ربما ستنجح اعتذارات دار الأزياء الفرنسية "بالنسياغا" المتكررة في طي صفحة إساءتها للأطفال، لأن مساحة الغفران لماركات الأزياء الفاخرة الكبرى تبدو واسعة، والتعاطي معها يحمل مرونة على رغم الصعوبات التي لا يمكن إنكارها.
وبحسب نماذج سابقة فقد تجاوزت كبرى دور الموضة أزمات ضخمة تتعلق بالعنصرية والإساءة، لكن القضايا السابقة لم تتضمن استخدام الأطفال، وبالتالي كان الأمر أسهل قليلاً ومر باعتذارات وسحب إعلانات ومحاولات لإيضاح وجهات النظر، لذا فإن "بالنسياغا" على الأقل ستبقى تحت وطأة الهجوم لوقت أطول.
الدار التي أظهرت في حملتها الدعائية الجديدة أطفالاً يحملون دمى ترتدي أكسسوارات وملابس ذات طابع جنسي سادي، صدمت المتعاونين معها من المشاهير قبل الجمهور العادي، لكن الحقيقة أن البطولة المطلقة كانت لرواد مواقع التواصل الاجتماعي الذين قادوا هجوماً مضاداً فور أن انطلقت الحملة الدعائية، كما كانوا بالمرصاد لتفاصيل كثيرة جعلت التوجه المسيء يظهر وكأنه متعمد تماماً، بعكس ما تدعي الشركة المملوكة لمجموعة "كيرينغ" الفرنسية، إذ لا تزال تكافح من أجل إثبات "سلامة نياتها"، مذكرة المتابعين بمواقف سابقة شديدة الإحراج وقعت فيها دور أزياء عريقة وذائعة الصيت.
اعتذارات ومقاطعة
وأصدرت "بالنسياغا" أكثر من بيان اعتذار، أحدها مبدئي والآخر جاء بعد تصاعد الهجوم، لا سيما من قبل نجمة تلفزيون الواقع كيم كارداشيان التي أبدت استياءها كأم لأربعة أطفال وكإحدى أبرز الوجوه المروجة لإصدارات الدار في مجال الموضة، مؤكدة أنها ستعيد النظر في شراكتها المهنية معهم.
لكن لا تزال هناك علامات استفهام لا يتوقف المغردون عن طرحها، ومنها أنه إذا كانت المؤسسة تنفي أي تعمد لإظهار الأطفال بهذا الشكل في حملتها، فلماذا أوضحت إحدى الصور الإعلانية وثائق تتضمن صراحة رأي المحكمة العليا الأميركية في قضية سابقة خاصة باستغلال الأطفال في المواد الإباحية، وهو السؤال الذي تم التهرب من الإجابة عليه بشكل مباشر في بيانات الدار الرسمية، إذ تعمل الآلة الإعلامية لـ "بالنسياغا" على طريقة صد الهجوم والاعتراف بالخطأ وتحمل المسؤولية، لكن من دون الدخول في فنيات الصور أو تفنيد تفاصيلها كما ينبغي.
ومن أبرز من دعوا إلى مقاطعة العلامة التجارية بخلاف كيم كارداشيان، المذيع تاكر كلاركسون والعارضة بيلا حديد، وعربياً الفنانة غادة عبدالرازق والمذيع وسام بريدي، وعدد من مدونات الموضة بينهن التونسية ريم سعيدي التي ظهرت وهي تمزق تصميماً لـ "بالنسياغا" في تعبير منها عن رفض استغلال الأطفال.
أرشيف الإساءة
وبالنظر إلى تاريخ ماركات الموضة العالمية الأكثر شهرة، فهناك دائماً رغبة في تقديم أشياء إبداعية غير مألوفة، وقد تكون صادمة سواء في العروض أو في خط الدعاية الذي تعتمده، لكن عدم قراءة المشهد بشكل متوازن تكون عواقبه وخيمة عادة، وبالتالي فهذا النوع من الأزمات متكرر بشكل غير مفهوم في هذا المجال، فدار "دولتشي أند غابانا" واجهت مشكلة عصيبة في الصين عام 2018 على خلفية حملة دعائية مصورة بالفيديو ظهرت فيها عارضة صينية وهي تحاول تناول الطعام الإيطالي باستخدام العصى الصينية "تشوبستيكس"، فيما يتردد صوت ينصحها بلهجة وصفت بالمتعالية بأصول أكل البيتزا والمعجنات الإيطالية.
واتهم الإعلان وقتها بالعنصرية والسخرية المتعمدة من الثقافة الصينية وكذلك اللغة، إذ أظهر مقطع آخر العارضة وهي تحاول نطق اسم الماركة الإيطالية البارزة بلكنة صينية. وعلى إثر هذا الهجوم تراجعت "دولتشي أند غابانا" حينها عن عرض أزياء كان مقرراً إقامته في الصين بعد اتهامات للشريك المؤسس ستيفانو غابانا ببثه رسائل كراهية تجاه الشعب الصيني، وإن نفى هو تلك الادعاءات في ما بعد مما جعل جميع العارضات الصينيات ينسحبن من التظاهرة، بل ويدعون أبناء بلدهم البالغ تعداده أكثر من 1.4 مليار شخص إلى عدم شراء منتجات الدار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان هجوم حاد آخر تعرض له بيت الأزياء الإيطالي عام 2013 حينما اتهم بالعنصرية تجاه شعب هونغ كونغ بسبب رفض العاملين بمتاجر الدار أن يقوم السكان المحليون بتصوير المعروضات، في حين كان الأمر متاحاً ومفتوحاً للسياح الأجانب.
العاصفة التي واجهتها "دولتشي أند غابانا" كانت قاسية، فالتعامل بحساسية مع ثقافات الشعوب أمر بالغ الأهمية، لكن مسؤولي الدعاية لم ينتبهوا إليه على ما يبدو، لا سيما أن السوق الصينية الضخمة تعتبر مقصداً أساساً لأية مؤسسة تجارية، وبالتالي تكرر اعتذار الإدارة أكثر من مرة، لكنها لا تزال تعاني تداعيات تلك المسألة خصوصاً أنها تواجه اتهامات أيضاً بالعنصرية تجاه الأفارقة كذلك، وهو ما جعل نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس تتعرض العام الماضي لحملة انتقادات لاذعة بسبب ارتدائها كنزة من توقيع الدار، إذ اتهمت بالتناقض في توجهاتها السياسية القائمة على التنوع وإعطاء الفرص للمهمشين، فيما هي ترتدي قطعة ملابس باهظة من علامة طالما اتهمت بتوجيه رسائل عنصرية وعدائية.
من جانبها حاولت الدار خلال الفترة الماضية تكثيف حملاتها الترويجية مع نجمات شهيرات محبوبات مثل جينفير لوبيز وشارون ستون من أجل الإسهام في محو الصورة الذهنية السلبية لديها، كما توسعت عربياً وتعاونت مع عشرات النجمات والمؤثرات.
خسائر مالية وأدبية
الإيحاءات الجنسية كانت أيضاً محركاً وراء حملة مضادة لشركة "أديداس" للمنتجات الرياضية، إذ تعرضت لهجوم رسمي وشعبي كبير في البرازيل عام 2014، خلال الفترة التي سبقت انطلاق مباريات كأس العالم هناك، بسبب حملتها الدعائية لقمصان صممت خصيصاً احتفالاً بتلك المناسبة، وكانت تتضمن إيحاءات جنسية صريحة مما سبب انزعاجاً كبيراً على أكثر من مستوى.
وعلى رغم أن المنتجات كانت قد طرحت حينها في الولايات المتحدة الأميركية فقط ولم تكن قد وصلت إلى الدولة المضيفة للبطولة، لكن الجهات الرسمية في الدولة لم تتوان عن إيصال رسالتها الرافضة والغاضبة في ظل جهودها لمكافحة السياحة الجنسية في ذلك الوقت، وسرعان ما سحبت "أديداس" خطتها لتسويق المنتجات وقدمت اعتذارها الذي عبرت فيه عن اهتمامها بالآراء المتداولة، وأوقفت بيع المنتجات التي كانت تظهر الفتيات البرازليات بشكل غير لائق.
وفي عام 2012 اضطرت "أديداس" أيضاً إلى وقف إنتاح خط أحذية رياضية كانت تعتزم تسويقه بسبب وصفه بأنه يذكر بأيام العبودية، في حين خسرت شركة "نايكي" قبل ثلاثة أعوام دعماً مالياً قدره مليون دولار من ولاية أريزونا الأميركية كانت ستسخدمها في بناء مصنع جديد لها، بسبب طرحها حذاء في ذلك الوقت يحمل صورة للعلم الأميركي إبان فترة الاستقلال عن إنجلترا، إذ يعتبره بعضهم رمزاً للثقافة العنصرية والعبودية أيضاً، وكان القوميون البيض يستخدمونه شعاراً لهم وكذلك الحزب النازي الأميركي، وتكبدت "نايكي" خسائر فادحة بسبب حذائها الذي كان يباع بـ 1500 دولار قبل أن ينجح الضعط الشعبي والسياسي في إثنائها عن طرحه.
وقبل عامين أثارت المغنية والممثلة ريهانا غضباً عارماً واتهامات بالإساءة إلى الأديان بعد أن استخدمت موسيقى أغنية دينية في عرض أزياء للملابس الداخلية خاصة بعلامتها التجارية، وواجهت الممثلة وقتها سيلاً من التغريدات السلبية من المسلمين الذين اعتبروا أنها تقصد الإساءة المتعمدة، قبل أن تعود الشركة وتستبدل المقطوعة الموسيقية.
دور أزياء شهيرة مثل "برادا" و"غوتشي" وكذلك معهد الموضة والتكنولوجيا الأميركي تعرضوا لاتهامات بالسخرية والعنصرية سواء من ذوي العرق الأسود أو ممن يعانون أزمات الصحة العقلية وغيرهم، وفي كل مرة تبادر تلك العلامات وتعتذر وتحاول تبرير الموقف بأنه غير مقصود، ومع ذلك يتكرر الأمر على نحو لافت بين حين وآخر.