على رغم تكرار الاعتراف من مسؤولين ومعلقين ينتمون لليمين السياسي بأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) أسهم في تردي الوضع الاقتصادي أكثر إلا أن طرح مسألة تفاوض لندن على علاقة مع بروكسل تشبه علاقة سويسرا بالتكتل أثارت حرباً داخلية في حزب المحافظين الحاكم.
فعلى رغم أن سويسرا ليست عضواً في الاتحاد الأوروبي لكنها تستفيد من الوصول إلى السوق الأوروبية الموحدة مقابل قبولها بقواعد التجارة الأوروبية وسماحها بحرية الانتقال بين دول الاتحاد وبينها إضافة إلى إسهام سويسري بسيط في موازنة الاتحاد ببروكسل.
ومع تردد الأنباء في اليومين الماضيين عن أن حكومة رئيس الوزراء ريشي سوناك تدرس إمكانية التفاوض مع بروكسل على اتفاق تجارة بالنموذج السويسري، خرج الجناح المناوئ لأوروبا في الحزب الحاكم على كل وسائل الإعلام البريطانية تقريباً، الأحد، ليرفض الفكرة معتبراً إياها نقضاً لـ"بريكست".
وبدأت تلك التسريبات حول إمكانية الاتفاق مع بروكسل لتنشيط التجارة البريطانية في إطار السعي إلى مواجهة الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد بعدما ألمح وزير الخزانة جيريمي هانت إلى حاجة المملكة المتحدة لتعزيز التجارة مع أوروبا وإزالة العقبات التي تضر بالاقتصاد البريطاني.
وأشار هانت إلى أن حكومة ريشي سوناك تنوي التخلي عن الأسلوب الذي اتبعه رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون في التعامل مع أوروبا لإزالة الغالبية العظمى من قيود التجارة مع دول الاتحاد. وبعد تلك الإشارة قبل أيام ظهرت تقارير صحافية تفيد بأن مصادر حكومية ترى أن الوصول إلى تجارة سلسة مع الاتحاد الأوروبي يعني الاتجاه نحو اتفاق على النموذج السويسري كما ذكرت صحيفة "ذا صنداي تايمز".
نفي وشقاق
انبرى الوزراء والمسؤولون من التيار المتحمس لـ"بريكست" لنفي سعي الحكومة إلى التوصل لاتفاق مع الاتحاد الأوروبي على النموذج السويسري. وفي مقابلة مع شبكة "سكاي نيوز" صباح الأحد قال وزير الصحة ستيف باركلاي "أنا لا أؤيد هذا التوجه. إنما أريد تعظيم المنافع التي يوفرها بريكست". وفي محاولة لنفي تقرير "ذا صنداي تايمز" أضاف باركلاي أن ريشي سوناك نفسه من أشد المتحمسين لـ"بريكست".
ونقلت صحيفة "ذي ميل أون صنداي" عن أحد نواب البرلمان عن حزب المحافظين قوله في شأن اقتراح اتفاق تجاري مع بروكسل على النوذج السويسري، "لن يمر وقت طويل قبل أن يقع القناع... هذه خيانة مكتملة الأركان وعلى مجموعة البحوث الأوروبية مواجهة ذلك بكل قوة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومجموعة البحوث الأوروبية هي الجناح الأكثر معاداة لأوروبا في حزب المحافظين وتزعم أعضاؤها حملة الترويج لـ"بريكست" قبل استفتاء عام 2016 ودعموا التشدد في مفاوضات الخروج عام 2020.
ومن أبرز نواب الحزب في تلك المجموعة، وزير الأعمال في حكومة ليز تراس المستقيلة جاكوب ريس– موغ الذي نقلت عنه "ذا صنداي تايمز" قوله "سيكون هذا الاتفاق مع بروكسل على النموذج السويسري مجرد بريكست بالاسم فقط... سيعني تفريغ بريكست من مضمونه تماماً... إذا فعلنا ذلك سنخسر كل الفوائد التي اكتسبناها بالتخلي عن القواعد والقوانين الأوروبية. ولن يكون ممكناً عقد اتفاقات تجارية مع بقية دول العالم لأننا سنفقد المرونة في تعديل قوانيننا وقواعدنا". وخلص ريس – موغ إلى أن "حزب المحافظين هو حزب بريكست ولا يمكن ألا يكون حزب بريكست".
ونقلت الصحف البريطانية مواقف مماثلة من نائب حزب المحافظين من الجناح المتشدد لمصلحة "بريكست" الذي يعبر عنه بوضوح جاكوب ريس – موغ.
وقال رئيس فريق التفاوض لاتفاق "بريكست" في حكومة بوريس جونسون السابقة اللورد ديفيد فروست إنه ورئيسه جونسون قاوما بشدة أي اتفاقات من هذا النوع في فترة التفاوض وأضاف، "أي وسيلة تتطلب توافق بريطانيا مع القواعد الأوروبية، سواء كان ذلك على النموذج السويسري أو غيره، لن تكون مقبولة إطلاقاً".
خسائر "بريكست"
معروف أن وزير الخزانة ليس من الجناح المناوئ لأوروبا في حزب المحافظين الحاكم، فوفق مقابلة مع برنامج "توداي" على الإذاعة الرابعة في "بي بي سي" قال هانت بعد إعلان موازنة الخريف، "أعتقد بأن تطوير تجارة من دون تعقيدات مع جيراننا، كما مع بقية دول العالم، هو أمر مفيد للنمو الاقتصادي... ولدي ثقة كبيرة بأنه في الأعوام المقبلة سنجد طريقة لإزالة العقبات التجارية بيننا والاتحاد الأوروبي من دون الحاجة إلى العودة للسوق الموحدة".
واعتبر ذلك اعترافاً ضمنياً بأن "بريكست" أضر بفرص النمو الاقتصادي في بريطانيا مع تراجع تجارتها مع الكتلة التي تمثل الشريك التجاري الأكبر لها. وفي مقابلة مع شبكة "سكاي نيوز" قال مدير معهد الدراسات المالية بول جونسون إن الوضع الاقتصادي سيستمر في التردي لأعوام وإن ذلك يعود لما "جلبته بريطانيا على نفسها". وذكر ثلاثة أسباب رئيسة للتردي هي، غير كارثة موازنة حكومة ليز تراس، خفض الاستثمار العام الذي بدأ مع حكومة حزب العمال الأخيرة واستمر مع حكومة ديفيد كاميرون وكذلك "بريكست".
وأضاف جونسون "ربما كانت هناك أسباب أخرى لبريكست، لكن بالمعنى الاقتصادي كان ذلك أمراً سيئاً وسيستمر كأمر سيئ، بخاصة مع الطريقة التي خرجنا بها والتي تضمنت ابتعاداً تاماً عن السوق الأوروبية الموحدة".
وبدأت الانتقادات تظهر بوضوح في الآونة الأخيرة للطريقة التي تم بها "بريكست"، وأيضاً للاتفاقات التجارية التي أبرمتها لندن بعد "بريكست" وتم تسويقها على أنها إنجاز ما كان ليحدث وبريطانيا ضمن الاتحاد الأوروبي. ولم يقتصر الانتقاد على المعارضة السياسية أو حتى الاقتصاديين المحايدين بل جاء من داخل حزب المحافظين ذاته ومن المتحمسين لـ"بريكست" فيه أيضاً.
وأحدث تلك الانتقادات ما كشف عنه وزير البيئة السابق جورج إيوستيس، وهو من نواب حزب المحافظين المؤيدين بشدة لـ"بريكست" في شأن اتفاق التجارة الحرة مع أستراليا. وكان بعض نواب الحزب الحاكم حذر الحكومة من الترويج المبالغ فيه لفوائد من الاتفاقات غير موجودة أصلاً.
وقال إيوستيس في البرلمان إن "الاتفاق مع أستراليا ليس لمصلحة المملكة المتحدة وإن الفريق البريطاني قدم تنازلات تتعلق بسياسات السلامة والصحة بهدف الوصول إلى الاتفاق بأي شكل. وكشف الوزير السابق عن تفاصيل حول التنازلات البريطانية والقبول بالمطالب الأسترالية، مما جعل الاتفاق "ليس جيداً على الإطلاق".
ومن الواضح أنه في ظل الوضع الاقتصادي المتأزم في بريطانيا ستسعى حكومة ريشي سوناك إلى إزالة عقبات التجارة مع الاتحاد الأوروبي بسرعة. وسواء كان ذلك من خلال اتفاق على النموذج السويسري أو بأي وسيلة أخرى، فإن الحكومة بحاجة إلى حل تلك المشكلات بسرعة ومن شأن ذلك أن يزيد الخلافات الداخلية في الحزب الحاكم، بخاصة مع المجموعة المتعصبة ضد أوروبا.