لطالما ذاع صيت هيئة إدارة السير والآليات والمركبات في لبنان بأنها مكمن من مكامن الفساد المستشري في مختلف القطاعات الرسمية للبلاد، إلا أن المفاجأة في تلك القضية بعد سنوات من معاناة اللبنانيين مع سوء الإدارة ودفع الرشى، كان التحرك السريع للقضاء وإقدام المحامية العامة في جبل لبنان القاضية نازك الخطيب بتوقيف 43 موظفاً في مركزي الأوزاعي والدكوانة، وفي مقدمتهم رئيسة هيئة إدارة السير هدى سلوم، ورئيس مصلحة تسجيل السيارات أيمن عبدالغفور، إضافة إلى 21 مشتبهاً فيهم من معقبي المعاملات والسماسرة والعناصر الأمنية، فيما لا يزال آخرون صادرة بحقهم مذكرات توقيف متوارين عن الأنظار.
وكما كل ملف قضائي في لبنان، بدأت ملامح إجهاض التحقيقات عبر محاصرته بالسياسة، إذ تلمح بعض الجهات السياسية إلى أن في أبعاد فتح الملف المعروف في لبنان بـ"ملف النافعة"، استهدافاً لمقربين من رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري، الأمر الذي تنفيه مصادر قضائية، مؤكدة أن الفرصة أتيحت للقضاء نتيجة إثباتات دامغة واعترافات موثقة، إضافة إلى موافقة وزير الداخلية القاضي بسام المولوي على طلب القضاء ملاحقة سلوم وآخرين.
إلا أن المصادر القضائية متخوفة من تعطيل التحقيقات كما تعطلت تحقيقات المحقق العدلي في جريمة انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار برقم قياسي من دعاوى الرد والمخاصمة والنقل التي قدمها وكلاء الوزراء والمديرون العامون المدعى عليهم بالملف، مؤكدة أن هناك من يريد تعطيل التحقيقات بهدف حماية المجرمين.
وعلى رغم رد محكمة الاستئناف المدنية في جبل لبنان برئاسة القاضية ريما شبارو، دعوى الرد المقدمة من وكيل هدى سلوم ضد القاضية نازك الخطيب في ملف فساد هيئة إدارة السير والآليات والمركبات، فإن التدخلات السياسية لا تزال واردة، حيث سبق فتح الملف نفسه في عام 2019 من قبل مدعي عام جبل لبنان القاضية غادة عون، قبل أن يتم تجميده حينها لأسباب سياسية، لا سيما بعد صدام حصل حينها بين عون والنائب السابق هادي حبيش الذي تربطه صلة قربى مع سلوم، انتهى بما يشبه التسوية السياسية.
ويؤكد حبيش أن القضية ليست سوى تركيب ملفات وتصفية حسابات سياسية، مشدداً على أن ما تقوم به القاضية نازك الخطيب هو استكمال لنهج تسييس القضاء الذي بدأته القاضية غادة عون.
انقلاب السحر
وفي تفاصيل القضية، فإن طرف الخيط كان "تحقيقاً مسلكياً" أجراه كل من رئيسة هيئة إدارة السير والآليات والمركبات هدى سلوم ورئيس مصلحة تسجيل السيارات أيمن عبدالغفور في ملف يتعلق بتزوير 132 دفتر قيادة، لتخلص سلوم حينها إلى توقيف المتورطين إدارياً، وتوجيه كتاب إلى مدعي عام التمييز غسان عويدات طلبت فيه إجراء تحقيق.
ومن هذا المنطلق باشرت القاضية نازك الخطيب المرحلة الأولى من تحقيقاتها في الملف، حيث لم يعترف أحد من الموظفين بما يجري، وينقلب السحر على الساحر، إذ مع توسعها في التحقيقات واستماعها لمعقبي المعاملات وأصحاب مكاتب تعليم القيادة، بدأت أوراق الفضائح تتساقط لتطاول الهرم من رأسه حتى أسفله مع اكتشاف التورط في عمليات فساد واسعة النطاق، وتبدأ ملاحقة رئيسة هيئة إدارة السير هدى سلوم وآخرين.
وفي معلومات التحقيق تبين أن كبار الموظفين كانوا يتلقون رشى مقابل تمرير رخص قيادة مزورة، وبعضها لأشخاص غير مقيمين، وتزوير مستندات رسمية والقيام بأعمال غير مشروعة والتزوير، ومع توسع التحقيقات تبين أن عدداً كبيراً من الموظفين يفرضون على المواطنين دفع مبالغ مالية غير متوجبة عليهم من باب الرشوة تحت طائلة عرقلة المعاملة، مما يدفع أصحاب المعاملات، مكرهين، إلى الدفع لإنجازها في الوقت المطلوب.
وتبين أن الرشى تتراوح بين ما يعادل 150 و500 دولار للمعاملة الواحدة، ومعظمها مرتبط بتسجيل سيارات ودراجات نارية من دون وجود أصحابها، ومن دون مراعاة الشروط المطلوبة، وتمرير سيارات من دون الكشف عليها لقاء قبض مبالغ مالية، إضافة إلى تقارير للجان فاحصة تزور النتائج ليتحول الراسب في امتحان القيادة إلى ناجح، فضلاً عن وجود عدد من معقبي المعاملات الذين يعملون من دون ترخيص.
إثراء غير مشروع
وفي السياق تؤكد مصادر قضائية أن التحقيقات تتركز حالياً في إطار أبعد من تقاضي رشى، حول شبهات بالإثراء غير المشروع، لا سيما أن هناك أدلة مثبتة حول قبض الرشى ووجود فساد منظم وفرض إتاوات بالقوة على المواطنين، إذ اعترف رئيس مصلحة تسجيل السيارات أيمن عبدالغفور بأنه كان يجني نحو 200 مليون ليرة شهرياً، وأن سكرتيرته تتقاضى حصة من تسعة معقبي معاملات ممن يحتكرون المعاملات ويبيعونها للمعقبين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكشفت التحقيقات الأولية عن آلية منظمة للفساد عبر بيع صكوك تسجيل سيارات بكميات كبيرة، إذ إن أحد كبار الموظفين كان يحصل يومياً على ألف صك تباع كل منها بمليون ليرة (نحو 25 دولاراً)، كما أن "قاطعي الإيصالات"، وعددهم 18، يوزع كل منهم نحو 200 وصل يومياً على أصحاب المعاملات مقابل 200 ألف ليرة (نحو 5 دولارات) للإيصال الواحد، علماً أن الدولة لا تضع أي رسم على الصكوك والإيصالات، وإنما نتيجة للأزمة المالية التي يعانيها لبنان باتت طباعتها واستيرادها مكلفين، الأمر الذي فتح الشهية أمام الموظفين لاستغلال ندرتها والتذرع بعدم وجودها.
عدم تعاون
ونتيجة للملاحقات القضائية وتوقيف عدد كبير من الموظفين وفرار آخرين، توقف معظم الأعمال الإدارية في هيئة إدارة السير والآليات والمركبات في لبنان، الأمر الذي انعكس على معاملات المواطنين، مما استدعى تدخلاً سريعاً من وزير الداخلية، واتخاذه قراراً بتعيين محافظ بيروت القاضي مروان عبود رئيساً للهيئة بالتكليف بدلاً من سلوم، وتعيين العقيد في قوى الأمن الداخلي علي طه رئيساً للمصلحة بالتكليف، بدلاً من عبدالغفور، وذلك بهدف تسيير هذا المرفق العام الذي شهد تكدس معاملات المواطنين والتوقف عن تسجيل الآليات.
إلا أنه في المقابل رفض رئيس نقابة مكاتب السوق حسين توفيق غندور، الاعتراف بشرعية تعيينات وزير الداخلية. وقال، "سنتخذ إجراءات قانونية وفق الأصول"، مطالباً زملاءه بعدم التعاون مع هذا القرار، إلا بعد تجهيز الإجراءات القضائية الحقوقية.
التعسف القانوني
وفي السياق، أعلنت مجموعة "رواد العدالة" في بيان، أنها "تتابع عن كثب ملف فساد (النافعة) التي تشرف بمهنية عالية على تحقيقاته المحامية العامة الاستئنافية القاضية نازك الخطيب، والتي تتعرض لضغوط سياسية كبيرة بعد توقيفها لكبار رؤوس الهرم في مصلحة تسجيل السيارات والآليات".
وقالت المجموعة إنه "كان لافتاً إقدام هؤلاء وفي سبيل كف يد القاضية المذكورة عن متابعة ذلك الملف حتى خواتيمه، على تقديم طلبات ردها ومخاصمة الدولة ضدها بعد اختلاق الأعذار والذرائع، لتمييع الملف وتسويف القضية وتعطيل إجراءات العدالة الجزائية". وأضافت أن "الدائرة أصبحت منذ فترة تنظر بعين الريبة إلى هذا النهج القانوني الغريب الذي أصبح يسود طريقة التعامل مع كل قاضٍ يتجرأ على المضي قدماً في التصدي لكبرى ملفات الشأن العام بالإقدام على تقديم طلبات استعدائه قانوناً، لغاية في نفس المشتبه في تورطهم بالجرائم موضوع التحقيقات العدلية".
وختمت، "على رغم أنه من حق كل خصم في الدعوى العمومية تقديم ما يبيحه له القانون من طلبات رد ومخاصمة للدولة وغيرها، فإنه في المقابل يقتضي التذكير بضرورة تفعيل بجدية النصوص المتعلقة بالتعسف باستعمال تلك الحقوق لتعطيل إجراءات العدالة، وهو ما يوجب بالتالي على الهيئات القضائية الناظرة بتلك الطلبات أن تعمد إلى الإسراع في البت بها بالنظر لماهية وخطورة الجرائم موضوع الملاحقات القضائية المراد تسويف العدالة في شأنها من المشتبه في تورطهم بها، وتغريمهم مبالغ كبيرة في حال ثبوت عدم صحة طلباتهم قانوناً، ليكونوا عبرة لمن يعتبر، والأهم لوضع حد لنهج عرقلة العدالة إجرائياً تحت ذريعة ممارسة حق قانوني، ما يلبث أن يتبين أنها ممارسة تعسفية تستهدف شل يد القضاء الجريء عن متابعة مهامه وتحقيقاته في القضايا المنظورة".