استبشر العالم خيراً بعد الاجتماع الذي عقده الرئيس الأميركي جو بايدن مع نظيره الصيني شي جينبينغ في بالي على هامش قمة دول العشرين في منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، بخاصة بعد تصريحات بايدن بأنه لن تكون هناك حرب باردة جديدة.
وجاءت تصريحات المتحدث الإقليمي باسم الخارجية الأميركية، صامويل وريبرغ، لتضفي مزيداً من الطمأنينة حول ناتج هذه القمة، حيث اعتبرها من أهم الاجتماعات التي عقدها الرئيس الأميركي منذ انتخابه، وفي الواقع إن ما تضمنته تصريحات المتحدث الرسمي تكتسب دلالات كبيرة، وتستحق تحليلاً وافياً لما تتضمنه من معان ورؤية على درجة من التكامل، فقد ذكر وريبرغ أن العالم لديه توقعات من واشنطن، وأن هناك مسؤوليات مشتركة بينها وبين بكين تفرض دوراً عليهما معالجة التحديات المشتركة مثل مكافحة جائحة كورونا، والتغير المناخي، وتخفيف عبء الديون عن الدول الفقيرة، وأنهما يدركان قوة المنافسة بينهما، لكن يمكنهما أيضاً التنسيق لصالح هذه القضايا وغيرها.
أما ما لم يذكره وريبرغ فهو أن هذه التفاهمات أيضاً وتخفيف التصعيد ستتيح لواشنطن التركيز على أوكرانيا واحتواء روسيا.
نضج أميركي أم تطورات تكتيكية
لكي نقدر حجم الخطوات الأخيرة، يجب العودة إلى تطورات العلاقات بين البلدين في العقود الأخيرة، فمن الإنصاف ذكر أنه منذ ما سمي بـ "دبلوماسية تنس الطاولة" التي اخترقت بها واشنطن العزلة الصينية، أقامت ترابطاً مع بكين وساعدتها على مزيد من التباعد عن الاتحاد السوفياتي والارتباط بالاقتصاد العالمي، بل قادت أميركا وما زالت الاستثمارات الأجنبية التي حولت الصين إلى أهم مكون في سلاسل الإنتاج في العالم، وباتت عملاقاً اقتصادياً ضخماً ينافس الاقتصاد الأميركي بذاته، وخلال كل ذلك لم تسع بكين لمناوأة واشنطن سياسياً، إلا في ما يتعلق بسياسات الإغراق ومشاركة العالم الغربي في نهب ثروات دول الجنوب بنسب مختلفة، لكن على المستوى السياسي لم تمارس بكين أي سياسات يمكن وصفها بالعدوانية الصريحة ضد الغرب أو واشنطن.
لكن الصعود الاقتصادي الصيني المتواصل واكتشاف الغرب، وليس واشنطن فقط، حجم الاعتماد الاقتصادي المتبادل، وبروز سياسات صينية نشطة، ممثلة في "مبادرة الحزام والطريق"، وهي استراتيجية متكاملة لبناء شراكة وتواجد صيني عميق في مفاصل العلاقات بينها وبين عديد من دول العالم لخلق ارتباط اقتصادي وثقافي وأيضاً سياسي، في الحقيقة كله سلمي ولا يتضمن مكونات عسكرية للنفوذ. إلا أن نمو القوة العسكرية الصينية بشكل هائل لتواكب القوة الاقتصادية أثار هواجس الغرب وواشنطن، لأن الأخيرة ببساطة بخاصة واشنطن لا تريد أن تخفف من هيمنتها على العالم، وهذا المدخل السابق ببساطة لا يعني أن الصين طرف دولي مثالي، فبكين مثل كل دول العالم تضع مصالحها بخاصة الاقتصادية في المقدمة وتمارس سياسات فيها قدر من الأنانية التي لا يمكن إنكارها، لكنها في الوقت ذاته لم تمارس العدوان على أحد ولم تتدخل في شؤون أحد، بل إن انتقاد الغرب للتوسع في قروضها للدول الفقيرة بخاصة الأفريقية مؤسَس على عدم الارتياح لعدم تدخلها في الشؤون الداخلية لأحد، وهو ما يتناقض مع السياسات الغربية بهذا الصدد، ولهذا تبذل الأجهزة الدبلوماسية الغربية جهوداً للتخويف من النفوذ الصيني في أفريقيا، وهو نفوذ ليس منزهاً، ولكن سجل الغرب المتواصل، يقيناً أسوأ.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في جميع الأحوال، بدأ التنبه الأميركي والأوروبي - البريطاني بشكل خاص للصعود الصيني منذ بدايات القرن الحالي، وظهر ذلك في بعض سياسات ووثائق السياسة الخارجية في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما ووصل إلى بعض الإجراءات الاقتصادية المحدودة، كون أن ذلك يقع في إطار الحرص الأميركي على استمرار قواعد العولمة، لتقفز الأمور قفزةً هائلة مع الرئيس دونالد ترمب لتصبح بكين رسمياً في وثائق وسياسات ترمب "العدو الاستراتيجي"، ولكن ثار خلاف داخلي أميركي حول وضعية موسكو في هذه الاستراتيجية في إطار إصرار المؤسسات الأميركية على اعتبارها كذلك ومقاومة ترمب لهذا الأمر، ما ترك حالة من الارتباك الفكري في رؤية إدارة ترمب، وصلت إلى حالة من المواجهات الفعلية مع قيادات البنتاغون والخارجية وأجهزة الاستخبارات الأميركية، وكانت ذروتها في أزمة قرار ترمب إغلاق القواعد الأميركية في شمال شرقي سوريا ومعارضة هذه الأجهزة وحلفاء واشنطن الغربيين لهذه الخطوة، وهي معارضة كانت علنية في كثير من المراحل ومنعت ترمب من تنفيذ قراره.
ثم جاء فصل جديد من الاستراتيجية الأميركية مع إدارة جو بايدن الذي أصدر وثيقة رسمية في بداية عهده منذ عامين، حددت بوضوح أن الصين والاتحاد الروسي هما خصمان استراتيجيان لواشنطن، وأن على واشنطن تطوير سياسات ورؤى لمنع استمرار هاتين القوتين من الصعود واكتساب مزيد من القوة والنفوذ.
الحرب الأوكرانية وتحولات متضاربة
وكانت واشنطن تتحرك وتتصرف في بداية الحرب وكأنها تدفع بكين لاتخاد موقف متحالف مع موسكو، وقامت بتحركات مثيرة للقلق، مثل زيارة رئيسة مجلس النواب آنذاك، نانسي بيلوسي، إلى تايوان، وما أحدثه ذلك من عاصفة لم تمنع واشنطن من إرسال وفد من المجلس ذاته الذي كان الحزب الديمقراطي الذي ينتمي إليه بايدن يسيطر عليه إلى الجزيرة المضطربة، ويعني ذلك أن حجة التصرفات المستقلة للهيئة التشريعية لا معنى لها، وهي في الواقع تصبح ذات معنى إذا جاءت حركة أعضاء في الكونغرس الأميركي من الحزب الجمهوري المعارض، فالمعروف أن النواب من الحزبين لا يلجأون عادةً إلى إحراج البيت الأبيض بحال كان سيده من الحزب نفسه.
وفي الوقت نفسه، كان الإعلام الغربي والأميركي لا يتوقف عن الإنذار من احتمال حدوث اجتياح صيني لتايوان، ويركز على رفض بكين الانصياع للعقوبات الاقتصادية ضد موسكو جراء الحرب، ولم يعجبه امتناع بكين عن التصويت في كثير من القرارات، ولم ينظر إلى المسألة من الزاوية العكسية، أي عدم صدور أي تصريح صيني بتأييد روسيا أو الحرب على أوكرانيا، بل كانت هناك تلميحات صينية صريحة إلى عدم دعمها للخطوة الروسية.
وبعد مرور أشهر من تصعيد الخطاب السياسي الأميركي ضد بكين جاءت هذه الخطوة المهمة، التي سبقتها أسابيع من تهدئة الخطاب السياسي العدواني الأميركي ضد بكين، وكالعادة تحدثت بعض التقارير الإعلامية الغربية عن أن الصين لم تنتهز الفرصة لتصعيد مشابه ضد تايوان، مع أن هذا لم يحدث منذ البداية.
وكالعادة أيضاً كانت هناك خطوات بريطانية مماثلة، وأتت الأكثر ضجيجاً منها في عصر رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون ضد بكين، وكانت تزايد حتى على واشنطن في مسألة استعداء الصين، وواصلت بعده ليز تراس هذا الخطاب السياسي بقوة خلال مرحلة صعودها لقيادة الحزب ورئاسة الوزراء، إلى حين وصول ريشي سوناك إلى 10 داونينغ ستريت، حيث تحدث بوضوح عن أن الصين لا تشكل تهديداً رسمياً لبريطانيا.
وعقد الثلاثاء الماضي، اجتماع بين وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن ونظيره الصيني وي فينغ في كمبوديا، تلته تصريحات لأوستن حول مصارحة الصين بشأن ما سماه "السلوك الخطير" لطائراتها في المحيطين الهندي والهادئ، لكنه تحدث أيضاً عن ضرورة تحسين الاتصالات بين الجانبين.
كما يُنتظَر أن يقوم وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بزيارة قريبة إلى بكين ستكون الأولى منذ عام 2018، ومن الواضح أن الأمور تسير في اتجاه انفراج نسبي يؤشر إلى أنه من المحتمل أن نكون على أعتاب مرحلة أكثر رشداً في علاقات البلدين، من حيث الإقرار بأن التنافس لا يمنع تعاونهما في موضوعات تحقق صالحهما وصالح العالم، وعلى رأسها قضيتا التغير المناخي ومواجهة التحديات الصحية العالمية وغيرها، وليس هذا فقط، فهذه التهدئة في ذاتها وقنوات الحوار المستمرة ستسمح باحتواء كثير من احتمالات التصعيد والأخطار على العالم، لكن يبقى أن يستقر ذلك كاستراتيجية أميركية لا تنتهي بانتهاء الحرب الأوكرانية أو بوصول إدارة أميركية جديدة.