على بعد 11 كيلومتراً من نهر النيل، وغرب مدينة البلينا الواقعة في محافظة سوهاج 467 كيلومتراً جنوب القاهرة، أي تقريباً، في منتصف المسافة بين القاهرة وأسوان، توجد هذه المدينة المثيرة لتفكير علماء المصريات حول العالم، أبيدوس التي كانت إحدى مدن مصر العليا القديمة، ويجمع معظم علماء الآثار على أنها كانت عاصمة مصر الأولى في نهاية عصر ما قبل الأسر المعروفة.
أطلق الإغريق على تلك المدينة اسم "تنيس"، وفي بداية القرن الـ20 عرفت باسم "العرابة المدفونة"، حيث كانت مطمورة في الرمال، ويوجد بها معبد سيتي الأول، ومعبد لرمسيس الثاني.
كانت أبيدوس المركز الرئيس لعبادة الإله المصري الطيب أوزيريس، وكان غالبية المصريين القدماء يحجون إليها ليبكوا الإله أوزيريس حارس الحياة الأبدية وإله الغرب، وفيها اكتُشفت أقدم قوارب في التاريخ.
على أن ما يكسب أبيدوس فرادتها بنوع خاص، هو ذلك المعبد المثير، معبد الأوزيريون الذي يمكن اعتباره حامل أسرار التاريخ المصري القديم.
ما الأوزيريون، ومتى تم بناؤه، وما الذي يوجد على جدران حوائطه، ولا يعرف له نظير في بقية معابد مصر القديمة، وهل له علاقة بالفلك والنجوم، ما يشير إلى أبعاد جديدة غير معروفة في تاريخ مصر القديم؟
الأوزيريون وعلاقته بالإله أوزيريس
هو معبد صغير في شكله الخارجي، وواضح من اسمه أنه أنشئ تكريماً للمعبود أوزيريس، واكتشف عام 1926 من قبل عالمي الآثار الإنجليز مارغريت موراي وفلندرز بيتري، وذلك ضمن حملة استكشافية برئاسة عالم الآثار الهولندي المعروف هنري فرانكفورت.
والذين يقدر لهم زيارة المعبد اليوم يرون أنه من غير سقف، في حين أنه كان في الأصل مسقوفاً بالكامل ومحاطاً بصفوف من الأشجار.
كان المدخل من الجهة الغربية للمنشأة. من هناك ممر طويل متجه نحو الأسفل يقود الجانب الشرقي إلى غرفة مستطيلة خلفها غرفة ضيقة.
ولعل أهم ما في هذا المعبد، هو تلك اللوحات الموضوعة على جدران الممر، وتصور كتاب الكهوف على الجانب الشمالي الشرقي، وكتاب الموتى على الجدار المقابل.
هل الأوزيريون هو قبر الإله المصري الأسطورة أوزيريس، ولهذا كان يعد محجاً للمصريين القدماء؟
يعد أوزيريس إله البعث والحساب عند المصريين وهو رئيس محكمة الموتى، وطبقاً للأسطورة المصرية القديمة كان أوزيريس أخاً لإيزيس ونيفتيس وست، وتزوج من إيزيس ووالدهم جب إله الأرض، ونوت إلهة السماء.
بحسب الأسطورة المصرية، فإن أوزيريس قد قتل على يد أخيه الشرير ست الذي أضحى رمزاً للشر في تاريخ الأمة المصرية القديمة.
لكن كيف قتل ست أوزيريس الطيب؟
بحسب الرواية، قام ست بعمل احتفالية عرض فيها تابوتاً رائعاً، قام الحاضرون بالنوم فيه، لكنه لم يكن مناسباً لأحد إلا لأخيه أوزيريس.
أغلق عليه ست التابوت وقطع أوصاله وألقاه في نهر النيل ورمى به في أنحاء متفرقة من البلاد.
بكت إيزيس زوجته كثيراً عليه ثم بدأت رحلتها بحثاً عن أشلائه، وفي كل مكان وجدت فيه جزءاً منه بنى المصريون المعابد، وكان أشهرها معبد أبيدوس الذي يؤرخ لهذه الحادثة، حيث وجدت رأس أوزيريس.
وفي معبد سيتي الأول أبو رمسيس الثاني الشهير، والواقع بالقرب من الأوزيريون، تشرح التصويرات الجدارية ما قامت به إيزيس من تجميع لجسد أوزيريس، وقد ربطت الأجزاء معاً، مبتكرة المومياء الأولى، واستخدمت تعاويذها السحرية لكي تعيد أوزيريس إلى الحياة، وهكذا بدأ أوزيريس جولته في العالم الآخر، ليصبح ملك الموتى، وقبل وفاة أوزيريس، كانت إيزيس قد حملت ابنهما حورس الذي كبر وهزم عمه الشرير ست، وانتقم لمقتل أبيه.
معبد أقدم من أهرام الجيزة
هل معبد الأوزيريون أقدم من أهرام الجيزة؟
الثابت أن هناك رفضاً كبيراً من عدد من علماء الآثار المصريين، لفكرة عمر الحضارة المصرية التي يرجعونها إلى 4000 – 3600 سنة قبل الميلاد، وهذا خطأ مجحف بالحضارة الإنسانية الأولى في التاريخ، ذلك لأن علم الآثار لا ينظر إليها نظرة إجمالية بمجمل عقيدتها وكشوفاتها وقرائن علومها.
غير أنه فلكياً وبالبراهين العلمية، يعود قبر أوزيريس المختفي في قلب الأوزيريون إلى سنة 10.600 قبل الميلاد، أي منذ 12.500 سنة على أقل تقدير، وهو أول قبر يبنى لمتوفى في التاريخ، كما أنه أول بناء بالحجر بناه بنو البشر وليس هرم الملك زوسر المدرج.
هل لهذا البناء، أي الأوزيريون، علاقة ما بعالم الفلك والنجوم، وما فوق سماء الكرة الأرضية؟
قبل الجواب، ربما يتوجب علينا وفي عجالة، البحث في علاقة المصريين القدماء بالفلك.
باختصار غير مخل، هناك علاقة ما بين المعالم السماوية والمعالم الأرضية، فعلى سبيل المثال كوكبة الجبار تبعد عن الأرض 1500 مليون سنة ضوئية، وهي تقع على المدار الاستوائي السماوي، كما أنها منظورة بشدة ووضوح، مما جعلها مدى التاريخ ملحوظة من الفلكيين في كل مكان. وفي النصف الشمالي من الأرض تكون الكوكبة منظورة بوضوح خلال الليل، من نوفمبر (تشرين الثاني) حتى أبريل (نيسان)، من كل عام.
وكما أن كوكبة الجبار تعتبر معلماً كونياً في السماء، فإن الهرم الأكبر هو المعلم الكوني على الأرض، وهو بناء مختلف عليه حتى الساعة، من حيث بانيه، وهو ما يشير إليه الباحث المصري المستشار محمد العشماوي، في مؤلفه "مصر صفحة السماء".
يرى العشماوي أن قوة إلهية كونية هي التي تقف وراء هذا البناء وليس البشر، وقد كان هذا الهرم، وسوف يظل خزانة العلوم والرياضيات والمعارف الكونية أبد الدهر، وهو مهبط كل ما يصدر عن كوكبة الجبار لينشر في الأرض، ويلهم به الجبابرة، أولئك الذين جاء ذكرهم في التوراة بنوع خاص، الذين هم أقرب إلى أن يكونوا كذلك.
ومن الكوكبة يمكن التواصل مع كثير من الكويكبات الأخرى، بسهولة ويسر.
وبالعودة إلى الأوزيريون، فقد كشف علم الفلك الأثري أنه بالعودة إلى ترتيب نجوم سماء العالم القديم إلى تسعة آلاف Cygnus التي تعرف باللغة العربية بـ"السوبر كمبيوترات الفلكية"، بدأ شيء بالظهور، فقد تبدت ظاهرة عجيبة جداً لتعامد قبر الأوزيريون مع كوكب الذنب Deneb وتحديداً في سنة 10500 ق.م. وبالذات مع ألمع نجوم الكوكبة، وهو نجم الذنب، الذي قرنه المصريون سابقاً بحورس الصقر ابن أوزيريس وهو ناشر جناحيه في السماء.
وفي عام 10.500 وعند الاعتدال الربيعي، يشرق نجم الذنب اللامع مع كوكبته تحت مجرة طريق درب اللبانة، ويبدأ بالصعود المستقيم الكامل فوق الأفق محاذياً مدخل المعبد الخلفي تماماً.
هل كشفت وكالة ناسا عن حقيقة ما في شأن معبد الأوزيريون؟
المثير أن وكالة الفضاء الأميركية، كشفت في قراءات معمقة لها أن هذه الكوكبة هي أكبر مصدر لأكثر أشكال الأشعة الكهرومغناطيسية طاقة واختراقاً، وهي "أشعة غاما"، والأكثر من ذلك أنها واحدة من أغنى مناطق تكوين النجوم المعروفة في مجرة درب اللبانة، أي إن كوكب الذنب هي منطقة ولادة نجوم. ولهذا السبب، فإن نقش سقف المقبرة كله يشير إلى أن معبد الأوزيريون، وتحديداً موضع قبر أوزيريس هو مكان ولادته فيه كنجم ساطع أو رمز إله في حياة بعد الموت، الأمر الذي يتطابق مع أسطورة أوزيريس بالمطلق.
عن كتاب الكهوف وممرات الأوزيريون
هل هناك أمر فريد آخر يظهر القيمة الكبرى لمعبد الأوزيريون في منطقة أبيدوس أو العرابة المدفونة؟
غالب الظن أن ذلك كذلك، ففي الممرات الداخلية للمعبد كتابات تخص الموتى والحساب بعد الموت، وتفاصيل عن الجنة والنار في العقيدة المصرية القديمة.
هذه النقوش تمثل أحد أهم الكتب في حياة المصري القديم، كتاب الكهوف أو المقابر، ويكاد تاريخه بدوره أن يكون غير متفق عليه.
على الجدار الأيسر من الأوزيريون، يسجل المصري القديم رحلة الانتقال من الأرض إلى العالم الآخر، وهي رحلة يمر فيها بإله الشمس فوق كهوف جهنم، التي فيها يجري تدمير أعداء الدولة المصرية، أي أعداء رع وأوزيريس، ويعطي كتاب الكهوف بعض الملامح حول هيكل الطبوغرافية المتصورة للعالم الآخر.
في كتاب المقابر، نجد كذلك رحلة إله الشمس رع، من الأفق الغربي إلى الأفق الشرقي عن طريق العالم السفلي، حيث يلتقي مجموعة من المخلوقات الإلهية، ويتفاعل معها.
يحتوي الكتاب على سبع لوحات ومشاهد رائعة تقترب من 80 مشهداً مختلفاً، وهي مقسمة إلى قسمين مع ثلاث لوحات لكل منهما، إضافة إلى اللوحة النهائية.
ولعل ما يميز كتاب الكهوف أو كتاب المقابر، هو أنه يميل إلى الناحية الوصفية أكثر كثيراً جداً من الجهة التصويرية، ومن كتب أدبية جنائزية عديدة عرفها المصري القديم، لا سيما في زمن الدولة الحديثة، ومنها كتاب "الآخرة" أو كتاب "البوابات".
غير أنه ومن المؤسف القول، إن النسخة الكاملة تقريباً المعروفة لنا من كتاب الكهوف تضررت مناظرها العلوية فقط، وهي الموجودة في مقبرة الأوزيريون.
هل عبارات كتاب المقابر موجودة في مقبرة الأوزيريون فحسب؟
مؤكد أن كل مقبرة فرعونية، كانت توجد بها بعض من تلك الكتابات، وهذا ما تم اكتشافه في مقبرة رمسيس السادس، وقد قام بترجمة عباراتها الأثري الإيطالي الشهير "إيبيلتو روسيليني" عام 1836، وكما أن الأثري الفرنسي الأشهر جان فرانسوا شامبليون، كان قد كتب كذلك عن كتاب الكهوف.
ولعله من المؤسف القول، إن علماء المصريات لم يبدوا اهتماماً واضحاً أو كافياً لكتاب المقابر، حتى قرن من الزمان، حيث ظهرت النسخة الكاملة للكتاب في الأوزيريون، غير أن الوضع تغير لاحقاً ففي عام 1933، قام هنري فرانكفورت الأثري الهولندي، بنشر أول ترجمة كاملة للكتاب بمساعدة أدريان دي باك.
وبين عامي 1942 و1945، نشر ألكسندر بيانكوف ترجمة فرنسية للكتاب تلاه ترجمة إلى الألمانية من قبل إريك هورنونغ عالم المصريات السويسري الشهير، وترجمة قام هورنونغ للكتاب من الألمانية إلى الإنجليزية.
أما أحدث طبعات كتاب الكهوف أو الموتى، فهي تلك التي نشرها الباحث الألماني، دانيال فير نينج، استناداً إلى النص الجديد المنقح المطبوع.
على أن التساؤل المطروح: هل كتاب المقابر أو الكهوف، يمكن أن يعطينا فكرة عن واحدة من أهم رؤى المصري القديم، عما يعرف بـ"الأرض والمحيط الأزلي"؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الأرض وفكرة المحيط الأزلي
نظر المصري القديم للكون نظرة شاملة كلية، وقد اعتبر أن الموت ليس سوى رحلة تكمل مسيرة الحياة، ومن هنا ذهبوا في تفكيرهم إلى أن هناك عالماً آخر في باطن الأرض، أطلقوا عليه العالم "تحت- أرضي"، الذي تصل إليه أرواح الموتى عن طريق المقبرة، وربما يفسر هذا المذهب الروحي لقدماء المصريين، الأهمية الكبرى، بل العظمى التي أولوها لمقابرهم التي تشهد بعظمة حضارتهم حتى الساعة، وإن كان هناك اختلاف واضح حتى الساعة، حول ما إذا كان الهرم الأكبر هو مقبرة للفعل للفرعون خوفو أم أن له مهام أخرى، كما ذهب العالم الأميركي تسلا الذي اعتبر الهرم مركز طاقة للكون، وهذه قصة لنا معها عودة في قراءة مقبلة.
وفي كل الأحوال يمكننا القول، إن هذا العالم الآخر قد احتل أهمية كبرى في الفكر الديني المصري باعتباره الوجهة التي تقصدها الأرواح بعد الموت، وأطلق عليه قدماء المصريين عديداً من الأسماء أهمها على الإطلاق اسم "دوات"، وهي كلمة تترجم عادة بمعنى العالم السفلي.
وفي الوقت عينه اعتقدوا أن للأرض سطحاً باطنياً سفلياً، تضيئه الشمس حين ترتحل ليلاً، ولكن لا أحد يعرف أين يقع هذا السطح الباطني أو السفلي على وجه التحديد، وربما كان موضعه في مياه الأزل "نون"، ومنها اكتسب الظلمة التي دائماً ما ترتبط به.
ومن سطح الأرض وجوفها، جاءت نظرة المحيط الأزلي للأرض، وقد سماه المصريون "نون".
وصفت "نون" في كتب "العالم الآخر" بأنها هاوية سحيقة ليس لها قاع، كما وصفت بأنها مياه أو محيط لا نهائي من المياه وارتبطت "نون" في الفكر الديني المصري بأسطورة الخلق، التي وصفها بأنها، أي "نون"، هي المصدر أو الينبوع الذي انبثق منه كل شيء.
كما اعتقد قدماء المصريين أن الأرض ترتبط فيزيائياً بالمحيط الأزلي، ويتضح ذلك من النصوص المصرية القدمية التي تقول إن مياه الأزل هي الأصل الذي ينبع منه نهر النيل.
يؤكد "آلان ف. الفورد"، الباحث الشهير في علوم المصريات، أن المصريين آمنوا بأنه من المحيط الأزلي "نون" كما تؤكد متون الأهرام ومتون التوابيت، جاءت فكرة انفصال السماء في الأزل عن الأرض وعن المحيط الأزلي، حيث أصبح كل من الأرض والمحيط الأزلي هما مركز الكون.
هل تكشفت جميع أسرار الأوزيريون حتى الساعة؟
أغلب الظن أن هذا المبنى السري لا يزال يحفظ كثيراً من الأسرار عن مصر القديمة، ومصر ما قبل التاريخ، في انتظار من يجلو تلك الدقائق، من أحاجي الإنسانية وحكايا الزمان.