هي ثلاثة هواجس تشغل أورهان باموق خارج إطار نتاجه الروائي الذي جعل له مكانة كبيرة في العالم منذ ما لا يقل عن ربع قرن: قضية الحرية في بلده الذي بات منذ سنوات متأرجحاً بين الأصولية الدينية وحكم العسكر، وقضية التاريخ التركي الحديث الذي يحمل على جبينه لطخات تتمثل في الظلم المحيق بأقليات ولا سيما منها الأقلية الأرمينية والأقلية الكردية، وذلك إلى جانب تاريخ مدينته إسطنبول. فمثل ارتباط جيمس جويس بدبلن وارتباط نجيب محفوظ بالقاهرة وارتباط غابريال غارثيا ماركيز بماكوندو كان ولا يزال، ارتباط الكاتب أورهان باموق، الروائي التركي الفائز ذات عام بجائزة نوبل للآداب، بمدينته إسطنبول هو الذي لم يكتف بأن يجعلها المكان الأثير لأحداث رواياته الكبرى بالكاد تخرج منها، بل إنه حتى في واحدة من تلك الروايات "ثلج" انطلق منها وعاد إليها، وإن كانت الأحداث الأساسية تدور في كارس على بعد مئات الكيلومترات إلى الشرق الشمالي من إسطنبول. ونعرف أن باموق خص تلك المدينة قبل سنوات بكتاب عنوانه بالتحديد "إسطنبول" كرسه للمدينة ولتاريخها وجغرافيتها مركزاً على تعلقه بها. ولم يكن كتاب "إسطنبول" رواية تتولى المدينة بطولتها كحال "الكتاب الأسود" أو "اسمي أحمر" أو "ذلك الشيء الغريب داخلي" أو حتى "متحف البراءة".
كيف ولد كتاب المدينة؟
والحال أن هذا الكتاب قد نال من النجاح في تركيا كما في اللغات العديدة التي ترجم إليها، مما جعل باموق يصدر منه بعد فترة يسيرة طبعة أنيقة مصورة أضيفت إلى النص فيها مجموعة صور ولوحات تتغنى بتاريخ المدينة وجمالها وتعبر عن ذلك الارتباط بين إسطنبول وكاتبها الذي يتبدى ارتباطه بها متميزاً عن ارتباط أي كاتب بأية مدينة. ففي نهاية الأمر يبدي تعلق كاتب كبير من طينة نجيب محفوظ بالقاهرة هذه المدينة وكأنها ديكور أو مجرد مكان تجري فيه الأحداث، وتعلق جويس بالعاصمة الإيرلندية نوعاً من فانتازيا تصبح معه المدينة شخصية أخرى يجابهها البطل في جولة اليوم الواحد لا أكثر. أما إسطنبول باموق ولا سيما في الكتاب الذي يكرسه لها فكانت من لحم ودم بل كمعشوقة لا يمكن للعاشق أن يعيش من دونها. وقد يكون في إمكاننا أن نذكر هنا أن هذا الكتاب بالتحديد لم يثر شهية النقاد لتناوله في نصوص مبدعة كما يحدث عادة لكل ما ينتجه أورهان باموق، لكن هذا الأخير نفسه لم يضن على كتابه الذي سيقول لاحقاً إنه بات من أحب كتبه إلى نفسه، بالعناية والغزل ومن هنا كانت تلك السلسلة الطويلة من الكتابات والتعليقات التي نشرها من حوله، بيد أن الأجمل بين تلك التعليقات واحد استبق بسنوات صدور ذلك الكتاب ليبدو نوعاً من التقديم له يجيب عن سؤال بسيط: كيف ولد هذا الكتاب لدى الكاتب. وهو نص اختص به محطة "بي بي سي"، ضمن إطار برنامج أدبي أسبوعي كانت تبثه إذاعياً خلال عام 2003. في ذلك الحين طلب أصحاب البرنامج من باموق، الذي سيفوز بجائزة نوبل للآداب بعد ذلك بعامين، أن يتحدث عن مدينته، في وقت كان يكتب فيه روايته "اسمي أحمر"، فكان هذا النص. الذي سيقول لاحقاً إنه كان الأساس الذي بنى عليه بعد سنوات مئات الصفحات التي ستشكل كتاب "إسطنبول".
بين جويس وباموق
"حين كنت أنجز (اسمي أحمر)، راودت ذهني على الأرجح أفكار، منها فكرة ترى أن النقاد قد يكتبون يوماً ما وهم في صدد الحديث عن هذا الكتاب: ها هو ذا باموق يفعل لإسطنبول ما فعله جيمس جويس لمدينة دبلن (في يوليسيس). فالحال أنني فيما كنت أكتب هذا النص وأتخيله ككتاب حديث وطموح، كان يجول في رأسي، بالتأكيد، طيف جيمس جويس... وأفكر في ما فعله جويس لمدينته. وهنا، على سبيل أنا أستخلص لنفسي ما كان عليه الأمر بالنسبة إلى جويس، أقول إنه نظر إلى مدينته كما أنظر إلى مدينتي الآن، باعتبارها مدينة تقع على هوامش أوروبا، أكثر مما توجد من نقطة المركز منها". وفي هذا الإطار يستطرد باموق قائلاً إن من الطبيعي والمؤكد أن المرء إذا عاش في هذه الزاوية من العالم سوف تستحوذ عليه كل هواجس وقلق النزعة القومية، وسيقول لنفسه إن بلده مهم جداً، وإن مدينته فائقة الأهمية. "إذاً، حين يخامرك هذا الشعور سيكون من شأنك على الفور أن تسحب مدينتك من زاويتها الهامشية لتجعلها تبدو وتقرأ وكأنها باريس أو لندن -كأنها باريس بلزاك، ولندن تشارلز ديكنز- بمعنى أنها على الفور سوف تعثر على مكانها ومكانتها في خريطة العالم الأدبي".
مجرة من صور
وانطلاقاً من هذا التصور يستخلص الكاتب أن حياة المدينة، حياة المناطق العمرانية، الحياة في المدن، هي في الواقع "أشبه بالعيش في مجرة من صور لا أهمية لها، متأرجحة، حمقاء وعبثية. غير أن نظرتك تكون هي ما يعطي معنى غريباً وغامضاً لهذه التفاصيل الصغيرة العائدة إلى الشوارع، إلى الأسفلت أو للطرق ذات الحجارة بدلاً من الأسفلت، إلى الإعلانات والبائعات، إلى مواقف الباصات، والمداخن والنوافذ". ويقيناً بالتالي بالنسبة إلى باموق أن كل هذه الأشياء الصغيرة أو الكبيرة هي التي تشكل نسيج المدينة، وكل مدينة تبدو، في هذا السياق، مختلفة عن غيرها. "ولعل هذا ما يجعل من المستحيل عليك أن تعطي صورة للمدينة عبر بطاقة بريدية. صورة المدينة تأتي من مذاق هذا النسيج... وهذا ما فعلته أنا بإسطنبول".
ذكريات متعددة
ويعود باموق هنا إلى ذكريات مزدوجة هي ذكريات المدينة وذكرياته هو في المدينة وعنها ليقول، "أذكر أن الكاتب الفرنسي جيرار دي نرفال، كان شخصاً يميل إلى الإحباط، وشاعراً، أتى إلى هنا ليكتب كتاباً ضخماً، سميكاً وغريباً سماه (رحلة إلى الشرق). لقد كان كتاباً طموحاً متلوناً في بعض الأحيان... بيد أن مقاطع عديدة منه أتت رائعة. بعده جاء مواطنه وصديقه تيوفيل غوتييه ليضع عن إسطنبول كتاباً مثيراً للاهتمام... غير أن أفضل كتاب وضعه أجنبي عن إسطنبول حتى الآن هو ذاك الذي كتبه مؤلف روايات الأطفال الإيطالي إدموندو دي آميشي. كان كتاباً في أدب الرحلات للناشئة. ولقد كان هذا الكتاب من النجاح بحيث إنه ترجم من الإيطالية إلى لغات عديدة. وكانت مثلاً فصول منه تحكي عن كلاب إسطنبول أو عن شوارع في إسطنبول فريدة من نوعها". ويستطرد باموق "كيف أن آخرين أتوا بعد أولئك ليرسموا صورة غرائبية مثيرة لإسطنبول، لكن هؤلاء لم يدركوا حقيقة نسيج المدينة. تنبهوا إلى النصب والمباني والتفتوا إلى كل ما هو غرائبي وغريب... مضيفين إلى هذا كله ألواناً من عندهم ليس لها أدنى وجود في إسطنبول الحقيقة (...)".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أصوات المدن
ولا يجد باموق بداً هنا كما يؤكد من أن يذكر أمراً مهماً، هو الأصوات التي يمكن لزائر المدينة الحقيقي والكاتب عنها أن يسمعها. إنها تكون عادة خاصة بالمدينة، تكون طابعها. في المدن الغربية يكون صوت مترو الأعماق شديد الخصوصية، مثلاً، ويبقى مالئاً روحك وذهنك فيعود في أية لحظة، عبر مشهد في فيلم، أو حتى حين تستيقظ ذكرى المدينة في خيالك ذات لحظة. أما في إسطنبول فإن الصوت الأكثر حضوراً هو صوت صفارات المراكب، وحريق الفحم داخل المداخن، وأمواج البوسفور وهي تخبط الأرصفة، والمراكب الصغيرة الضيقة وهي تسري تحت النوارس المحلقة. ويؤكد باموق قائلاً "وما هذه كلها سوى الأشياء التي ما إن أغمض عيني حتى تتسارع عائدة إلى مخيلتي حتى ولو كنت في الطرف الآخر من العالم، جاعلة إسطنبول تبزغ أمام عيني روحي بشكل مباغت".
تاريخان في واحد
والحقيقة أن القارئ المداوم على قراءة روايات باموق "الإسطنبولية" لا يمكنه وهو يستمع إلى هذا النص أو يقرأه إلا أن يستعيد هو الآخر في ذاكرته مشاهد بالعشرات بل بالمئات تطفو أمام ناظريه، منبثقة من هذه العبارات التي تبدو في ظاهرها بسيطة وبصرية. ويبدو أن هذا الشعور هو الذي حرك باموق بعد فترة لكتابة صفحات كتاب "إسطنبول" الذي يبدو بدوره مؤسساً على تلك المشاعر والصور، مقدماً نوعاً من التلخيص لواقع المدينة وحياتها وتاريخها، تلخيصاً ندر أن كان من حظ مدينة أخرى أن تناله بقلم مؤرخها الذي يبدو هنا في نهاية الأمر وكأنه مزج تاريخه وتاريخها في بوتقة واحدة.