دأب أهل المسرح على مناقشة همومهم وقضاياهم في الندوات والمهرجانات، غير أن المخرج والسيناريست المغربي بوسلهام الضعيف، آثر أن يطرح قضايا المسرح على المسرح، أي داخل العمل المسرحي نفسه، محاولاً إشراك الجمهور في هذه الهموم، عبر إدخاله مباشرة إلى الكواليس، وإلى تفاصيل بناء العمل الفني بدءاً من مناقشة نص السيناريو، مروراً بالمراحل الأخرى المعروفة لدى أهل أبي الفنون.
تسلط المسرحية الجديدة لبوسلهام الضعيف "النورس" الضوء على وظيفة المسرح، ومدى حضور هذا الفن في المجتمع ونظرة الناس إليه. تقف المسرحية أيضاً عند مكابدات الفنان وما يعترض طريقه نحو الشهرة من صعوبات. وبهذا يترجم المخرج المغربي الكثير من الأفكار التي تداولها في حواراته وكتاباته عن غربة المسرح وهشاشته وسوء التواصل مع ذواته في العالم العربي.
تنطلق المسرحية المغربية من فكرة انهيار الأحلام لأنطون تشيخوف في المسرحية التي تحمل العنوان ذاته "النورس"، والتي تم عرضها للمرة الأولى عام 1896. وإن كان العنوانان متطابقين والفكرة مستعادة، في سياق اقتباسي، فإن المخرج المغربي حاول تكييف النص الجديد أفقياً وعمودياً، أي على مستوى الزمن وعلى مستوى الجغرافيا أيضاً. فقد سعى إلى أن يناقش الإشكالية ذاتها، لكن في زمننا الراهن وبطابع مغربي. وإذ قام الضعيف بتكييف نص السيناريو، فقد سعى بالمقابل إلى تكثيف العرض المسرحي، قياساً إلى "نورس" تشيخوف، عبر تخفيف الأدوار، بالتالي تقليص عدد الممثلين، وعبر اختزال المدة الزمنية للعرض.
أداء مختلف
تقوم فرقة الشامات خلال الفترة الحالية بجولة في بعض مدن المغرب بمسرحيتها الجديدة "النورس" التي كتبها وأخرجها بوسلهام الضعيف وقام بتشخيصها عبد الإله عاجل وخالد البطيوي وزينب الناجم وسفيان النعيم، وأشرف على السينوغرافيا أسامة بوفارنو، بينما تكلفت خديجة بلامين بإدارة الإنتاج.
ينطلق العرض، الذي يستغرق حوالى الساعة، بطريقة مختلفة عن المعتاد. ففي الوقت الذي ينتظر الجمهور أن تُطفأ أضواء القاعة ليعمّ الصمت ويبدأ المشهد الأول بطريقة كلاسيكية، يقترح المخرج بدلاً من ذلك أن تظل القاعة مُضاءة، وينطلق العرض وسط ثرثرة الجمهور. يبدأ الممثلون مباشرة بقراءة السيناريو على الخشبة ممسكين الأوراق بأيديهم، كما لو أن المشهد يتعلق ببروفة، وليس بأداء فرجوي. يصمت الجالسون في القاعة بالتدريج محاولين استيعاب ما يحدث. قراءات متعاقبة لسيناريو مفترض، وحوارات متداخلة بثلاثة أشكال لغوية: العربية والدارجة المغربية ممزوجة بالفرنسية.
يبدو الشكل اللغوي للمسرحية بمثابة فاصل في الزمن وفي الرؤية. فالعربية الفصحى هي لغة الحوارات المقتبسة من "نورس" تشيخوف، بينما الدارجة المغربية هي لغة الحوارات التي كتبها بوسلهام الضعيف. وإذ يؤدي الممثلون الأدوار المتداخلة باللغة واللهجة، يفعلون ذلك بانسيابية ومن دون افتعال. فالمخرج لم يكن يرغب في أن يكون الاقتباس وفق شكله المعهود في المسرح، بل حاول خلق حوار بين نصين، وبالتالي بين زمنين وبين سياقين. وهذا التداخل النصي جعل المسرحية تتخذ أبعاداً فلسفية، وتنحو بالتالي إلى مخاطبة النخبة. غير أن المخرج والسيناريست المغربي بوسلهام الضعيف نجح في الخروج من الضيق الخطابي، إذ بتبسيط الحوار لم يجعل النقاش الفني حكراً على أهل الفن، بل متاحاً ومفتوحاً أمام الجميع.
تعتمد المسرحية عدداً من الوسائط البصرية والسمعية، ويلجأ المخرج إلى تقنية المرآة المضببة، إذ يغدو الزجاج جداراً يمنع عن الممثل رؤية وجهه، بينما يتيح ذلك للآخر. كما يعتمد تقنية القرين (Le double) وتقنية الظلال المنعكسة. غير أن المسرحية لم تُغرق المتلقي في التقنية، ولم تنزع أيضاً إلى التجريد. بل كانت للوسائط البصرية والسمعية وظائف تتناغم مع جوهر الإشكال الذي تطرحه المسرحية.
إسماع صوت الفنان
تعتمد المسرحية إيقاعاً تصاعدياً في الحركة والأداء، لتنتهي إلى ما يشبه الجذبة، حيث صرخة الفن تعلو فوق كل الأصوات، وحيث الفنان الذي يقف وحيداً في مواجهة عالم متغيّر. والفنان الذي ينشد إيصال صوته إلى آذان العالم، في مسرحية "النورس"، هو الكاتب والممثل والمخرج وكل من تربطه علاقة عشق بالمسرح.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ليست هذه المرة الأولى التي يلجأ فيها بوسلهام الضعيف إلى الاقتباس من المسرح العالمي. بل سبق له الاشتغال على نصوص مسرحية وروائية أيضاً مثل "الخادمتان" لجان جينيه و"الموسيقى" ليوكيو ميشيما و"نعال الليل" لبرنار ماري كولتيس و"ليلة القدر" للطاهر بن جلون و"ليل ونهار" لغزافيي دورانجي و"بعيداً عن الضوضاء قريباً من السكات" لمحمد برادة. وفضلاً عن الأعمال المقتبسة عرض الضعيف العديد من مسرحياته في العالم العربي وأوروبا، وحظيت تجربته بالتقدير الإعلامي والنقدي.
وبمسرحية "النورس" يثبت بوسلهام الضعيف قدرته على خلق تقاطعات ثقافية كبرى مع نصوص ذات منابع ثقافية مختلفة، عبر أقلمتها مع المناخ المحلي. وهذا ما جعل الناقد المسرحي حسن يوسفي يرى في "النورس" مسرحية ممتعة حاورت بطريقة ذكية نص تشيخوف، وقدمت عملاً بمتخيل مغربي ومناخ ثقافي وفني، فيه صدى لقضايا المبدع كاتباً كان أو ممثلاً أو مخرجاً. إننا، بحسب اليوسفي، أمام "عرض يعيدنا إلى دهشة المسرح الأولى ومتعه المتجددة، عمل مسرحي يعيد لنا الثقة في مسرحنا، ويعيد ترتيب أوراق الخشبة من جديد، حتى ننصت فيها لنص رائع وممثلين يمارسون سطوة الحضور فوق الخشبة، ويؤدون شخصيات بأداء محسوب في الكلمة والحركة، ونستمتع بلغة العرض المسرحي السمعية والبصرية من دون حذلقة ولا مبالغة".