - السوداني، ورافضاً الإملاءات والتدخلات الخارجية ومتضامناً في الوقت نفسه مع أسر الضحايا والمصابين والمفقودين والمتضررين.
وفي أقصى اليمين يعارض بشدة التسوية الجارية التيار الإسلامي ومن بينه "جماعة الإخوان المسلمين" وعدد من الكيانات الأخرى.
وأعلنت مبادرة "نداء أهل السودان" المناهضة أيضاً لدستور المحامين، عزمها طرح مشروع دستور بديل لمقترح نقابة المحامين الذي تتهمه بأنه "علماني مصنوع بأيد أجنبية"، على رغم نفي الأطراف المعنية ذلك.
وانتقد القيادي في "حركة الإصلاح الآن" ضمن أجسام مبادرة "نداء السودان" أسامة توفيق مسودة دستور نقابة المحامين، معتبراً أنها "لا تساوي بين المواطنين وتقسمهم إلى ثلاثة أقسام".
ويرى توفيق أن من الطبيعي عودة الجيش إلى الثكنات لكن بعد تنصيب الحكومة المنتخبة، مطالباً بتشكيل حكومة انتقالية من المستقلين تشرف على تهيئة البلاد للانتخابات وتشرف عليها بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم الانتقال الديمقراطي (يونتامس)، وذلك باستلهام تجربة فريق "سوار الذهب الانتقالية" عام 1985.
إرادة التوافق
وفي تطور يصب في توسيع دائرة توافق قوى الانتفاضة، انضم "حزب البعث العربي الاشتراكي" إلى الموافقين على الاتفاق الإطاري، ووصفه بأنه يستوعب كل تباينات أحزاب "الحرية والتغيير" للمحافظة على وحدة التحالف، وذلك بعد تردد أخبار تتحدث عن معارضة الحزب الذي هو أحد الأجسام الرئيسة في تحالف "الحرية والتغيير"، لوثيقة دستور المحامين.
وفي سياق الداعمين للاتفاق دعا مستشار رئيس الوزراء السابق أمجد فريد إلى وضع الاتفاق الذي تفاهمت حوله قوى "الحرية والتغيير" على مائدة النقاش العام، وفتح أوسع حوار سياسي واجتماعي حوله.
وقال فريد مغرداً عبر "تويتر" إن "قوى الحرية والتغيير فعلت خيراً بإعلانها التفاهمات التي فاوضت حولها الانقلابيين خلال الفترة الماضية"، لكنه حذر قائلاً "من المضر الآن الاختلاف حول الوسائل وينبغي التركيز على الأهداف أياً كانت سبل الوصول إليها".
وكان السفير المتحدث باسم الآلية الثلاثية ومبعوث الاتحاد الأفريقي محمد بلعيش أكد أن التوافق والتراضي بين أصحاب المصلحة السودانيين هو المفتاح للتسوية السياسية، مشدداً على أنه "إذا غابت الإرادة السودانية فيصعب أن نتكلم عن استدامة التسوية".
وكشف بلعيش في ختام زيارة وفد الآلية الثلاثية إلى ولاية كسلا الأحد، 20 نوفمبر الحالي، برئاسة المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة فولكر بيرتس، عن أن ما تقوم به الآلية الثلاثية في البحث عن تسوية مقبول من الأغلبية كافة حتى تكون التسوية مستدامة.
حدة الاستقطاب
من جانبه، حذر المحلل والباحث السياسي عبدالمنعم عبداللطيف من أن "حدة الاستقطاب وسط القوى السياسية هي أكبر ما يهدد العملية السياسية الجارية الآن في مرحلة حرجة من تاريخ السودان"، مشيراً إلى أن "الكم الهائل من المبادرات التي قُدمت توضح أن كل حزب أو كيان إنما يسعى إلى تمرير وجهة نظره ورؤيته وحده من دون أية اعتبارات وطنية كان من المفترض أن تصنع القاسم المشترك من خلال تنازلات تقود إلى نقطة الالتقاء، التي حالت المزايدات دون رؤيتها والوصول إليها".
ولفت عبداللطيف إلى أنه "بدلاً من أن تتجه الأنظار صوب التفاهمات الممكنة ونقاط الاتفاق والبناء عليها، تحرص كل المجموعات على الاستئثار برؤية الحل والبحث عن المكاسب الحزبية الضيقة"، وهو ما اعتبره سلوكاً سياسياً منافياً لاعتبارات المصلحة الوطنية ومغلباً للمصلحة الحزبية.
وتابع الباحث السياسي أن "هذا الواقع كان يفترض أن يشكل ضغطاً معنوياً كثيفاً على الطرفين من أجل الوصول إلى تسوية، لأنه لم تعد هناك خيارات كثيرة أمام الوطن، وليس هناك متسع من الوقت لممارسة رفاهية التفاوض والمناورات، بخاصة بعد أن جرب الفرقاء كل أنواع الأدوات السياسية، ودفع السودان ثمن كل ذلك التطاحن بتآكل مقومات الدولة من النواحي الأمنية والاقتصادية والاجتماعية".
الضرورة والضامن
وفي السياق نفسه، شدد أستاذ العلوم السياسية علي عبدالمجيد موسى على "تحقيق أوسع توافق وطني ممكن بين قوى الانتفاضة حول الاتفاق، فضلاً عن كونه يجسد الإرادة الغالبة للشعب بما يعزز الإرادة السياسية المدنية".
وأكد موسى "أهمية تحقيق العدالة الانتقالية وإنصاف الضحايا وذويهم ومنع الإفلات من العقاب بمحاكمة المسؤولين، لأن ذلك يؤكد إقرار دولة الحق والعدل وهيبة القانون".
وكانت الآلية الثلاثية المكونة من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ومجموعة "إيغاد" تسلمت ملاحظات وتعديلات مقترحة من المكون العسكري على وثيقة مشروع الدستور الانتقالي المقترح من نقابة المحامين، ووصفتها بأنها تعكس تفاهمات أساسية تم التوصل إليها بين العسكريين وقوى "الحرية والتغيير"، لافتة إلى أن المسودة جمعت حولها عدداً كبيراً من القوى المدنية.