في حين لجأت تجارب شعرية سابقة إلى الاحتماء بالقصائد بوصفها أبنية استثنائية وعوالم بديلة موازية، تتسع لحيوات أخرى وترفض الواقع الراهن ولا تتقاطع معه، فإن مجموعة من أحدث الدواوين العربية تكاد تلتقي، على الجانب المضاد، في نبذها فكرة إعادة صياغة الوجود جمالياً، كما أنها تزهد تماماً في الإيمان بقدرة القصيدة على الثبات والاستقرار كقلعة في مهب العواصف العاتية، التي تزيح كل ما هو أمامها، ولا تبقي أثراً للكلمات.
وتراهن هذه الأعمال الشعرية الجديدة، ببساطة، على ما تحصده بيدها بشكل مباشر من مرارة وأسى وأسف ووجع وجراح في معترك الصراع اليومي للإنسان العصري المغلوب على أمره. فهي إذا جاز التعبير، قصائد الاحتفاء بالألم والخسارة والدمار والشتات وانهيار البشر والكلمات معاً. وهي قصائد مواجهة الوحوش الكواسر والحروب الضواري وألسنة اللهب والأدخنة، بغير عتاد صالح. وهي قصائد التفاعل مع حقائق بائسة ينبغي تصديقها، تؤكد تشرذم الأرواح وتشظي الأجساد وتفتت ملامح الحياة في نثارات صغيرة هاربة.
ومن هذه المجموعات، يمكن التوقف عند ثلاثة دواوين صادرة حديثاً، تبتغي جمالياتها في فوهات البراكين ومساحات الخرائب وميادين الدماء، وتنسج حروفها الهشة النيئة التي ستتبخر حتماً مثل كل زائل في الكون المنهار بأكمله. وهذه الدواوين هي "هم احتطبوا دمي" لليمني محيي الدين جرمة، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، و"سمكة زينة في صحن الخلود" للمصرية رضا أحمد، الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بعد فوزه بالجائزة المركزية في الشعر، و"جغرافيا الحساسية" للمصرية أسماء حسين، الصادر عن دار "رواشن" للنشر إثر نيله جائزة محمد عفيفي مطر للشعراء العرب.
وحشة الحروب
في عمله الجديد "هم احتطبوا دمي"، يطرح الشاعر اليمني محيي الدين جرمة، صاحب المجموعتين الشعريتين "غيمة جرحت ماءها" و"حافلة تعمل بالدخان والأغاني الرديئة"، عبر 25 قصيدة استغرقت 145 صفحة، تفاصيل البقاء المرعب، دونما نوم ولا يقظة، في عراء الحروب، حيث لا خبز يكفي للبقاء على الأرض، ولا للطيران إلى ما وراء الطبيعة، ولا أمل في نجاة مستحيلة بعد هذه الخسارات التي طالت الجميع "حفاة نسير بلا جهة، قبل أن نبلغ الفجر/ فرادى نقلم أظفار أحلامنا، في الطريق إلى فشل الكل".
وإذا كان هناك مجال للاحتطاب في هذا العالم فهو احتطاب للدماء. وإذا كان هناك إزهار في هذه الحياة فهو أيضاً إزهار للدماء التي لا يتوقف نزيفها "هذا دمي قلت، هذا دمي، ثم أزهرت". أما خصوصية الشاعر في هذا التوقيت الذي يستوي فيه الراحلون ببلوغهم مراحل الفناء والعدم، فهي أنه يصير بقصيدته الحمراء معبراً أو جسراً للمارين من الدم إلى الدم، فيما تغلق السماء بدورها أبوابها في وجه الطيور المتشبثة بالأغنيات "أنا طائرك المتشرد في الأغنية/ لا سماء لأجنحتي لأطير، ولا ورد لي فيك/ لا شيء غير دمي الآدمي".
وبمنظور الشاعر محيي الدين جرمة فإن تمزق حنايا القلب هو صورة لتقطع أوصال بلاده، وتبدل قبلتها لتصير "قبلة الحرب"، بعد أن كانت قبلتها وقبلة قلبه هي "قبلة الحب". ومع الهبوب المتواصل للريح والرمل، يخبو الحلم القديم تماماً "أيها المترفون بأوجاعنا: لم غيبتم الحلم عنا سراعاً؟"، كما يصير الفعل اليومي المتكرر هو الطفو على الوجع، انتظاراً للغرق الوشيك، وارتقاباً لرصاصات الرحمة، حيث يتحول كل جسد وكل روح وكل كائن وكل مكان وكل زمان إلى حطام بارد متناثر "نقلب أيامنا حطباً في كتاب، نحشو بالجوع أفواهنا، كرصاص قديم، نثرناه شظايا".
هاجس الموت
وفي ديوانها الجديد "سمكة زينة في صحن الخلود"، لا تكتفي الشاعرة رضا أحمد، صاحبة المجموعات الشعرية "لهم ما ليس لآذار" و"قبلات مستعارة" و"أكلنا من شجرته المفضلة" و"الاعتراف خطأ شائع"، بتوقع الهلاك الحتمي، لكنها تتهيأ لحضور الموت راضية مستسلمة، كما لو أنها تتزين له، فهي العروس التي اعتادت الهزائم القاسية ومعاني الوجع والظلم والخيبة، وهي في نهاية المطاف لن تزف إلا للموت الجائع، ومن بعده ستقيم السماء سرادقات ودية لها، لتوزيع سيرتها على أكثر من وريث "جاهزة للموت بلا أنياب/ جرى كل شيء على نقيض ما تتمنى الغابة، بوفرة من الأرانب، وبوفرة منا".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتمضي الشاعرة عبر أكثر من 70 قصيدة نثرية استغرقت 212 صفحة، في سرد تفاصيل معاناة الإنسان وآلامه المبرحة في عالم موحش، وحشي، مظلم، تسكنه السباع والضباع التي تعمل بجد في ورديتها الليلية التي لا تنتهي "وقعت أحداث كل القصص التي أعرفها في الليل، حيث الوحوش تتسلم ورديتها، ببصمة إصبع وصرخة ألم".
ووسط كومة من الانهيارات الفريدة، لا تسعى الذات الشاعرة إلى التخلص من عذاباتها، ولا تفتش عن علاجات للخوف والحزن والكآبة والأذى، كي لا تفقد مكابداتها اليومية المفضلة، ومتعة تحسس الجروح النشطة التي تجعلها تصدق إنسانيتها، وسط كل ما يحدث من خراب مذهل، وما يجري من تعفن للحياة أسفل ساعة الحائط "فريدة هي انهياراتك/ سيل يخطفك مثل نسمة باردة/ ولا يعيد إليك الغبار الذي كان يسند ظهرك/ ويثقل جسدك في وقفته البليدة/ أجلس في موضع الألم/ أنثر رماد قلبي وندف أحلامي/ وأقول إنني بالكاد اقتربت من جرحي".
محطات القسوة
وفي عملها الجديد "جغرافيا الحساسية"، تعترف الشاعرة أسماء حسين، صاحبة المجموعة الشعرية "أجمل الوحوش التي عضت روحي" وبعض المجموعات القصصية، بعدم قدرة الكلمات على فعل أي شيء في مواجهة ما يحدث من انهيارات "أنا لست بارعة في الكتابة، بل في الندم". وتقف الكلمات عاجزة حتى عن وصف ما نستشعره ونفكر فيه، على حد قول فيودور دوستويفسكي "تتعذب أحياناً لأن أفكارك لا تسعها قوالب الألفاظ".
وعبر مجموعة قصائدها النثرية متفاوتة الطول، التي استغرقت 192 صفحة، تتقصى الذات الشاعرة محطات ماراثون القسوة، والحالات المتتالية لهذا الانكسار الكامل، الذي جعل الشجاعة بلا معنى، والنهوض بلا طائل "أزحف على بطني، كما المبتور/ لا أستطيع الوقوف على قدمي، لا أقوى على النهوض/ لم أعد شجاعاً يا عزيزتي، لقد كسروني بالكامل". وهي تحاول تقسيط فاتورتها مع الحياة، بلا جدوى، فتعود للهرب، وتظل تزحف "بإصرار، وعناد، ويأس، وبكل ما تملك من الفقد، وخيبات الأمل"، لكنها لا تبلغ النور أبداً "في نهاية هذا النفق".
هي رحلة الإحباط والتلاشي صوب حشرجة الموت، فوق عفن المدينة وعهرها، ووسط أظافرها ووحوشها ووحلها وشهواتها، وعيون الزومبي الطافية بشوارعها، وزنازينها التي تفتح أفواهها، على حد ما تصف الشاعرة. وهكذا، تتهاوى الشعارات كافة، بما فيها مفاهيم الوطنية والعدالة وحقوق الإنسان، أمام سيناريوهات الرعب ونهش الأرواح والأبدان "جسدي كأي جسد حي، لا يعرف ماذا يفعل شعار اليونيسف، خلف أطفال لا يمكنه توفير أحذية لهم، وهم يقفون حفاة أمامه في إعلانات حقوق الإنسان/ جسدي لا يؤمن بالوطن، الذي يربي أهله أظافرهم وأنيابهم، تحت طوع مبرراته، لنهش أرواحنا وأجسادنا في الشوارع".
وتدافع الذات الشاعرة عن فكرة تحطيمها كل شيء تحبه "لأرمي الخوف من فقدانه بعيداً عني". وفي سردها قائمة الهزائم اليومية تظل لها أمنية وحيدة "أحتاج فقط أفراحاً صغيرة لا تلفت الانتباه". أما في ربكتها الدائمة بين الغياب والبقاء، التي توقظها على العالم كل يوم، فإنها تعترف "لدي قلب يريد الرحيل دوماً، وقلب آخر خائف خائف، يعود في كل مرة". وفي النهاية، فإنه النوم الطويل على الجرح، وإنها فجيعة انكسار الرقة "عزيزتي الفتاة القديمة في الداخل: لم أقصد كسرك، كنت فقط أكتب"، وإنه العدم القادم لا محالة، لأن "كل ما بيننا من حياة الآن في هدنة".