زارت يوم الجمعة الماضي رئيسة الوزراء الفرنسية إليزابيث بورن برلين، إذ اجتمعت مع المستشار الألماني أولاف شولتز على مدى ساعة وربع الساعة، قالت بعدها "نسعى إلى أن يكون الثنائي الفرنسي - الألماني محرك التوافق الأوروبي أكثر من أي وقت مضى".
وهذا التصريح يلمح إلى سلسلة العقبات التي تعيّن على الثنائي "محرك البناء الأوروبي"، اجتيازها في الفترة الأخيرة، فتباين وجهات الرأي والمواقف بين الجانبين طغى في مسائل حيوية، بدءاً من طريقة التعامل مع أزمة الطاقة والعلاقة مع الصين إلى الخيارات في المسائل الدفاعية والعسكرية، والأولوية التي توليها ألمانيا لعلاقتها في قضايا الدفاع والأمن مع الولايات المتحدة و"حلف الناتو".
ومنذ توقيع معاهدة الإليزيه بين الرئيس شارل ديغول وكونراد أديناور في الـ 22 من يناير (كانون الثاني) 1963، شهدت العلاقة بين البلدين مع كل فترة رئاسية دفعة حيوية جديدة، فهلموت كول وفرانسوا ميتران أعطياها دفعاً جديداً بإنشاء المجلس الألماني - الفرنسي وانعقاد قمتين سنويتين وإرساء التعاون في مجالات حيوية.
والمبادرة تكررت عام 2003 مع كل من الرئيس جاك شيراك والمستشار غيرارد شرودر وأنغيلا ميركل التي حافظت على ودية العلاقة خلال فترة حكمها الطويلة التي تعاقب خلالها ثلاثة رؤساء فرنسيين هم نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند وإيمانويل ماكرون.
المعاهدة التي وقعت بين العدوين السابقين ترسي قواعد تعاون ومشاورات في الميادين الحيوية من السياسة الخارجية والأمن والدفاع والثقافة إلى جانب تعيين منسقين للتعاون والثقافة.
وأضافت ألمانيا مقدمة على معاهدة الإليزيه تؤكد على أولوية العلاقة مع الولايات المتحدة وحلف الأطلسي، مما أثار امتعاض الرئيس شارل ديغول، باعتبار أن فرنسا كانت انسحبت من الحلف في تلك الفترة.
وبدت علامات التوتر منذ فترة تحت وقع الحرب في أوكرانيا وانعكاساتها على الصعد كافة، إذ تم تأجيل المجلس الوزاري بين البلدين بصورة مفاجئة قبل شهر، وزيارة رئيسة الوزراء في لقاء هو الأول بينها وبين المستشار الألماني أولاف شولتز، كانت مقررة خلال شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وتأجلت بسبب إصابة المستشار بكورونا، وبعدها تقرر أن تكون المقابلة عبر الشاشة لكنها ألغيت بشكل مفاجئ، وسرعان ما استدرك الطرفان الموقف فاستقبل الرئيس الفرنسي المستشار الألماني في باريس لكسر الجليد، وتوالت البعثات الوزارية بين البلدين، كما استقبل الرئيس الفرنسي أخيراً وزراء المالية والخارجية والمناخ.
والمفارقة أن التقارب الألماني - الفرنسي جاء بعد إعلان الولايات المتحدة خطتها بضخ 350 مليار دولار لمساعدة القطاع الصناعي على تجاوز انتقال الطاقة. والخطوة المماثلة التي اتخذتها ألمانيا بضخ 200 مليار في اقتصادها لمساعدة المؤسسات والأفراد على مواجهة أزمة الطاقة أثارت غضب بقية أعضاء الاتحاد الأوروبي، إذ اعتبرت الخطوة بأنها لمصلحة الشركات الألمانية.
علاقة الثنائي الألماني - الفرنسي عرفت في فترات مختلفة بعض الهبوط وفترات من الفراغ، لكن ذلك لا يعني أنها تمر بمأزق خطر.
استغناء ألمانيا عن الطاقة النووية كانت له عواقب وخيمة على ارتفاع الأسعار
الأخطار التي ستواجهها البلدان الأوروبية في التزود بالطاقة خلال الأشهر المقبلة تؤشر إلى احتمال لجوء ألمانيا إلى احتياطها من الغاز الطبيعي لإنتاج الكهرباء، وذلك سيؤدي إلى ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي، وقد يؤدي أيضاً إلى نقص في مصادر الطاقة للتدفئة كونها تعتمد بنسبة النصف على هذا المصدر، فما هي نقط الخلاف التي نجمت عن الأزمة الأوكرانية؟ وما الذي أعطى هذا الانطباع بابتعاد ألمانيا من أوروبا وهي التي ضخت الملايين إبان الأزمة التي عصفت بالعواصم الأوروبية لإنقاذها من الإفلاس تجاه اليونان والبرتغال وإسبانيا، كما كررت ذلك أثناء أزمة "كوفيد" عبر صندوق التكافل؟
ألمانيا التي استفاقت على ضربة موجعة لاقتصادها بسبب أزمة الطاقة كانت تعتمد في اقتصادها على الغاز الروسي بأسعار مخفضة، وهذا الاعتماد الكلي كشف عن قصر في الاستدراك والحذر، وتجسد في غياب كلي لمحطات التزود بالغاز المسال، في حين أن عدداً من الدول المجاورة استثمر في مثل هذه التجهيزات، أما في ما يتعلق باستيراد التيار الكهربائي فهي أيضاً تعتمد على الإنتاج الفرنسي، ولأن نصف المفاعلات النووية الفرنسية في حال توقف للصيانة فإن إنتاج فرنسا قد لا يكفي سوى للاستهلاك المحلي، ولن يمكنها تغطية حاجة المستوردين"، كما قال رئيس تحرير المجلة العسكرية السويسرية ومدير مركز دراسات التاريخ والاستدراك الكولونيل ألكسندر فوترافير.
وأشار إلى أن استغناء ألمانيا عن الطاقة النووية كانت له عواقب وخيمة على ارتفاع الأسعار، وفي الوقت الحالي فإن إحدى الأخطار التي تواجهها البلدان الأوروبية في التزود بالطاقة خلال الأشهر المقبلة، تكمن في احتمال لجوء ألمانيا إلى احتياطاتها من الغاز الطبيعي لإنتاج الكهرباء، وفي هذه الحال فإن ذلك سيؤدي إلى ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي ونقص مصادر الطاقة للتدفئة، كونها تعتمد بنسبة النصف على هذا المصدر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتبذل أوروبا ما بوسعها لمواجهة هذه الأزمة، وقد تضاعفت خطوات الربط الكهربائي لبناء السوق الأوروبية للكهرباء.
وصرح المستشار الألماني حول هذا الموضوع بالقول إن إنشاء السوق الأوروبية للكهرباء يكون عملياً في حال كانت الأسعار مرتفعة، في حين أوصت اللجنة الأوروبية بإعادة هيكلة القطاع بشكل طارئ لفصل سعر الكهرباء عن سعر الغاز.
خطاب المستشار الألماني وتخصيص ألمانيا 100 مليار لموازنة دفاعها، وهو ما يزيد على موازنة فرنسا، نقل ألمانيا من قوة اقتصادية إلى قوة عسكرية.
ألمانيا "العملاق الاقتصادي" أيضاً لم تعط أهمية لقوتها العسكرية متجاهلة الانتقادات التي كان يوجهها لها "حلف الناتو" الذي يؤمن مظلة حماية نووية.
ويرى أستاذ العلاقات الدولية برتران بادي أن "التموقع الألماني على خريطة اللعبة الدولية يختلف عن الخيارات الفرنسية، فبعد عام 1945 وبعد نزع سلاح ألمانيا كان يتعين عليها إيجاد حماية، كما أن وجودها على حدود الدول الواقعة في الاتحاد السوفياتي دفعها إلى خيار الأطلسي، وعندها استثمرت ألمانيا لتكون قوة اقتصادية متجاهلة الشق الدفاعي والعسكري".
ويفسر قائلاً إن "الظروف التي سادت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والانفراج بعد نهاية الحرب الباردة، أعقبا فترة هلموت كول - فرانسوا ميتران، واليوم ومع عودة التوتر فمن الطبيعي أن تتوجه ألمانيا إلى الولايات المتحدة أكثر منها إلى فرنسا، فالخيار الأطلسي ليس خياراً بالفطرة بل تفرضه الأوضاع والمعطيات في العلاقات الدولية."
وحيال التهديد الروسي اختارت ألمانيا في تجديد أسطولها بشراء 35 طائرة من طراز "أف-35"، قادرة على حمل رؤوس نووية من الولايات المتحدة، وكذلك في مجال الفضاء كان اختيارها الشركة الأميركية "سبايس أكس" على "أريان" الأوروبية، إضافة إلى 35 سفينة مراقبة P-8A" بوزيدون"، وهذا ضمن الإطار المسموح به من قبل "حلف الناتو" باحترام التزاماتها للتقاسم النووي والحصول على حماية سريعة، بانتظار بدء العمل بالمشروع الفرنسي - الألماني لطائرة المستقبل "سكاف"، وهذا من شأنه أن يترك أثاراً على المدى الطويل وأن يضع ألمانيا في ميدان الصناعات الأميركية، كما أورد تقرير "مؤسسة روبير شومان" الذي اعتبر أن التقارب الألماني - الأميركي خلق فرصة لألمانيا في خياراتها الجيو-ستراتيجية يمكن اعتباره فرصة بقدر ما هو تحد.
ولم يكن لدى ألمانيا أية طموحات عسكرية، وغالباً ما كان حلف الأطلسي يوجه لها اللوم بكونها لم تكن تخصص سوى 1.3 في المئة من ناتجها المحلي الخام للدفاع، معتمدة بذلك على الغطاء الدفاعي الأطلسي.
وبعد خطاب الـ 27 فبراير (شباط) 2022 أمام "بوندستاغ" وإعلان المستشار الألماني تخصيص مبلغ 100 مليار يور لدعم قوتها العسكرية، بدأت تظهر ألمانيا نقلة في الاستراتيجية السياسية من قوة اقتصادية من دون ثقل سياسي إلى قوة اقتصادية ذات إمكانات عسكرية، مما يجعل الجيش الألماني القوة الأفضل تجهيزاً في أوروبا.
وتكرار التأكيد على الأفضلية المطلقة للشراكة مع الولايات المتحدة أثار استياء باريس، بحسب دراسة أعدها "مركز روبير شومان" ونشرها مركز الدراسات الاستراتيجية.
وفي حين يرى ألكسندر فوترافير أن اختيار ألمانيا التزود بالمعدات الحربية من الولايات المتحدة "يعود لبروتوكول الاتفاق حول استخدام القنابل النووية (B61) التي تخزنها الولايات المتحدة على الأراضي الألمانية والإيطالية وهولندا، كما أن شراء طائرات قادرة على حمل هذه الأسلحة وتتميز بالسرعة الخاطفة هي حجج أساس للإبقاء على قدرة ردع عسكرية في الوضع العالمي المتوتر".
إن الدرع الجوي الأوروبي الذي يضم 14 دولة أوروبية و13 دولة من "الناتو" إضافة إلى فنلندا، اجتمعت في الـ 13 من أكتوبر (تشرين الأول) في بروكسل لم تنضم إليه فرنسا التي تعتبر أن قوتها النووية تشكل قوة رادعة.
ويرى المحلل المتخصص في الشأن الألماني من مؤسسة "جان جوريس" أرنست ستيتر أن "هدف هذه القبة الأوروبية هو تحسين المهارات الدفاعية بحسب الحاجات العسكرية ومقدرات كل دولة".
العلاقة مع الصين
الشركات الفرنسية المخصصة في الأنظمة الدفاعية تركت جانباً والأمثلة على ذلك عدة، فشركة "داسو" للطيران تجد صعوبة في التقدم مع "إيرباص" و"ADS" للدفاع والفضاء ومركزها ميونيخ، تجد صعوبة في المشاركة في طائرة المستقبل "سكاف"، وكذلك الأمر بالنسبة إلى "NEXTER S.A" وشركة "رين ميتال أ ج" RHEINMETALL AG في ما يتعلق بصناعة دبابة "أم جي أس" MGS (MAIN GROUND COMBAT SYSTEM) ، كما انسحبت ألمانيا من برنامج طائرة المراقبة "ماوس"، MAWS (MARITIME AIRBORNE WARFARE SYSTEM واختارت المعدات الأميركية "P_8A" (POSEIDON)، الى جانب انسحابها من مشروع المروحية القتالية " TIGRE MK3" التي ستصنع بمهارات فرنسية - إسبانية، بحسب مؤسسة "جان جوريس" التي تعتبر أن المشاريع الدفاعية غالباً ما تصطدم بعقبات سياسية.
والظروف الداخلية في كل دولة تحتم خياراتها، فألمانيا تحت وقع الحرب في أوكرانيا تجد نفسها بحاجة ماسة إلى الحماية، فيما ترى فرنسا أن ترسانتها النووية تشكل قوة رادعة لها.
أما في ما يتعلق بالعلاقة مع الصين فيشار إلى رد الفعل المستنكر للزيارة المباشرة التي قام بها المستشار الألماني إلى الصين فور إعلان فوز شي جينبينغ، ويقول برتران بادي إن "العلاقة مع الصين تشكل نقطة مهمة، فألمانيا بلد راهن بشكل فعال على العولمة ليكون أكثر انفتاحاً على تطوير استثماراته والتبادل التجاري، وألمانيا تواصل توافقها مع الصين والدليل على ذلك زيارة المستشار الألماني إلى بكين عقب إعادة انتخاب شي جينبينغ".
وهنا لا يمكن الكلام عن اعتماد على الصين، كما كانت الحال بالنسبة إلى اعتماد برلين على الغاز الروسي، لأن العلاقة مع الصين هي ارتباط متبادل، خصوصاً في قطاع السيارات الذي يعتمد على السوق الصينية.
ويبلغ حجم التبادل التجاري مع الصين 245 مليار يورو، وبحسب رئيس جمعية الصناعيين الألمان BDI""، "على الصناعة الألمانية وضع خطوط حمر حتى لا تدخل في نفق التبعية والابتزاز"، لا سيما وأن الصناعات الألمانية راهنت على الصين خلال العقدين الأخيرين، وهذه الاستراتيجية بالاعتماد الاقتصادي تشكل إخفاقاً مهماً من قبل مجالس الإدارة والمراقبة لا يمكن أن تستمر.