للمرة الأولى منذ سنوات طويلة تشهد مدينة بنغازي الليبية حركة دؤوبة للجرافات والآلات الثقيلة ويسمع في أرجائها طرق المعاول، إيذاناً بانطلاق خطة غرفة الطوارئ بالمدينة على جبهات كثيرة لإعادة إعمارها، وهي الأرجاء ذاتها التي كان لا يسمع فيها بالأمس القريب سوى أزيز الرصاص ودوي المدافع.
انطلقت خطة الإعمار في بنغازي بإشراف شركات محلية بالكامل مع استمرار إحجام الشركات الأجنبية عن القدوم إلى ليبيا بسبب الظروف الأمنية والسياسية وسيتم تنفيذها على ثلاث مراحل، تشمل ترميم طرق متضررة أو متهالكة وتعبيد طرق جديدة وتطويراً للبنى التحتية لبعض الأحياء الشعبية وترميم مبان مهمة، وتتضمن إزالة بعض العشوائيات التي تناثرت في أنحاء المدينة.
وعلى رغم سعادة السكان بحركة الإعمار الأكبر في المدينة منذ عقود، فإن بعض التساؤلات والمخاوف ظلت تساورهم عن مدى جودة التنفيذ للمشاريع التي تولتها الشركات الليبية، بالنظر إلى تجارب سابقة مع شركات مماثلة، وقلق من تسلل يد الفساد إلى هذه الحملة، كما امتدت إلى كل الأعمال الحكومية في العقد الماضي.
خطوة بخطوة
عضو المكتب الإعلامي لخطة إعمار بنغازي محمد العنيزي أوضح لـ"اندبندنت عربية" تفاصيل المشروع الحالي في المدينة، قائلاً "الخطة التي شكلت من أجلها غرفة الطوارئ المشرفة عليها تشمل ثلاث مراحل، رتبت بحسب حاجات المدينة، وتركز المرحلة الحالية على فتح المختنقات التي باتت تشكل هاجساً للسكان بترميم طرق متهالكة وتوسعة بعضها وفتح طرق جديدة، وتشييد بنية تحتية لبعض المناطق التي تنعدم فيها هذه البنى، من صرف صحي وطرق وغيرها، وتوفير متنفس للسكان بتشييد حدائق عامة متكاملة المرافق في مناطق مختلفة".
أضاف "تشمل هذه الخطة ترميم بعض المباني والمرافق المهمة التي تضررت من الحرب مثل تشييد الجسور التي نسفها تنظيم داعش بين عامي 2015 و2017، التي وصلت الأعمال فيها إلى المراحل النهائية، وصيانة المبنيين التاريخيين المعروفين منارة بنغازي وقصر المنار الذين لحقتهما أضرار متفاوتة جراء الاشتباكات التي دارت في المدينة".
وشكلت غرفة الطوارئ التي تشرف على تنفيذ هذه المشروع قبل أشهر قليلة بقرار من رئيس الحكومة المكلفة من مجلس النواب فتحي باشاغا، وقال المكتب الإعلامي للحكومة إنه "على غرفة الطوارئ والتنظيم أن تتخذ التدابير اللازمة كافة لمواجهة الكوارث الطبيعية والتأهب لموسم الأمطار، وصيانة وتخطيط الطرق والأرصفة وتطوير المنتزهات وتنسيق الحدائق وجزر الدوران والاهتمام بالمظهر العام للمدينة".
حمل ثقيل
وبسبب سنوات طويلة من الدمار والإهمال في مرافق ومناطق بنغازي كافة، فإن الحمل الذي تحملته الشركات المحلية ليس هيناً بحسب عزالدين الدرسي، مدير إحدى الشركات المنفذة للمشروع.
وقال الدرسي إن "صعوبات كثيرة تواجههم في تنفيذ مشاريعهم، فنحن نبدأ في كل مرحلة من نقطة الصفر لتضرر وانعدام البنى التحتية تماماً لدرجة أن الوصول إلى الطبقة الأسفلتية في بعض الطرق تطلب أسابيع بسبب تركم طبقات التراب والمياه فوقها منذ أكثر من 10 سنوات، إضافة إلى أن أغلب مناطق بنغازي هي مناطق سبخية يصعب العمل فيها".
وأضاف أن "ضغط الجدول الزمني المفروض علينا زاد من صعوبة المهمة، فبعض المشاريع التي تنجز عادة في فترة زمنية تصل لشهرين أو ثلاثة أشهر وقعنا عقود تلزمنا بتسليمها في فترة شهر واحد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تحجيم البطالة
وفي زمن الشدة والضائقة الاقتصادية التي تضرب الدنيا وما فيها وتترك بصمات أكبر وأكثر تأثيراً في الدول التي تحاصرها الأزمات السياسية والاقتصادية مثل ليبيا، يعتبر أي مشروع تنموي وخطة للبناء طوق نجاة لكثير من الباحثين عن فرص عمل ومصدر للرزق.
وتظهر أهمية هذا المشروع لمدينة تعتبر ثاني أكبر مدن البلاد ويزيد عدد سكانها على مليون نسمة عند الاستشهاد بالأرقام التي تقدر معدل العاطلين عن العمل من الشباب في ليبيا بنحو 20 في المئة من عددهم الإجمالي، بحسب تقديرات الأمم المتحدة وتحديداً منظمة العمل الدولية وبعض المنظمات المحلية مثل مركز المعلومات والتوثيق الحكومي.
وبحسب المسؤولين عن خطة إعمار بنغازي تعتمد الشركات المنفذة لها على العمالة المحلية بنسبة لا تقل عن 60 في المئة وبعضها يعتمد على سواعد ليبية بشكل كامل، مثل الشركة التي يديرها الدرسي، الذي أوضح أن "كل المهندسين الذين يشرفون على تنفيذ مشاريع الشركة هم من العنصر المحلي والعمال الذين يقومون بأعمال الرصف والبناء والصيانة هم من الليبيين أيضاً، وهي ظاهرة غير معهودة في سنوات مضت، حيث كانت العمالة عادة في كل المشاريع المماثلة من الأجانب".
معضلة العشوائيات
وبحسب القائمين على أعمال البناء والتطوير في بنغازي كانت معضلة العشوائيات من أهم المشكلات التي واجهتهم عند شروعهم في تنفيذ الخطة في المناطق المحددة بالمرحلة الأولى.
ويشرح رواد العبدلي، المشرف على متابعة المشاريع بغرفة الطوارئ التي تدير حملة الإعمار، الكيفية التي تم التعامل بها مع هذه المشكلة وحلها، قائلاً "حلت هذه المشكلة بالتفاوض مع المخالفين الذين شيدوا مباني في ممتلكات حكومية بعضها كان يعيق تنفيذ المشاريع، وتم إخراجهم بالإجراءات القانونية المتبعة، وسارت الأمور أسهل مما كان متوقعاً في هذه النقطة تحديداً، وتمت إزالة كل المباني العشوائية حالياً".
هاجس تغول الفساد
ومنذ انطلاق خطة الإعمار الجديدة في بنغازي، تعالت الأصوات المنادية بتشديد الرقابة على أوجه الصرف للموازنة المحددة للمشروع والتأكد من مدى مطابقتها للمصروفات الحقيقية من دون زيادات مبالغ فيها، مثلما حدث في عشرات المشاريع التي نفذت في أرجاء بالبلاد خلال السنوات الأخيرة.
ويشير الصحافي معتز بلعيد، إلى أن "هاجس الفساد بات ملازماً لليبيين مع إعلان أي مشروع وخطة تنموية حكومية، مع سماعهم للأرقام الفلكية التي تم صرفها لهذه المشاريع من دون تنفيذ أغلبها أو تنفيذها بشكل جزئي مع ذهاب الموازنات المحددة أدراج الرياح لضعف الرقابة والمحاسبة وهشاشة سلطة الدولة".
وتابع "في بنغازي نحن نطالب بوضع نظام رقابي مشدد لتجنب ضياع المال العام، مثلما ضيعت مليارات من الدينارات من دون محاسبة المتسببين في إهدارها أو حتى تحديد المسؤولين عن هذا الفساد المخيف في كثير من الحالات".
سلسلة من المراقبين
عضو المكتب الإعلامي لمشروع إعمار بنغازي محمد العنيزي، شدد على أن "غرفة الطوارئ التي شكلتها الحكومة وضعت خطة رقابية مشددة لضمان عدم حدوث حالات فساد في المشاريع التي تشرف عليها بوجود مشرفين مكلفين بكل جزء في خطة الإعمار يشرف عليهم آخرون تابعون للغرفة، تتابعهم لجنة مراقبين تلتزم بمراجعة كل التفاصيل الخاصة بالمشاريع بداية من ضمان الجودة المتفق عليها وصولاً إلى أوجه صرف الموازنات المعتمدة لها".
وخلص إلى أن "الغرفة المسؤولة عن سير الأعمال في مشروع الإعمار تتفهم مخاوف المواطنين من حدوث فساد في المشاريع العامة بحكم التجارب السابقة، لكنها ستزيح كل هذه المخاوف عن نهاية كل مرحلة بالكشف عن كل التفاصيل المتعلقة بمشاريعها من الألف إلى الياء".